فجأة وجدت نفسي وحيداً تائهاً وسط وجوه تائهة
كلنا كنا غرباء تجمعنا الدهشة وحلم صغير بالعودة السريعة
صوت يحيى الغريب، ص23
ظللت أبحث عن وهم فإذا بي أدخل في أوهام متعددة. حتى الحب يتحول الى وهم، نعيش فيه وعندما نصل الى من نحب نكتشف أننا كنا نخدع أنفسنا لنعيش في جو نحن نختلقه» «صوت يحيى الغريب» ص333
بدا في القراءة السابقة ان رواية «مدن تأكل العشب» لعبده خال تسيل من ذاكرة التيه المشبعة بالاغتراب الذي يحيل اللغة السردية الى لغة درامية مأساوية، وقودها الناس وأوهامهم المشروعة في زمن عانوا فيه من ويلات الجوع، والخوف، والحرب..الخ.
ولا يقتصر هذا التيه المشبع بالاغتراب على ما يلتف به الناس من مآس في شؤون حياتهم العامة وتصرفاتهم المعيشية المعتادة يوميا، وإنما يتجاوزه الى أعماق خصوصياتهم، فتنكسر - على سبيل المثال - أحلامهم الأسرية البسيطة عندما يفشلون في تحقيق آمال حب ساذج يهدف الى بناء حياة أسرية مريحة، تسهم بما فيها من عواطف صادقة في التخفيف من ويلات الفقر والحرب وقسوة الحياة.
هكذا نجد سياق العلاقات العاطفية صوتا مكسورا فاشلا، فتبدو ايقاعات هذا الصوت وجمالياته مأساوية في تركيب أوصياغة تنامي بنية السرد التي تزداد قتامة لامتلائها بأصوات المعاناة العاطفية التي يفترض ان تحقق حلم شابين في مواجهة كوابيس الواقع. هذه المعاناة الانسانية نجدها في أصوات عاطفية مجروحة، بل دامية لكل من يحيى الغريب، وطاهر الوصابي، وصدفة، وحسينة، وحامد، وعواطف.. الخ.
يكفي تمثيلا ان نشير الى حكاية صالح الوصابي، الذي ربى يحيى الغريب، بوصفها الحكاية الأبرز في البحث عن حبيبة سرابية ضائعة، قضى جل حياته، وهو يتنقل من مكان الى آخر بحثا عن فتاة أحبها ثم رحلت فجأة مع أبيها، ولا يحصد من وراء بحثه الدؤوب سوى المزيد من الغربة والوهم الموغل في الوهم والسراب دون ان يفقد الانسان توازنه، فيصل الى درجة الجنون مثلا، لذلك يبقى صالح الوصابي قويا لم يتخل - خلال بحثه الخرافي عن حبيبته السرابية - عن أبوته لابنتين وزوجة تربيهما، بل إنه تبنى نبوة يحيى الغريب، في سياق قوله له:«في الغربة إذا لم يكن لديك أب عليك ان تبحث لك عن أب بديل، وأنا أبوك هنا والمسؤول عنك حتى عودتك الى أهلك» «ص119». ثم يتضح في نهاية المطاف ان هذا الأدب غير الشرعي هو واحد من بين أبرز الأصوات التي ساهمت في شكل من أشكال الطيبة الخادعة في ضياع هذا الابن المطيع الذي انقاد لأبيه المزعوم، لأنه لم يجد مسلكا غير الانصياع كدابة يأتمربأمره، ليصدم في نهاية المطاف بأنه وقع ضحية خدعة كبيرة، بعد ان اكتشف كيف استغله الوصابي، وأفقده كل الأشياء التي يحبها، فكان السبب في فصله عن أمه من خلال الرسائل المزورة التي كان يكتبها الوصابي له على لسان أمه، وأيضا السبب في فصله عن أوهام الزواج من «حياة» بنت الوصابي عن طريق تزويره في الوثائق، حيث نسب اسم يحيى الغريب اليه، فصار اسمه في شهادة الميلاد: يحيى طاهر محمد الوصابي.
والأمر سيطول لو توقفنا عند صوت حكاية الحب في حياة يحيى الغريب بين أختيه المزعومتين، وفي حياة صدفة، أو حامد، أو صالح المستعجل، أو عواطف، أو حسينة.. فالأمر لا يعدو كونه حبا مستحيلا في ظل الظروف التي تؤثر في مسيرته.
***
إن ذاكرة التيه المشبعة بالاغتراب تحيل اللغة السردية الى لغة ذات جماليات درامية مأساوية، تشكل المركزية الواقعية وأيضا التشاؤمية الثقافية التخيلية في الوقت نفسه في الخطاب السردي العربي ذي التوجه التراجيدي، وهذا ما تبناه عبده خال في روايته هذه.
وبكل تأكيد توجد سياقات عدة يمكن تتبعها في الرواية للكشف من خلالها عن جماليات التيه بوصفها الذاكرة المحورية في الرواية، وقد أدركنا في القراءة الأولى ان شخصيات الرواية كلها تعاني من مأزقية ذاكرة التيه التي يمكن رؤية بعض انساقها في الفقر والبحث عن أوهام الغنى، والخوف من المجهول المتمثل في قطاع الطرق والنخاسين، والغربة في قاع حارات المدينة ومقاهيها، والفشل في العمل والحب، واغتراب المكان، والزمان، والعلاقات، وتشوه الوضع العام.. ففي هذه الدوامة المأساوية أو التيه المشبع بالاغتراب يمكن تناول أصوات متنوعة تؤكد اكتمال الوحدة الشعورية والنفسية داخل بنية سردية تهدف الى تأكيد الصوت الحزين المبكي في حركيتي الفرد والجماعة!!.
تبدو الأصوات السردية بارزة متعددة، خاصة في ضوء تعددية الحكايات من جهة، وتعددية المشاهد الحوارية المباشرة أو المسرودة من جهة أخرى وقد أفصحت الرواية عن دواخل شخصياتها المأزومة؛ بسبب أنها تتكىء على ضمائر المتكملين أوالرواة المشاركين في صياغة الأحداث وحركية السرد، مما يعني وجود وجهات نظر تتداخل بعضها مع بعض، فتعطي تعددية في الرؤى المتضاربة والمتشابهة في أشكال المأساة مع وجود فوارق بين الطبقتين المتناقضتين في العلاقات الاقتصادية والسياسية، دون ان توجد فوارق كبيرة في الأخلاقيات العامة، حيث تهيمن أخلاقيات البادية رغم بدايات التطور في المدينة المختلفة عن القرية أو الريف، كما يتضح في التطور الذي أصاب مدينة «جدة» من وجهة نظر السرد. ولا يعني هذا الكلام المؤكد على توحد المأساة في السرد ان الرواية تفتقد الى التنوع الواضح في الأصوات مما يحيلها الى الرتابة السردية، بوصفها من نسيح «تشاؤمية» السارد أو من نسيج «واقعية الواقع». فالمسألة على أية حال تعني التشابه الكبير بين صوتي يحيى وأمه في رواية المأساة، وهنا لا نتفق مع الناشر ان كان هو صاحب الفكرة أو صاحبها عبده خال نفسه - وهو الأرجح - ان الرواية روايتان، فلا توجد في النص روايتان متداخلتان، فالموجود هو تعددية أصوات الرواية، وهذا هو نهج «الرواية الحوارية» على وجه العموم. وهنا يكمن مربط الجماليات في الرواية الجديدة، أي ان تكون الرواية حوارية بمعنى ان تهتم بالتعددية في الأصوات والرؤى، حتى وان كانت هذه التعددية وهمية، لذلك يمكن الحديث في هذا السياق عن حوارية التواشج بين الأصوات، حيث يهدف الكاتب الى تعميق ذاكرة السرد التي وصفناها بأنها ذاكرة التيه المشبع بالاغتراب، بوصفها الذاكرة المركزية التي ينهل منها السارد «عبده خال» جماليات لغته السردية.
***
تظهر ذاكرة البطل المغترب «يحيى الغريب» مأزومة ثقافيا إثر علاقتين واهمتين، كانتا السبب في اغترابه الشديد، العلاقة الأولى بجدته التي استعجلت انضاجه ودفعه الى الرجولة، وهو لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره، وكانت تسمعه دوما عبارتها الصارخة «كن رجلا» مما يعني استلاب طفولته البريئة. والعلاقة الثانية بجمال عبدالناصر الذي تلاعب بمشاعره وقلبه من خلال خطاباته القومية التي انتجت حربا مدمرة في اليمن، لذلك حقد على الاثنين معا؛ حيث تبدأ الرواية بهذه الفقرة الحاقدة:«أنا لا أعرف جمال عبدالناصر، وأنتم لا تعرفون جدتي. جمال رفع شعار الوحدة العربية وفشل، وجدتي رفعت شعار اغاثة الملهوف وفشلت. والاثنان أحمل لهما حقدا دفيناً، وأحملهما مسؤولية ضياعي» «ص7». في سياق هذه الرؤية المفعلة لصوت البطل المأساوي الذي عاش تيه ضياعه في العمل، والعلاقات، والحب والحياة، فكان مصيره مهزوما، الى درجة ان يجتمع مع أخته في سيارة واحدة، ولا يعرفها أو تعرفه مما يفقد الحياة روحها الانسانية، فيسير الانسان من غربة الى غربة أسوأ من سابقتها، أو هذا على الأقل ما أراده عبده خال لأبطال روايته؛ عندما جعلهم يتصفون ب«حيص بيص» في زمن التيه. يتداخل صوت طاهر الوصابي مع صوت يحيى الغريب، حيث عاش الوصابي كما أسلفنا، حياة تشرد مشابهة، بنى فيها مأساة حب ضائع، وزواج من امرأة تكبره سنا، أنجب منها بنتين، كررتا المأساة نفسها في حياة يحيى الغريب، حيث أحب احداهن «حياة»، وأحبت غيره «صالح المستعجل» وأحبت الأخرى «عواطف» يحيى الغريب، ثم حالت الوثائق المزورة بينه وبينهن، مما أفقده حق الزواج باحداهن!! وبالتالي كشفت هذه العلاقات مصائر تراجيدية زادت من الاغتراب والتشرد، وعمقت رمزية التيه في كل شيء يراه الرائي في الحياة!!.
***
يمثل صوت الأم حركية القرية والناس في زمني الجوع والحرب، فهي الرمز الشامل للحياة بعيدا عن الذات، واندماجا فيها في الوقت نفسه، فتغدو الأم مريم خالدية وفق هذا التصور، وكما يتضح من اسمها، مثالا للصبر والشرف والرمز الخالد الذي يحرص على ان تكون الحياة بواقعيتها الشاقة لا تخلو من قدرة انسانية حنونة ترسم معالم الانسان المتواضع الأصيل في أزمنة الشدائد، فيتدفق هذا الرمز حياة وحبا بوصفه الأم التي تحمل مآسي العالم كله على رأسها، ليتدفق حبها انسانية وهو يتعايش مع مفردات المعيشة اليومية دون ضعف أو انكسار، وكأننا هنا أمام أعماق انسانية الانسان، وأمام فطرية الحياة التي لم تلوث بالمدينة، فكان صوت الأم هو الصوت الثقافي الأصيل في سياق الحياة الشعبية في القرى النائية عن أوبئة المدن التي تأكل العشب!!. ومع ذلك لا تفقد هذه الأم واقعية المرأة بوصفها رمزاً لذاتها حيث تعاني معاناة خاصة ذاتية، يمكن ان تتضاعف عندما تغدو أرملة مسؤولة عن تربية أطفالها وترفض أي زواج لمصلحة تربية هؤلاء الأطفال:«كانت تغلي، وفي أحيان كثيرة تلعن الفاقة وبطنها الذي توالد بثلاث إناث وذكرين، ويزداد سخطها حين تتذكر يحيى الذي قذفت به للغربة، وتفز من جلستها لتصب غضبها بصورة مفتعلة على أبنائها وتصيح بهم: الى متى أظل معلقة بكم». «ص67». ربما نجد مبالغة ثقافية تكشف عن مبالغة السارد عبده خال في صياغة شخصية هذه الأم، وخاصة صياغة الرسائل، أو صوت الرسائل بين الشقيقتين مريم وخديج، وهذا التكلف - ان جاز هذا التعبير - نجده أيضا في صياغة حكاية حب حامد لسيدته هنادي وسهولة تخليه عن هذا الحب، بل ان حكاية حامد ولقائه بيحيى الغريب لا تخلو هي الأخرى من هذا التكلف الذي يقل في أصوات الآخرين وحركيتهم، مثل: الوصابي، وحسن الجويني، وصالح الحنوني وصدفة، وغيلان، وغيرهم، حيث تبدو الواقعية هنا جزءاً من تقنية السرد، بوصفها واقعية سحرية، أو خيالية أكثر من الخيال في بعض الأحيان، كما أشرنا في القراءة السابقة!!. وخلاصة القول ان عبده خال في روايته هذه كان روائياً متمكنا في لملمة خيوط حركية الشخصيات، رغم وجود المصادفات في انشاء العلاقات أحيانا وتهدف هذه اللملمة الى تأكيد أو ابراز جماليات ذاكرة التيه، بوصفها الاشكالية العميقة في البنية السردية. فالصوت الواضح والمتعدد في الوقت نفسه في هذه الكتابة هو صوت الواقع المليء بالمصائب، حيث يغدو الناس مثل حبات الرمان يلتقمها الديك فيغيبون في جوف غول الجوع أو حوت الحرب أو جوف ديك الأحلام. لا فرق في ذلك!! تقول خديج خالدية في رسالتها لأختها مريم خالدية:«الله يا مريم تغير الحال، ونزلت بنا المصائب كأنها مطر، وكل ما نزل بنا مكروه أتذكر حلم أمي - الله يرحمها - ها نحن كحبات الرمان، يلتقمنا الديك الذي رأته في حلمها» «ص 276».
|