السباق الذي يشهده العالم المعاصر بما يحمله من متغيرات مضطردة لا يدع مجالاً لأي مجتمع بشري بالوقوف والتأني عند مسارات محدودة أو التعامل مع مستجدات الحياة ونواميسها عند مفاهيم ورؤى عفى عليها الزمن وتجاوزتها حركة التاريخ وضرورات التطور. والأمم الحية هي تلك التي تحسن استثمار الوقت وتواكب بفعالية كل التطورات التقنية والعلمية والثقافية والإبداعية تأثيراً فيها وتأثراً بها من خلال تصورات وبرامج وخطط محكمة تقود بالتالي إلى الأهداف والغايات المنشودة.
ويدرك المتتبع لنظام وفلسفة التعليم في الوطن العربي مدى الصعوبات التي تعترض الأعداد الهائلة من الخريجين سنوياً من التعليم العام «الثانوية العامة» من مختلف الدول العربية والذين تؤهلهم قدراتهم من الاستفادة من التعليم العالي لمواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية والإسهام الفعلي في مسيرة التطور التقني والمعلوماتي أسوة بالمجتمعات البشرية الأخرى بيد أن فرص التعليم العالي لا تتوفر لهم لأسباب يصعب قصرها وتبريرها. ومع أن التعليم العالي «في الوطن العربي» ذو مساحة عريضة لتعدد الجامعات والمعاهد العليا بيد أنه لا يزال غير متناسق مع حاجات التنمية الشاملة وغير قادر على مواجهة معركة الإنتاج والإبداع وتحدي ظروف الحياة المعاصرة والمتغيرات الفجائية تقنياً واقتصادياً والاستجابة لهموم الأمة التي تعد المنبع والمصب للتنمية والتطور حاضراً ومستقبلاً. إن هذه الصعوبات القاسية معوقات في وجه التقدم الشامل الذي ينشده الوطن العربية وتضر بكفاءة مؤسساته وتوافر القوى البشرية المتخصصة والاحتفاظ بالعناصر الخلاقة ناهيك عن إصرار الجامعات العربية على تخريج دفعات هائلة لا تلبي الأوليات والحاجات الملحة للأمة فأصبح التركيز على الجانب الكمي على حساب الجانب النوعي والإنتاجي. وقد أدت هذه السياسات التعليمية السالبة إلى تنامي مشكلات البطالة والأمية العلمية والثقافية والإبداعية إضافة إلى تكاثر هجرة العقول العربية الخلاقة إلى أوروبا والولايات المتحدة لعدم توفر الأجواء والظروف الملائمة في الوطن العربي التي تساعدهم على التكيف واستمرارية العطاء. هذه المعوقات وسواها التي يصعب سردها حَدَتْ بصاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز بتبني الدعوة إلى إنشاء جامعة عربية مفتوحة وهي دعوة تستند إلى رؤية واعية وتقويم مدروس لواقع التعليم العالي بالوطن العربي وما يعانيه من رتابة والبعد عن المسارات المتناغمة مع سباق الزمن وتقدم العصر وتنطلق تلك الإدارة المتينة لسموه من خلال مخزون ثقافي وفكري وخبرات متراكمة يحظى بها سموه مليئة بالدراسة والنزعة التحليلية للواقع بعمق وبصيرة وحس وطني وقومي وإسلامي وبعد إنساني واع يقول سموه الكريم وهو يطرح تساؤلا ذا دلالة عميقة لإيضاح الفكرة وتجليتها بمعايير علمية دقيقة: هل نظامنا التعليمي الساري في البلاد العربية نظام صالح ومتقدم وديمقراطي يساعد أمتنا على دخول القرن الحادي والعشرين بعقول متفتحة وعلم غزير وشباب متعلم ومثقف؟» إذا كانت الإجابة بنعم والقول لسموه فنحن بلا جدال نخدع أنفسنا ونتعامى عن الواقع الراهن لقطاعنا التعليمي ونصبح تماماً كالنعامة التي تدفن رأسها بالرمال. إذا كانت الإجابة بلا فإن السؤال المترتب على ذلك هو: ما العمل؟ كيف نحدث نهضة تعليمية تثقيفية تربوية في بلادنا تسمح بالتواصل مع ثورة العلم والتكنولوجيا التي تجتاح العالم؟ وفي هذا الإطار فإننا نلحظ بأسى أن استجابة وطننا العربي للتحولات الكبرى التي شهدها العالم في قطاع حيوي كقطاع التعليم العالي لم تكن متوافقة مع أهمية هذا القطاع ولم تقترب من مستويات الاستجابة التي أحدثت تغييراً ملموساً في قطاعات أخرى غير معنية مباشرة بالتنمية البشرية الشاملة والمستديمة وربما يكون هذا بالتحديد أحد أبرز الدوافع لإطلاقنا في الفترة الأخيرة مباشرة إنشاء جامعة عربية مفتوحة تلبي ليس فقط احتياجات المجتمع العربي لنظام تعليمي متقدم ولكن تهيئ المجتمع أيضا لاستباق التغيرات الكاسحة التي بدأت تعمل في العالم كله مباشرة بحلول قرن جديد قوامه العلم المتقدم والتعليم المكثف والتكنولوجيا فائقة القدرة».
ويبرز في ثنايا هذا الطرح من لدن سموه مجمل الغايات والأهداف والدوافع التي أسهمت بدعم وتبني سمو الأمير طلال بن عبدالعزيز إنشاء جامعة عربية مفتوحة تراعي حاجات الوطن العربي واهتماماته وتقدم حلولا لمشكلاته وتتيح فرصاً ذهبية لطلاب العلم والمعرفة دون عوائق أو عقبات إضافة إلى ما يتبع ذلك من دورات تدريبية وإعداد مدروس للخريجين حتى يتجاوزوا أسلوب الرتابة في التحصيل الذي يركز على الوسائل دون الاهتمام بالغايات.
إن قيام الجامعة العربية المفتوحة تحمل الاسم الذي يتناسب وأغراضها وتحتوي على الأقسام والمراكز التي تلامس متطلبات المجتمع العربي وضرورات تفوقه وتعمق إيمانه بقيمه وإرثه الحضاري ورسالته السامية بمنأى عن جدلية التعصب وهلامية التفكير وسطحية التناول.
ولعل من المناسب إيضاح بعض من سمات التعليم المفتوح ووظائفه من خلال آراء ودراسات أكاديمية متخصصة أسهم بها خبراء في التربية والعلوم والثقافة ومتخصصون في تكنولوجيا المعلوماتية نلخصها بالآتي:
أولا: تلبية حاجات الوطن العربي من المؤهلين في مستويات التخصص المتنوعة.
ثانيا: البحث العلمي فيما يتصل بالوطن العربي ومشكلاته وقضاياه.
ثالثا: نشر وسائل المعرفة المتصلة بميادين التخصص المتنوعة من مستوياتها المختلفة والمعلومات التثقيفية والوظيفية التي تساعد على دعم المواطنة والقدرة على المشاركة في التنمية.
رابعا: توفير الفرص التي تخدم التعليم المستمر وتسهم في تلبية الحاجات الشخصية والاجتماعية في مجالات المعرفة والتدريب في الوطن العربي.
خامسا: توفير المناخات اللازمة لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها الجامعات العربية وبخاصة منها ما لا تستطيع هذه الجامعات بلوغه بسبب ظروفها وإمكاناتها وأنظمتها.
سادسا: تيسير قبول الطلاب دون التقيد بشروط الشهادة أو العمر أو الجنس أو أي قيد آخر بالنسبة للمواطن العربي حين تكون لديه القدرة على متابعة الدراسة.
سابعا: تذليل العقبات أمام الطالب للحصول على التفاعل اللازم مع الخبرة العلمية والإرشاد اللازم لحسن سيرهم في عملية التعليم.
ثامنا: توفير الأجواء اللازمة لتبادل الخبرات مع مواطني الوطن العربي من طلاب التخصصات المختلفة والتدريب الذي تتيحه الجامعات العربية المفتوحة.
تاسعا: إعداد القيادات اللازمة في مشاريع محو الأمية وتعليم الكبار.
عاشرا: إمكانية التعليم المستمر لمواطنين تجاوزوا مستوى الأمية الأبجدية.
حادي عشر: تبني دعم فرص التعليم المستمر للمرأة العربية بما فيها فرص التدريب والتخصص.
ثاني عشر: تشجيع التعليم المستمر للمحرومين منه ولمن يعوقه عنه عائق اجتماعي أو مادي أو جسدي، أو تؤخره عنه ظروف عمله أو مركز إقامته.
ثالث عشر: توفير فرص الدراسة لمن يسعى وراء إغناء تخصصه أو معارفه العلمية العامة أو يملك الطموح نحو تخصص جديد أو تدريب لاحق يلزمه لتحسين إسهامه في الإنتاج.
رابع عشر: تكثيف الدراسة والتدريب التي لا تنتهي بالضرورة إلى شهادة جامعية.
ويرى سمو الأمير طلال بن عبدالعزيز أن جاذبية فكرة إنشاء جامعة عربية مفتوحة وتشجيع الكثيرين لها، تواجه عقبات عديدة تقف دوماً في طريق الجديد والجريء، لكنها عقبات ينبغي ألا تعوق أصحاب الرؤى الحرة والإرادة الصلبة، والمبادرات الشجاعة عن التعرض لها والمجازفة بمواجهتها، وبدون هذه المواجهة لا يحسم أمر ولا تتحقق نتيجة، ولا تسع أمة في غد أفضل أكثر علماً وثقافة، وأرحب حرية وإبداعاً. واعتماد الواقعية منهاجاً وأسلوباً للتفكير والعمل يحتم التعاطي مع الأمور بكل ما تحتويه من إيجابيات وسلبيات، وفي هذا الإطار، تدرك تماماً أن المبادرة بالدعوة لإنشاء جامعة عربية مفتوحة وحرة تعني في المحصلة النهائية إثراء جديداً لمناهج التعليم وأساليب التفكير وطرق الإدارة. التعليم المفتوح أو التعليم «عن بعد» يتجاوز أوعية التلقي والتعليم التقليدي الذي يكتنفه الجمود والسطحية ولا يراعي عناصر الانسجام مع الضرورات الحيوية بل يكتفي بالشكليات الهزلية ويتستر خلف أنظمة وأطروحات عفى عليها الزمن ولم تراع الفروق الفردية والمستويات الثقافية والاجتماعية والعوامل النفسية التي تؤدي إلى تدني مستويات التحصيل العلمي وتتناولها بالدراسة والتقويم وتقديم الحلول الملائمة لها بل ينصب جل اهتمامها بصياغة أنظمة وشروط. إن حياة الأمم تقاس بمدى حسن استثمارها للأوقات الممنوحة فيكون للثانية الواحدة قيمة كبيرة تعادل في حساب الأمم التي فارقت موكب التقدم أياماً بل أشهراً ولما كان التطور لا يعرف شيئا اسمه الثبات على واقع الحال كان لزاماً التناغم الجدي مع نظم الاستثمار المجدية لطاقات وقدرات ومواهب كل فرد من أبناء أمتنا لتصل إلى الأم في منزلها وللطفل قبل سن المدرسة والعامل في مصنعه فكانت جامعات «اللاجدار» وجامعات «اللاحدود» وجامعات «وسائل الاتصال الرزينة» وجامعة عربية مفتوحة عبر الشبكة الفضائية العربية.
وبعد: ان الإدارات القوية والهمم العالمية التى ترى المسؤولية انتماء وحباً ومبادرات حية تصنع المعجزات وتحقق الكثير من المكاسب ويؤطرها التاريخ بنسمات عطرة وذكرى حميدة.
|