Friday 15th November,200211005العددالجمعة 10 ,رمضان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مهاجرة بلا أوراق مهاجرة بلا أوراق
شموع محمد الزويهري

شريفة..
أرعبها ما ينعكس أمامها من خلال المرآة فها هي تهم بالذهاب إلى المدرسة وما أن وقفت للاطمئنان على هندامها حتى أخافها ما ترى من تجاعيد عديدة تسربت عبر قسمات وجهها الشاحب. وترجع بها الذاكرة للوراء فتسير بين طرقاتها المتعجرفة وتمر من أمام صباها إلى طفولتها التي استوقفتها لتشرح لها مراحل الخطأ الذي تخلل حياتها البائسة منذ ذلك الحين. «شريفة» نشأت وسط أسرة بسيطة تتكون من الأب والأم وخمسة أشقاء ذكور لم يكن ترتيبها يحتل الأخير بل كانت أكبر القطاف فيها. وتمر الأيام والأب يخرج صباحاً ويعود مساءَ مهدود القوى لكنه راض عن حياته وهو يشعر بأنه أدى رسالته في الحياة على أكمل وجه. ويسير زورق هذه الأسرة على وتيرة واحدة.. يكبر الصغار وكل منهم يشق طريقه وحتى «شريفة» التي احتفل بها والدها بمناسبة تعيينها معلمة في إحدى المدارس صار لها عالم آخر من الأحلام الوردية.
ولكن.. بدأ الملل يتسرب إلى أحاسيسها ومشاعرها وهي ترى والدها يرفض من يتقدم لها واحدا تلو الآخر ويبسط حاجبيه في نهاية كل شهر ليستلم راتبها ويستجيب لكل مشاويرها البسيطة. حاولت أن تتكلم فلم تستطع.. وذات يوم فجعت برحيل والدتها الذي حول مشاعر والدها بعد ذلك إلى إنسان عصبي المزاج حاد الطباع قاسي التصرفات فبكت حتى روت وسائدها كدراً. وتمر الشهور تليها السنوات ولا جديد؟؟
واليوم..
اليوم هو زفاف آخر العنقود.. زفاف أخيها الأصغر وبذلك اكتمل العقد إلا من حبة واحدة بدأت جنباتها بالضمور.. ولا مستجيب فوالدها يصر على عدم زواجها وهو يتهالك في سريره بهزل أطبق عليه عندما كبر وضعف.
ويرحل الوالد بعد صراع مرير مع المرض..
ويستلم الأخ الأكبر لها مهمته بعدما باع المنزل ووزع نصيب كل واحد منهم وضمها إلى أولاده دون إعطائها حقها الشرعي الذي ادعى أنه مقابل عيشها معهم..؟؟!!.
وتفاجأ «شريفة» بنفس الموال ولكن هذه المرة من أخيها «سعيد» وتحبط.. وهي تعود عند أذان الظهر مرهقة محطمة بائسة لتستلم مهمة إعداد الغداء له ولزوجته الموظفة ولأطفاله وتدخل غرفتها منهارة المشاعر تائهة النظرات.. كان يطرق الباب عليها ليصطحبها إلى أقرب صراف فيسحب رصيد راتبها كل شهر. لم يخف على «أم سلطان» ما كان يجري لها من عذابات فقامت بمهمتها على عجل..!!
اقتربت منها.. حدثتها.. تلمست عمق المعاناة التي تعيشها.. علمت منها بأنها قاربت الثالثة والأربعين دون أمل.. دون هدف.. تسير وهي تتلفت.. تلهث.. ترعبها أصوات خطواتها فتقف.. تنزوي بصمت!!. انبلج الصباح وبدأت رائحة الشتاء تحمل نفحات عطره و«شريفة» تتقلب في فراشها وما زالت بقايا الحلم تسكن بين أهدابها الممتلئة بالدموع..
فقبل قليل كانت تحتضن والدتها وهي تبشرها خيراً!! قامت على عجل لتفرك أجفانها برقة خوفا من تلاشي الحلم الجميل..
اغتسلت ولبست وأعدت الإفطار للجميع وخرجت إلى مدرستها!..
قابلتها «الخالة» وهي تبشرها خيراً وتهمس بأذنها أنه بالخمسين.. توفيت زوجته منذ عشر سنين ورحل أولاده وجحدوه فعاش يعاني الوحدة ونكران الجميل وهو يريدك.. يطلب رفقتك بما تبقى لكما من سنين!!
لاحت عبر قسمات محياها خطوط الفرح فبدت وكأنها ابنة العشرين ولكن لم تلبث تلك الإشراقة أن اختفت فقد تراءت لها صورة «سعيد» ورفضه المعتاد، فعادت إلى الواقع المرير وهي أنها مجرد أداة للخدمة وجلب المال دون مراعاة لآدميتها المسلوبة!!؟
ولكن «أم سلطان» تنبهت إلى «عمة» لها لم تنجب وهي كبيرة بالسن و«شريفة» من خلال خدماتها للجميع فرض عليها الذهاب لها نهاية كل أسبوع وإعداد منزلها وتلبية خدماتها إلا أن تلك العمة تختلف عن أخيها كثيراً وأولاده فهي تتحرق شوقاً لرؤية ابنة أخيها موفقة لكنها لا تستطيع عمل شيء فقد هد قواها المرض وتخشى جبروت «سعيد» ومنعه شقيقته من الذهاب إليها. لم يكن يشاطرها همومها مع عمتها غير «أحمد» الأخ الأوسط لها وهنا أمسكت الخيط تلك «الخاطبة» حيث رتبت لها خطة هروبها من ذلك المعتقل.
لم تنس «شريفة» ابنه أخيها «خلود» تلك النسمة الرقيقة وهي تدخل فرحة مبشرة بنجاحها بتفوق ووالدها يمسك بالجريدة ويبارك لها ويسألها إلى أي كلية ترغبين الالتحاق بها؟!!.
لكن «خلود» وقفت فجأة بخوف وهي تقول لوالدها أنا سأكتفي بهذا القدر من العلم والتحق بدور التحفيظ فما فائدة إكمال دراستي وبعدها أكون بمثل ما هي عليه الآن عمتي «شريفة».
كانت كلمات «خلود» كالصاعقة على رأس والدها وهو يوزع نظراته بينها وبين شقيقته المظلومة «شريفة» التي ذهبت إلى غرفتها على عجل خوفاً من انفجار الموقف.
واليوم ها هي «أم سلطان» تعرض عليها فرصة ما تبقى لها من عمر فهي تمسك بمؤخرة القطار وهو يسير بسرعة رهيبة. اتفقت معها..
اليوم يختلف عن غيره اتصلي «بعمتك» اعلميها بالأمر. اتفقي مع أخيك «أحمد». عند عودتك إلى المنزل كعادتك أعدي الغداء وهيئي المنزل. وفوراً إلى غرفتك أعدي حقيبتك.. أحمد سيكون بانتظارك للذهاب إلى منزل عمتك، فقد اتفقنا معها على أنها طلبتك لأنها مريضة..! عملت ما قالته لها «الخالة» وتم ذهابها إلى عمتها وتهيأت على أكمل وجه وحضر عريسها وأخوها وكتب كتابها وسط تضاربات من الفرح الممزوج بالقلق والخوف مما يمكن أن يكون. اصطدمت قسمات كل واحد منهما بالآخر فقرأت العيون ما تحمله الأخرى من الألم وكأنهما كتاب مفتوح عاهدا بعضهما على إسعاد الآخر بما تبقى لهما من عمر.. أما «سعيد» فقد افاق على الحقيقة التي قصمت ظهره فأطاحت به أرضاً وهو يرى شقيقته تهرب منه وتجتنب عالمه القاسي في وقت كان من المفروض منه أن يكون سندها في الحياة ويعوضها عما لاقته من إجحاف في حقها وطعن لكرامتها كإنسانة لها مشاعر وأحاسيس.. بقي شيء رحل بها إلى عالم السعادة.
اليوم..
وبعد خمسة أشهر من زواجها كان هناك بذرة تتحرك في أحشائها..

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved