|
| ||||
سعدية مفرح وأشجان الهندي صوتان شعريان بارزان في الجزيرة العربية، ومن الأصوات الشعرية النسائية المهمة على مستوى العالم العربي. وحين أقول «النسائية» فإنني لا أرمي إلى تحجيم حضور الشاعرتين ضمن دائرة الأنوثة، وإنما لألفت النظر إلى أهمية بعض الهموم التي تعبران عنها من زاوية كونهما شاعرتين وعلى نحو لا يتوقع أن نجده لدى الشعراء. وإلا فالشاعرتان فيما أعرف من الشعر العربي الحديث، سواء صدر عن المرأة أوالرجل، اسهام لافت على خارطة الشعر العربي الحديث على النحو الذي يتضح من تأمل بعض الظواهر التي تطالع القارئ لشعرهما، سواء على مستوى التقنية الشعرية أو مستوى القضايا التي تشغلهما. ولقد رأيت أن أتناول فيما يلي ظاهرتين من الظواهر المشار إليها، تتعلق إحداهما بتقنية القصائد والثانية بالقضايا التي تطرحها، وهما مسألتان متداخلتان إلى الحد الذي يجعل الفصل بينهما ممكناً فقط على مستوى التحليل.
والبيت، مثلما الأبيات الأخرى المقتبسة في قصيدة سعدية، بل مثلما كثير من الشعر النبطي والثقافة الشفاهية عموماً، رويت بأشكال مختلفة، وما اقتبسته الشاعرة قد يكون هو الشكل الأكثر شيوعاً وإن لم يكن بالضرورة هو الأصح. وبتقرير هذا فإننا نقرر مسألة ذات مغزى، هي أن الشاعرة معنية بالمخيلة الشعبية أكثر مما هي معنية بالشعر بحد ذاته، أي بالرواية الصحيحة. فهي من خلال الأبيات تستند إلى تلك المخيلة الشعبية تقيم معها حواراً من خلال مدلولات الأبيات المقتبسة وعلى النحو الذي يمكن أن يثري النص الحديث. أبيات راكان بن حثلين جزء من سياق بدوي ينتشر في أجواء القصيدة من خلال عدد من المفردات والصور، بالاضافة إلى الأبيات، ليشكل حضوراً نصياً مهماً أو أساسياً في تشكيل دلالات القصيدة وجمالياتها:
في قافلة الصمت ثمة أجواء بدوية واضحة هنا من خلال عناصر الحياة في الصحراء: أعمدة البيت والذلول والخرج والركائب والقافلة، الخ. وفي هذه الأجواء تأتي رغبة الشاعرة في التوقف عن الكلام تفضيلاً للصمت مع الحبيب الذي يشاركها الرغبة في التخلص من الصوت والكلام. أما الهاجس وراء ذلك فهو الشعور بأن الحوار الصامت أجمل وأبلغ من كل الكلام الذي يمكن أن يقال، فالحوار «أرقى من أن يسكن في الكلمات» . هذا بالاضافة إلى رغبة ملحة لدى الشاعرة في الثورة على المؤسسة اللغوية المتمثلة بالقواعد الموروثة في النحو وما يتصل به من لغة فصيحة. ذلك أن الخروج على تلك المؤسسة يعني أننا «لا نلحن أبداً/ لا نخشى غضب النحويين الحمقى/ المشغولين برفع الفاعل..» بين العاشقين تتغير المعادلة ليصير «الحب هو الفاعل» ويصير «القلب هو المفعول». غير أن الحاجة إلى الصمت واللجوء إلى الحب كملجأ من القيم السلطوية للمؤسسة الاجتماعية «القبيلة والثقافة الشعبية» واللغوية «تراث الفصحى» تتلاشى بمجرد انبعاث الصوت الشعري الجميل القادم من قصيدة راكان البدوية: «يا ماحلا الفنجال مع سيحة البال/ في مجلس ما فيه نفس ثقيلة»، لا سيما البيت الذي يصف الهوى بأنه طير خبيث:
لينتهي ذلك كله بمواجهة الشاعرة لنفسها واعترافها بأنها تحمل قلباً لا يستطيع التمرد طويلاً على البيت الموزون بما يمثل من ثقافة تقليدية هي من صلب تكوينها: «وأنا عش جسدي/ لحباري سكنتني منذ سنين/ ولقلب القلب المشطور/ ببيت موزون». هذه المفارقة الأخيرة، انشطار القلب ببيت موزون، تمثل تصعيداً درامياً تختتم به الشاعرة تصويرها لاشكالية معاصرة تعيشها بوصفها مشدودة الى ثقافتين متباينتين، ثقافة مدنية حداثية المنزع تتمثل في شكل القصيدة التفعيلي نفسه، وأخرى بدوية صحراوية تتسلل عبر ذاكرة الشاعرة ووجدانها من خلال أبيات راكان بن حثلين. وسيتبين من خلال المقارنة القادمة بعد قليل بين هذا النموذج الذي تطرحه سعدية مفرح والآخر لدى أشجان الهندي أن سعدية، على عكس أشجان، تفضل ابقاء الأبيات المقتبسة خارج اطار التناغم مع نصها الشعري، بمعنى أن ما تقتبسه يظل مختلفاً تتقاطع معه القصيدة الحديثة لكنها لا تحتويه. فالإيقاع مختلف بين النصين، لكن استثمار الدلالة يبقى في تأكيد القصيدة التقليدية على قوة المشاعر وانصياع الشاعرة لتلك القوة. التقنية نفسها تتكرر وإن على مستوى أكثر تركيباً في قصيدة متأخرة نسبياً للشاعرة ضمن ديوانها كتاب الآثام 1997 ففي قصيدة «إثم الكلام» تطرح اشكالية البوح مرة أخرى وتتخذ الشاعرة مواقف متباينة من «ارتكاب» ذلك الإثم، ففي البدء يتضح أن ضرورة البوح مع ما قد يجره من مشكلات أو آثام يقف خلف كل الأشياء الجميلة في حياتنا: ما الذي يمنح الحب أوقاته أزرقه المتموج رعشته في اليدين ... ما الذي يمزج للشمس ألوانها ثم يمشي الهويني يهودج أحلامها ... ما الذي يصطفيني امرءاً مدنفاً بالكلام غير إثم الكلام؟ يتلو ذلك وجه آخر يبرز فيه الكلام وقد اتخذ الصورة المغايرة تماماً، أي حيث يصير إثماً بالمعنى الحرفي، لا المجازي أو المفارقة كما في الوجه الأول. ما الذي يدفع الروح نحو الهلاك يسمل عين الحقيقة ... ما الذي يسلب الليل ملمسة المخملي السخي ... ما الذي يصطفيني امرءاً مختنقاً بالكلام غير إثم الكلام؟ إثم الكلام ناتج من الأوضاع الإنسانية المهينة التي يعيشها العرب وتعيشها الشاعرة معهم على المستويات السياسية والحضارية، فعلى هذه المستويات جميعاً يكثر الكلام ولكن دون جدوى: «تعبنا إذن/ وما تعب الكلام/ نفدت مياه الامتهان/ وما نفدنا». وبطبيعة الحال فإن امتهان الكلام بتحوله إلى مجرد ضجيج يحمل معه سقوطاً للأدب نفسه ومنه الشعر الذي يستثار هنا في شخص رمزه الكبير، شاعر العروبة أبو الطيب المتنبي، حين تنشئ الشاعرة أبياتاً موزونة مقفاة تعارض بها عدداً من القصائد التراثية أبرزها قصيدة معروفة للمتنبي، لتوظفها في حقل دلالي جديد:
لتتبع ذلك مباشرة، وعلى نحو يصل النص العمودي بالتفعيلي ويسهل الانتقال: «وفوائد / وفوائد/ وفوائد». وما من شك أن كسر التقليد الشعري المألوف بتكرار مفردة «فوائد» مثلما هو الحال في البيت السابق «لأني ولأنني»، من شأنه ان يعمق التمرد على ما يمكن أن نسميه مؤسسة التراث الشعري التي قد ترى في التكرار الشعري ضعفاً، إلى جانب الرسالة السياسية التي يحملها بتأكيد اللعبة السياسية التي كثيراً ما تتم بعيداً عن المصالح الوطنية. الملاحظ، كما أشرت قبل قليل، أن النص لا يستعيد المتنبي وحده وإنما إلى جانبه نصوصاً لشعراء آخرين من خلال أبيات متفرقة تسير على الوزن والقافية نفسيهما، والمهم في كل تلك الحالات هو استنطاق الموروث لكي يعبر عن اشكالية الشاعر المعاصر وهو يواجه انهيار قيمة التعبير نفسه، أي انحدار قيمة الأدب، وأي انحدار أكبر من ضياع القصيد! لكن النفي الشخصي للشعراء والمثقفين مصيبة أخرى كبيرة تضاف إلى الانحدار الثقافي وتلاعب السياسة. أيضاً مما يستوقف القارئ اختلاف أسلوب الاستعادة، أو ما أسميته بالتضفير النصي، في هذه القصيدة عنه عما قبلها، وكذلك عما نجده لدى أشجان الهندي، كما سنرى. فبدلاً من توزيع الأبيات على النص أو نثر عدد من المفردات، تعمد الشاعرة هنا إلى ادخال نص شعري مغاير لبنية القصيدة ككل في كونه موزوناً مقفى. كما أن النص، وهذا هو الأبرز، ليس مقتبساً من شاعر آخر، وانما هو نص يحاكي ما سبقه من خلال التشابه البنائي من ناحية، وبعض التشابه في المفردات من ناحية أخرى، مما يذكرنا وباستمرار بأن ثمة نصاً في خلفية الصورة لا نلحظه في مقدمتها، كما هو «النيجاتيف» المعروف. * ألقيت هذه الورقة ضمن فعاليات الملتقى الشعري السادس لدول مجلس التعاون في الرياض 22- 24 شعبان 1423هـ. |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |