Thursday 7th November,200210997العددالخميس 2 ,رمضان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

لا تعجبوا.. فهذا الرجل قد وجد سوقاً خالية! لا تعجبوا.. فهذا الرجل قد وجد سوقاً خالية!
د. عبد الله الفيفي

لا تندهش حينما يجد هذا الفراغ من يملؤه ضجيجاً، ولو كان بصحفي كعبدالله السمطي! لقد سلك منذ سنوات درباً لاحباً من الكتابات التي ظاهرها نقد الأدب السعودي. لا تندهش إذن حينما تجد الجرأة فيه على الشعر، والنقد، والكتابة، والصحافة في آن واحد، فالرجل إن شاء نشر شعراً كسيراً، وإن شاء راجع كتباً، وإن شاء نقد، وإن شاء كان صحفياً ثقافياً.. يمدح هذا تارة ويقدح ذلك أخرى، لن يسأله أحد عن ممارسته شيئاً من هذا ولا عن تأهيله.
لن أستشهد هنا بمقولة أستاذنا الدكتور منصور الحازمي حول «ناقد الشنطة»، فأنا أكره النظرة الاقليمية، وأربأ بالمسألة الثقافية عنها. ولا ريب أن هنالك من الأسماء النابهة الجادة الأمينة التي قدمت للمشهد الثقافي السعودي ما لم يقدمه غيرها! ولعل خير نموذج على ذلك، جهود الدكتور محمد صالح الشنطي. هذا الرجل المجتهد الفاضل علماً وخلقاً، الذي بوسعك أن تضعه في مقابل آخرين ممن عناهم الحازمي، لتلمس الفارق جليّاً. لكن مقولة الدكتور الحازمي ستظل تثبت مع الأيام صحتها وصدقها، حتى بحق بعض النقاد السعوديين أنفسهم. غير أن ما تثبته أكثر من أي شيء آخر هو تقصير البيئة السعودية ذاتها في شأنها الثقافي، كتابة ونقداً، وتركه نهباً لكل من هب ودب!
يقول السمطي لا فض فوه «الجزيرة، الأحد 24 شعبان، 1419ه» وقد أعيى عليه فهم كلمة من البيت التالي:


ربما أحياك تصهال الظُّبَى
ولقد يفنيك تسبيح الغمامْ!

«هل (الظبى) تصهل أم الخيول؟ وهل استعارة الشيء لشيء آخر مجانس ومقارب يحقق استعارة قوية دالة معبرة عن المعنى مثل استعارة التصهال للظبي»، ثم أخذ يعرّف القارئ الجاهل بمعنى «الظبي» كيف لا وهو الناقد العارف بأسرار اللغة والبلاغة فقال، أيضاً لا فض فوه: «أحد الحيوانات (الأليفة) من صوت الفرس وهو من الحيوانات الأليفة أيضاً»!
وركاكة العبارة لا تحتاج إلى تعليق، لكن الشاهد أن الرجل فهم «الظبي» في البيت على أنها «الظباء»، ثم مضى يتحدث عن الحيوانات الأليفة!
أي حيوانات أليفة.. وأي استعارة لمجانس.. وأي شأن لمثل هذا بالشعر أو بالنقد أو حتى باللغة أساسا؟!
إن مشكلة السمطي مع هذه الكلمة الصغيرة «الظُّبى» تشخّص لنا خواء لا يجبره أن يتأبط «بدوي طبانة» ومعجمه للبلاغة العربية، أو أن يرشّ كعادته الأسماء هنا وهناك في مداخل كتاباته ونهاياتها. مشكلته ها هنا مركّبة، تنم على بضاعته المزجاة التي شرع منذ سنين يروجها على عباد الله. وهي بضاعة لا تقتصر على الجهل بمفردات لغة العرب ودلالاتها، ولكنها تتعلق كذلك بالجهل بالصرف والنحو والإملاء! ذلك أنه في الوقت الذي يعتقد فيه أن «الظُّبى» في البيت تعني حيواناً أليفاً هو «الظباء» ولا تسأل كيف صارت الظباء بدورها عنده أليفه؟ يعتقد اعتقاداً آخر هو أن «الظبي» مفرد ظباء، حيوانه الأليف نفسه - يُجمع في اللغة العربية على «ظُبَى». ثم يعتقد اعتقاداً ثالثاً أن هذا الجمع «ظباء» يكتب إملاءً بالألف المقصورة. أي أنه أولاً لا يعرف معنى «ظُبَى» (ظاء مضمومة فباء مفتوحة فألف مقصورة)، وثانياً أنه يظن ظبي «الحيوان المعروف» تجمع على «ظُبَى»، ثم إن الجمع «ظباء» تكتب إملاء هكذا: «ظبى». يا سلام.. الله ينور عليك يا أيها البلاغي والناقد الكبير!
وهكذا تراه يجمع في فهم كلمة واحدة بين التخليط اللغوي والصرفي والنحوي والإملائي. كلمة واحدة تأخذ بتلابيبه لتدين فهمه ومعرفته في مختلف مستويات اللغة والكتابة الأولية. لكن هذا غير مهم عنده ما دام قد أحضر إليك معجم البلاغة العربية، وأقام من العلاقات بين مفردات اللغة ما يتوصل إليه فهمه إن في عالم اللغة أو في عالم الحيوان، الأليف منه وغير الأليف فسيؤهله هذا ليتحدث عن براعة الاستهلال والختام، ووفق مقاييس معجم طبانة، الذي اختصر عليه مسافات التراث والبلاغة العربية كلها. أمّا الحداثة وأدوات النقد الحديث فهي في جيبه منذ أمس، إن شاء قال شعراً أو شاء نقداً! وسينثر الأسماء بمناسبة وبغير مناسبة ويستعرض عليك ها هنا وفي غمضة عين إشاراته إلى الشعر القديم، والغزل العذري، والعباسي، والشعر الأندلسي، حتى يصل إلى أرشيبلد مالكيش، ومن هناك سيتوصل إلى ضرورات التجاوز لقوالب الشعر القديم واستعاراته. كل هذا العلم والثقافة، مع أنه لم يمرّ به في محفوظاته الكثيرية التي يرتكز عليها في تمييزة بين التقليد والتجديد ولا في عوالمه الثقافية، تراثية وحديثة، عربية وغير عربية، فارق بين كلمة «الظباء» و «الظبي». ذلك أن معلوماته باللغة التي يدعي الانتماء إليها والإبداع فيها لا يتجاوز به أبواب حديقة الحيوان قسم الظباء. أمّا الظُّبَى» جمع «ظُبَة»، وهي حد السيف فلم تسمعها أذناه قط. لم يمر به مثلاً قول علي كرم الله وجهه: «نافحو بالظُّبَى»، ولا قول المتنبي:


وهل تغني الرسائل في عدو
إذا لم يكنّ ظُبَى رقاقا

ولا قول أبي فراس:


وحمر سيوف لا تجف لها ظُبَى
بأيدي رجال لا يحط لها لبدُ

ولا قول أبي تمام:


أمانياً سلبتهم نجح هاجسها
ظُبَى السيوف وأطراف القنا السلبِ

ولا حتى قول عرقلة الكليبي:


وهل تبرى الجوارح من جراحٍ
أصابتها ظُبَى حدق الظباءِ

ولا.. ولا.. كل هذا وغيره قديماً وحديثاً ما مر بخلده!
بالله ماذا يقال لمثل هذا؟! وأي أرضية لغوية أو أدبية تجمعك به لتتخاطب معه! وأي أهلية جاء بها لتسوغ لدينا قبول تعاطيه مع الشأن الشعري والنقدي والثقافي؟!
وحين تنتقل من هذا إلى ما يكتبه حول النصوص الشعرية، ستقف على كلام ينقض بعضه بعضاً، سيقول لك مثلاً «نجد أن براعة الاستهلال تتحقق في هذا البيت»، ثم بعد أسطر سيقول :«هنا تنتفي براعة الاستهلال»! والسبب في هذا أنه لا يتجاوز بوعيه جزئيات المفردات اللغوية، التي إذا فصلت عن سياقاتها من كامل النص، صار بالإمكان أن تُتخذ ذريعة لإلقاء حكم ونقيضه. مثلما أنه لا يأخذ من كلام البلاغيين إلا جزئيات، ينقلها نقلاً في كتاباته، دون فهم، مما يؤدي به إلى توهمها متحققة تارة ومنتفية تارة. والأغرب من هذا أنه لا ينطلق من النص ليملي عليه منهج قراءته، بل ينطلق من المقولة الجاهزة المسبقة في معجم البلاغة العربية لبدوي طبانة لقراءة النصوص، فهو يسقط مقتبساته من المعجم ليبحث عن شواهدها في الشعر الحديث، مفترضاً أن تلك المقولات صالحة لمحاكمة النصوص في كل زمان ومكان ومقام. وبذا يجعل عربته أمام الحصان، إن كان هنالك من حصان! وإزاء الجزئيات البلاغية لديه تتشرذم النصوص بدورها.
فبفهمه الجزئي القاصر للنصوص، تراه مثلاً لا يمل الحديث عن المفردات المألوفة والعلاقات والتكرارات، يلت ويعجن كثيراً دون أن يقول شيئاً! لأنه لا يفهم أصلاً أن ليس كل ما هو مألوف ليس بشعري، ولا أن التكرار أو حتى الحشو قد يمثل في الشعر قيمة إيقاعية وتعبيرية. إن هي إلا كلمات سمعها فرددها، كيفما اتفق. ذلك أنه قد ثقف مفردة بلاغية من هنا ومقولة نقدية من هناك دون هضم، ومن ثم ذهب يقحمهما في كتاباته دون قدرة على توظيف ذلك في بيان علاقاتها بالنصوص التي يتحدث عنها، أو إثبات كيف تحققت مرة ثم انتفت فجأة! هذا إذا أحسنا الظن به، وإلا فتلك الممارسة تثير شبهة التعمد في تسخير محفوظاته تلك وفق هواه، ترغيباً أو ترهيباً، فإن شاء اتخذها سلاحاً وإن شاء اتخذها وشاحاً. ومن ذا الذي سيفحص ما ينشره ويكشف ما فيه من زيف؟ بدليل أنه يفعل ذلك في المقال الواحد عن نص واحد لشخص واحد. كأنه يكتب عنه في مزاجين نفسيين مختلفين. أو كأنه يعاني نوعاً من الفصام. بيد أن مرد هذا الفصام الحقيقي هو أنه رجل صحافة وإثارة بالكثير، لا رؤية له ولا منهج ولا معايير. ولكي يلبّس على الناس هذا الفراغ تراه يخلط عقليته البلاغية القشرية التقليدية «المقتبسة» بقشور أخرى يجتلبها ليضيفها عليها، تظاهراً بالحداثة والمعرفة بالمناهج الحديثة، ليخرج بطبخة فاسدة، لا في القديم هي ولا في الحديث.
ولم أطل في وصف هذه الممارسة، لأن عمل صاحبها كان يستأهل الإطالة، ولكن لأنه يعد نموذجاً مثالياً لممارسات كتابية شوهاء تعيش وتترعرع ويسكت عنها، ليُجنى بذلك في النهاية عليها هي قبل غيرها، حينما يظن أصحابها أنهم يحسنون صنعاً، وهم إنما يشوهون أنفسهم قبل أي شيء آخر! ونموذج كهذا حري بالدراسة والمكافحة.
وهكذا يتبدى أن فهم صاحبنا للشعرية هو حبيس القشور البلاغية، تلك القشور اللفظية البديعية، يظل يفتش فيها عن كلمة كانت مستخدمة قديماً وأخرى تكررت، أو مقابلة مألوفة وأخرى جديدة، ظبي يصهل أو لا يصهل. هذا منتهى علمه بالشعرية، وهو أنها محصورة في مفردات لغوية. المفارقة هنا أن هذا الفاشل في التفريق بين مفردات اللغة المألوفة بزعمه لا يعرف معناها فضلاً عن أن يعرف فروقها! والمفارقة التالية أنه لا يتخطاها في مقارباته البعيدة التي يحسبها قراءات نقدية، وإنما رأس ماله فنون البديع ومحسنات اللفظ والمعنى، والثنائيات، وعلاقة هذه اللفظة بتلك، وحسن الاستهلال والختام، والمصطلحات المجتلبة، يقلبها على أوجهها صباح مساء مع كل نص. انظر كيف يكتب مثلاً عن ديوان «ثريا العريض» «امرأة دون اسم» «الجزيرة، الأحد 17 ذو القاعدة 1418ه»:
«وهذه الأنا التي تيرد أن ترى وتتكلم وأن تبوح تلوذ دائماً بالكتابة إلا أنه لوذ صامت تتكرر فيه الأصداء عبر ثنائية منتشرة في الديوان هي ثنائية «الصوت/الصمت» التي تتكرر فيها مفردات.. من دون أن تنم عما وراءها (كذا: لاحظ إملاء السمطي ونحوه هانا) من أحوال إيحائية».. إلى أن يقول في كلام طويل لا معنى له ولا طائل وراءه: «ينعكس هذا بالضرورة على لغة النص وعلى الأساليب البلاغية المستخدمة التي لن تخرج بالأحرى عن نطاق التعريف، وأسماء الإشارة، والبنية التركيبية النحوية المتراتبة التي لا يتم فيها حذف بين أو تقدم وتأخير كما لن تخرج عن لغة المباشرة وجمالياته الطلبية والتقريرية والتوكيدية وهو ما نراه في القصيدة..».
هل فهمتهم شيئاً؟! إنه معجم البلاغة العربية، لبدوي طبانة، ينقل عنه السمطي مصطلحاته دون أن يعي معناها! ما معنى «البنية التركيبية النحوية المتراتبة»؟ وما هو «حذف بين» هذا؟ وكيف يكون للغة المباشرة جماليات طلبية وتقريرية وتوكيدية؟ وأين مرد الضمير المذكر في «جمالياته»؟ إنها خلطة أسلوبية لا مدلول لها ولا قيمة؛ لأنها لا تستند إلى رؤية نقدية أصلاً، يحتشد لها الكاتب بمصطلحات وتراكيب يستدعيها من هنا وهناك في ركاكة ورثاثة يرثى لها.
هذه هي بضاعة كاتب يتصدر اليوم صحافتنا المحلية، وقد ظل سنين يفعل ذلك، وها هو ذا اليوم أخيراً، بتأملاته الفذة، يصنف الكتاب والشعراء أحزاباً ومدارس، ما كان ل«موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث» أن تزيغ عنها، وإلا كيف تنسب الموسوعة بعض الشعراء إلى الموسوعة وإلى قائمة تحديث القصيدة؟ أي تجديد «ونصوصهم كما هو موزونة مقفاة، مكررة المعجم التقليدي؟ ألم يكن من الأجدى وضعهم في مرحلة أخرى سوى التحديث؟».. يتساءل الخميس 4 شعبان 1423ه، جريدة الجزيرة. وهو لا يحدد المرحلة التي يرى وضع أولئك الشعراء فيها، في إيحاء أنه كان يجب أن يصنفوا في ماض أكل الدهر عليه وشرب، أو حتى أن ينفوا من الموسوعة نهائياً. وعليه، فإذا كان من يسميهم هو بالتقليديين كالشيخ عبدالله بن إدريس قد اعترضوا على احتكار الحداثيين ل«موسوعة الأدب العربي السعودي» وسرية عملهم فيها، فإن صاحبنا لم يرض حتى عن ضم هؤلاء التقليديين إلى الموسوعة أو تصنيفهم فيها.
حقيقة لقد تفاجأ الرجل بعد أربع سنوات من ركضه في قصيدة النثر وشبيهاتها أن القوافي لم تندثر في جزيرة العرب، وأن «الظبى»، و «الظباء» لم يغيرا هويتهما في معجم اللغة والشعر العربي، فلا الظبى صارت ظباء ولا الظباء صارت أليفة تصهل! ولا القوم استشاروه في شأن «موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث»، وإلا لفصلها لهم أسماطاً أو سمطاً: التقليديون على سماط، والتجديديون على آخر، والحداثيون على ثالث، والرابع للشعراء النقاد! هكذا كل يعرف موقعه، ليجتمع المتآلف وينتفي المتنافر! حسبنا الله ونعم الوكيل «إن هاجس التنافر سيظل ملازماً لمن يتتبع تقسيمات الشعراء خاصة في المراحل الأخيرة».. هكذا يجأر السمطي على الملأ!
ثم كيف لبعض الأكاديميين ونقاد الأدب بدورهم أن تورد لهم نصوص في الموسوعة، ألا يكفيهم أنهم قد عُرفوا نقاداً؟! وسيختار أمثلةً على ذلك، منها ذلك الناقد الذي افتضح السمطي بنقد قصيدته منذ أربع سنوات، متأرجحاً بين «الظباء» و «الظبى».. وبدوي طبانة. ولا ندري لماذا يصر هو إذن على تعدد الملكات والمواهب، فهو يدعي الشعر، والنقد، والصحافة، والأكاديمية، ويسعى إلى أن يعرفه الناس بهذه جميعاً. أتراه لو صار أكاديمياً سيتخلى عن صفة الشعرية؟! أم تراه ما زال يحمل حقد ما اكتسبته يداه من عارٍ جراء «الظباء» و «الظبى»، التي عرّته في «الجزيرة»، فأسرّها في نفسه منذ ذلك اليوم؟ ربما.. مع أنه لا ذنب لأحد في أن اختار هو الكتابة عن قصيدة، ما أن لامسها حتى فضحته وكشفت عواره وجهله! بل ربما لأنه لم يجبه أحد إذ ذاك، ولم يكن أحد ليجيب! ليس لأن من حق القارئ أن يعجبه النص أو لا يعجبه وأن يرى رأيه فيه ما دام مؤهلاً أصلاً وموضوعياً في تناوله ليس لهذا فحسب، ولكن لأمر آخر، وهو أن السمطي كان إذ ذاك قد رد على نفسه بنفسه، من خلال ذلك الطرح الهزيل والخلط المعبر عن مقدار وعيه الشعري والنقدي. أم تراه لم يعلم فضيحته تلك بعد كل هذه السنين ولم يتعلم منها قط ومصيبته أعظم فظن السكوت عنه سيتيح أمامه مثالاً ثالثاً ينتقيه إلى جانب الدكتور منصور الحازمي والدكتور عبدالرحمن السماعيل ليسوقها شواهد على شعر الشعراء النقاد، الذين ما كان هم أن تسعهم موسوعة الشعراء، لا لشيء سوى أنهم قد عُرفوا نقاداً! لا أدري حقيقة، سر مناقراته بغير داع ولا وجه حق رغم تجاهل الناس إساءاته السابقة.. إساءاته لا بالمعنى الشخصي بل بالمعنى اللغوي والشعري.
وعلى الرغم من أن من حق المرء أن يذبّ عن الحقيقة ما استطاع لاسيما حينما يتعلق الأمر بجهل وخلط وادعاء فقد ترددتُ كثيراً في التطرق لهذا الموضوع هذه المرة أيضاً؛ ليس فقط لأن لدينا من الأعمال ما هو أجدى من انشغالنا بمثل هذا، ولكن لعلمي أن الرجل إنما يسعى للإثارة والشهرة! إلا أنه وهو هكذا يترامى بنفسه بفضول زائد لم يعد يعنيني بمقدار ما صار يعني الشعر، بما هو شعر، ويعني الحركة الثقافية المحلية عموما. فنحن أمام نموذج لا يبني حكماً أبداً على أسس لغوية أو معايير نقدية، لأن مقاربته للنصوص كما رأيتها بائسة فقيرة فاضحة، محزنة حقاً، وإنما هو يهوش بالكلام تهويشاً، ويتلاعب بالأشياء كما يحلو له. ومعه هذا ستعجب له، كيف يجرؤ على مواقف لا تتسم باللياقة في الطرح؟
وأود أن أشير هنا إلى أنني لا أعرف هذا الرجل، ولم ألتق به قط، ولم تقم بيني وبينه أي علاقة من أي نوع، كي يكون لي موقف شخصي حياله. ولم أر له أكثر من مقابلات مكرورة أو تسويق كلام تزلفيّ تارة لمن لا يجرؤ عليهم أو انتقائي المزاج تارة أخرى مع أشخاص آخرين، أو كلام هزيل، يظنه شعراً، وما هو في عير الشعر ولا نفير النثر. ها هو ذا مثلاً يعود للقول لا فض فوه لا يمكن أن نقرن في مرحلة التحديث بين أسماء شعرية مثل: إبراهيم الحسين، وإبراهيم صعابي، وأحمد الملا، وحبيب معلا المطيري، وعلي الدميني، وعبدالرحمن العشماوي، أو محمد الثبيتي، وعبدالله الصيخان، وإبراهيم الوزان، على سبيل المثال». و «على سبيل المثال» هذه لأنه انتقائي في نظرته مثلما هو انتقائي في أحكامه. لا.. سنقرن بين كل هؤلاء! فأنت لا تنظر إلى هذه الأسماء بوصفها أسماء إبداعية، ولكن بوصفها أسماء لأشخاص تحب أصحابها أوتبغضهم، وهو يعترض على منهجية الموسوعة حين يقول أيضاً لا فض فوه مجدداً «أليس كان» (يا أمة الضاد هل سمعتم ب«أليس كان» هذه من قبل؟!، لعل هذه هي العلاقات الجديدة التي تولد المعاني الجديدة) يقول: «أليس كان من الأجدى أن يكون التقسيم تبعاً للجنس الأدبي ما دام أن الموسوعة ترتكز على هذه الخصوصية.. إلخ.. إلخ».. لا.. «ليس كان من الأجدى»! فما أنجزته الموسوعة خاضع لطبائع الموسوعات من شمولية التعريف بالأعمال وأصحابها، ومن ثم التحقيب التاريخي المقارب بين الأجيال والتيارات، دون تحكيم الآراء والتصنيفات والميولات الشخصية والأفكار المسبقة، ولا حتى الآراء النقدية والقناعات، وإلا كنا إزاء كتاب نقدي معياري لا موسوعة توثيقية.
بيد أنه لا شأن له بهذا كله، وإنما هو يستغل المقام هنا ليطلع علينا بسبقه التأملي.. ترى أين يضع نفسه هو؟! في معجم البلاغة العربية لطبانة التي يعيبها في الوقت الذي يتأبطها ويتكئ عليها أم في زمرة أهل التجديد والتحديث! لا شك أنه يرى نفسه طليعياً في المرآة الأخيرة، وإلا لما نفث حممه هكذا! أمّا شعره فاقرأ له إن شئت وما أظنك ستشاء هذا النموذج يكفيك عما سواه، وهو من إحدى مفاخره الإبداعية، ولا شك:


قفي هنا.. حدقات الكون تنتظرُ
يا روح واقتربي، شأن المدى النظرُ
قفي هنا.. مطلق التاريخ منفتحٌ
خطّي شهيقي، كتابُ الدهر يحتضرُ
يا روح. يا رمز جرحي.. علقي شفةً
تمتص ورد البكا لو مسه الوترُ

أعتقد أن هذا القدر يكفي.. إلى قوله لا فضت شفته :


تمشي على جبل النسيان ذاكرتي
والطير ينقرُ في ما لستُ أفتكرُ

و«جبل النسيان» هذا مشكلة عويصة حينما يجعل المرء لا «يفتكر» الفرق بين «الظبى» و «الظباء» أو بين الشعر والهراء! إنه جبل كابس على أنفاسه، يجعله لا «يفتكر» في أي شيء ينقر الطير! وما أدرانا نحن أين كان الطير ينقر؟! هذا على الرغم من أن الذاكرة كانت تمشي.. «تمشي بخطوات موزونة» مقفاة على جبل النسيان! كما أن جبل النسيان الكابس هذا قد جعله أيضاً يطلب من الروح أن تقف وأن تقترب في آن. هنا الإبداع الحقيقي.. لاحظ المفارقة المذهلة: «قفي.. واقتربي».. كيف؟!.. ولماذا كل هذا؟ طبعاً لكي تخط شهيقه، ومن ثم بعد أن تخط شهيقه تعلق شفة شفة واحدة فقط تكفي لتمتص ورد البكا.. تمتص ورد البكا هذا لو مسه الوتر.. أما إذا الوتر لم يمس فلا تمص.. أي لا داعي لتعليق الشفة المذكورة أو للمص من أساسه! يا للخيال المجنح ويا للتصوير البديع، ويا للنص المكثف الذي يحتمل أوجهاً كثيرة للقراءة والتأويل والمصّ! ومع هذا فهو نص ومص إشكالي! فلعل القارئ يود هنا فقط أن يفهم كيف ستعلق الروح شفة لتمتص وردة؟! يعني: لو جسدنا الروح في مشهد حي فهل الشفة تعلق عند المصّ، ناهيك عن مصّ الورد.. ورد البكا؟ لعلها طريقة حداثية تجاوزية أيضاً في فن «المصّ».. بحيث لا تتأتى هذه العملية إلا بتعليق الشفة لكي تشفط ورد البكا قبل فوات الأوان!، أيها التقليديون، يا من أخطأت الموسوعة في تصنيفكم، يا من لستم من المجددين ولا المحدثين فضلاً عن أن تكونوا من زمرة الحداثيين، هاكم.. تعلموا الشعر الحديث، كي تتعلموا في الوقت نفسه كيفية «المصّ» على الطريقة الحديثة! مساكين أنتم، لم يسبق لكم أن علقتم شفاهكم أو مصصتم.. ورداً! علقوا شفاهكم ومصوّا الورد مصّاً.. ولا يهمكم، لا تتلهوا بالمفردات المألوفة. فإن أصررتم على وزن الشعر وتقفيته، فلتجعلوه هكذا، وإلا فلا.. كي تدخلوا جنة الحداثة.. بطيرها وظبائها وأفيالها!
وإذا كان هذا هو سقف الذوق الشعري لدى هذا.. فستعرف أن ضجيجه إذن ما هو إلا فحيح حداثي. وهي ليست حداثة المجدد المنفتح الحر والإيجابي.. وله بذلك مع اللغة والتراث والشعر العربي الحقيقي قضيته، التي لا تعني في النهاية أحداً سواه.
ولعل شاهد ذلك يتبدى في مفخرته الإبداعية الأخيرة «الثلاثاء 9 شعبان 1423هـ»:


ليْسَ منْ عاداتِهِ أنْ يموتْ
صَوْتُهُ حبرُ غدٍ وبيوتْ
جرحُهُ أعلى من الظّلِّ، أيضاً
يدُهُ. شوُفُوا النّدى إذ يفوتْ
قلبُهُ أبيضُ منْ فلِّ عَرْشِ
أَرّجَ النّبْضَ بلفْظٍ صَوُت

وهو نظم ضعيف على بحر المديد، المهمل حتى لدى القدماء، وذلك لثقله وزنه الواضح ونضوب إيقاعه، حسبما يشير إلى هذا إبراهيم أنيس في كتابه «موسيقى الشعر العربي». ولعل السمطي يعد اختياره هذا تجديدا. والاختيار على كل حال وافد العقل والذوق! وإذا تجاوز القارئ الوزن، وافترض أن هناك واواً ساقطة قبل كلمة «صوت» في البيت الثالث ليستقيم الوزن، وجد الناظم في قوافيه مع أنه قد آثر السلامة فاختار القافية المقيدة قد ارتكب عيباً في التقفية، يسمى «سناد الحذو»، وذلك في القافية الثالثة «صَوتْ».
حيث كان ينبغي أن تكون حركة الحرف قبل حرف الحذو «الواو أو الياء»، إما الضمة أو الكسرة فقط؛ لما يحدثه استعمال الفتحة ها هنا من نشاز تجنبه الشعراء وعابه علماء القوافي. فإذا أضيف هذا إلى نشاز الوزن أصلاً، لم يعد في النص سوى هيكل يعود بنسبه إلى وزن قديم، ثبت فشله وسئمت الآذان إيقاعه، فأهمل منذ القدم.
أمّا ضحالة المفردات وركاكة التراكيب، فأوضح من أن توضح، يدركها من له أدنى حس شعري، فصيح أو عامي. فلقد اضطرته القافية مثلاً منذ البيت الأول إلى استدعاء «بيوت» لإقعادها في نهاية البيت الأول، بعد أن كان قد تم المعنى قبلها. إلا إن كان يعني ب«بيوت» «أبيات»، أي أبيات شعرية، وفي هذا عامية وتكلف.
ولذلك كله ما أن يصل إلى البيت الثاني فقط إلى البيت الثاني حتى يوشك أن يموت هو نفسه من الخور! «أيضاً يده»؟! منذ متى كانت «أيضاً» مفردة شعرية؟! يا للكثافة المبتذلة. أمّا عبارة «شوفوا الندى إذ يفوتْ!»، فأبلغ من أي تعبير! «شوفوا؟!» ولو قال «شوق الندى» مثلاً لربما سد ثغرة ما في البيت. ثم إلى أين سيفوت الندى؟! ولشعوره بالإنهاك التام ها هنا كان لابد من الإنعاش ببعض «الفلّ» طبعاً!.. وهو ليس أي فلّ بل «فلّ عرش»، ولا يهم أي عرش أو عريش يشير إليه؟! نعم لا بد من بعض السوريالية لاستحضار المتخيل الفني بفله وفليله كي تُسلم الصور في هذا النص إليك أعنتها الشاردة!
لكن من حسن الحظ في النهاية أن كلاماً من هذا المستوى «ليس من عادته أن يعيش!».
الأغرب من هذا كله أن يُهدى نظم سقيم على شتى المستويات كهذا إلى شاعر متمكن كعبدالله الزيد!
وهذا مصداق القول إن حداثة من هذا القبيل ما هي إلا مداراة عجز، كوّن عقدة نقص حيال شروط اللغة والشعر والأصالة. ومن ثم عدوانية شرسة ضد كل ما يذكّر هؤلاء بعجزهم. وليست هي بتلك الحداثة المتجاوزة إلى فتح آفاق جديدة بعد هضم التراث وتمثّله. وصوت يصدر عن هذا التيار سيمثل إذن صوتاً كأشد ما تكون الأصوات الحداثية انغلاقاً وانغماساً في العصابية والتعصب.. تعصب لا يليق بشاعر حقيقي نظيف ولا بناقد يحترم قلمه. ومراهقو هذا النوع تراهم يسعون في الأرض لإثارة نعرة الحداثة والقدامة وزوبعة التقليد والتجديد، في وسط أخذ يأبى إلا أن يكون متعايش النماذج والتجارب والأصوات، يكل أمر المستقبل للأصلح فالأصلح.
وأخطبوط صاحبنا سيتمدد في السوق الثقافية السعودية بعد الشعر والشعراء إلى النقد والنقاد. ألم نقل إنه ألفى سوقاً خالية! يقول في بث صبياني للفرقة في الوسط النقدي مثلاً، تحت عنوان «الذين أسكتهم الغذامي!» «جريدة الوطن السعودية ع«253» يوم السبت: 17/3/1422هـ»:
«فلاحظنا (لاحظ هنا ضمير الجمع، لقد لاحظوا يا من لا تلاحظون»ارتباكاً كبيراً لدى هؤلاء النقاد، لغياب المشروع النقدي عند أكثرهم أولاً، ولافتقاد الرؤية النقدية التي يمكن عبرها القيام بمغامرات نقدية محسوبة مع المنجز الإبداعي السعودي. ثانياً، والوقوف عند مقولات بعينها».
سأؤكد أخيراً أنني لا أدافع عن منهج «موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث»، وما اعتوره من قصور، وإنما أكشف ممارسة دأبت لدينا منذ أمدٍ على تحسين الفرص للاصطياد والإثارة بأسلوب ظنناه قد انقرض. كما أؤكد أن لا أحد ها هنا يهمه شأن هذا الصحفي كشخص، ظلّ أو عبر، بل سنظلّ نحترم إنسانية الإنسان فيه، أخاً كريماً وابن أخ كريم، غير أنه هو من يطرح نفسه علينا بإلحاح وبمحض إرادته وإصراره وترصده كظاهرة نموذجية لغثاء أخذ في الماضي وهو آخذ في الحاضر وربما في المستقبل يستفحل، ويسود بوار أسواقنا الأدبية والنقدية المحلية والعربية.
والله المستعان!

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved