كان حلمها ان يكون لها بصمة في تاريخ الحياة، ومجد عريق تُذكر به.!
استطاعت بمهارة وذكاء جمع نقود معدنية واشترت بها لوحة خشبية وألواناً زيتية.. ووقفت أمام بحر ثائر متلاطم الأمواج، حاولت ريشتها أن تصور روعة احتضان الشمس للسحاب الأبيض.
ولكن وجدت محاولاتها باءت بالفشل الذريع لأنها انتظرت تلك الفرصة والأحلام التي داعبتها منذ سنين لتصبح في عالم أضواء الشهرة. لم تكن أناملها تعتاد مهارة مسك الريشة والتلاعب بالألوان!.
وانتابها الحزن والألم وتقوقعت في حجرتها الصغيرة وهي تحمل هموماً مغلفة بمرارة اليأس.. وفي صباح اليوم التالي عاود الأمل الى مجرى حياتها من جديد.. فأسرعت تخرج من حجرتها.. مهرولة وتقف أمام باب طويل. كانت مكتبة الحي مغلقة حينذاك.. ولكنها أخذت تنتظر وبصيص الأمل يكبر معها.
في حين أخذ العامل يسرع بفتح أبواب المكتبة، وها هي دخلت، وأخذت تفتش بين أقلامها المتناثرة الملونة، وأوراقها الكثيرة، وفجأة شع وجهها بنور غير عادي، عندما أمسكت بقلم أزرق ووريقات قليلة بيضاء، وقدمت للعامل نقودها المعدنية، ثم خرجت راكضة..!
لم تكن تعلم الى أين ستقودها قدماها.. ولكن كل ما تشعر به أنها تريد أن يكون لها شأن آخر، ولكن.. هذا ما غفلت عنه..!
أسرعت تسابق الريح وهي تقترب من ذاك الشاطىء ذي الرمال الذهبية، وأمواجه البالغة الزرقة. اقتربت منه.. كانت أمواج البحر حينذاك ترتطم بها فيرسل رذاذها المتناثر على وجهها تارة وعلى وريقاتها البيضاء التي أمسكت بها. أخذت تنظر الى الأفق البعيد، وكأنها تلوح له.
مدت ببصرها الى زرقة البحر وصفاء السماء وهمت بكتابة حروف، وحاولت أن تنسج منها كلمات لعل الحظ يحالفها لتكتب حكايا من وحي الخيال.. في بادىء الأمر اعتقدت ان الأمور ستساعدها.. ولكن خذلتها للمرة الثانية، وانسفحت دمعة وهي تنظر الى المدى البعيد.. وأخرجت زفرة طويلة من صدرها المتعب وألقت بورقها وقلمها في عرض البحر ليبتلعه، ويبتلع معه أحلامها.
عادت إلى منزلها بخطى متثاقلة، وأحلام منكسرة، في لحظات سكونها الحزينة، وهي تقبض على وسادتها بكلتا يديها الصغيرتين.. سمعت قرعات خفيفة على بابها.. فكان ساعي البريد الذي قدم لها خطاباً مغلفاً.. عندها لمعت عيناها فرحاً،وأمسكت بالخطاب وفتحته..
ولكنها لمحت سطوراًمتوازية بلون أسود كادت تقرأ حروفه، لكنها لم تفلح في فك رموز كلماته المتوالية، بيد أن هناك أملاً يلوح لها أن ثمة فرجاً حمله خطاب ساعي البريد.
سرقت الفرحة رقادها، وانتظرت تباشير الصباح.. وأسرعت تركض نحو المكتبة.. وانتظرت حتى وصول العامل..شعرت عندها ان الزمن توقف فجأة في تأخر وصول عامل المكتبة.. وما إن رأته مقبلاً حتى ألقت تحيتها برقتها المعهودة!.
وسلمته مظروفها قائلة: اقرأ.. من فضلك..!
أمسك العامل بالخطاب، ونظر إليها وأومأ برأسه. فهمت عندها أنه أميٌّ لا يستطيع القراءة!.
أعادت الكرّة تبحث من جديد عن قلم ملون وأوراق وردية، علّها تجد في بحثها ملامح السعادة التي تنتظرها قريباً.!
وخرجت.. بآمال عريضة تحملها في صدرها. كتبت أولى كلماتها في ورقتها الأولى، وشعرت حينها بسعادة بالغة، فقد يتبدل مجرى حياتها، وأنهت صفحاتها بتعابير قصيرة ترمي الى معانٍ بعيدة..!
حملت حروفها المنسوجة بمشاعر الفرحة، وقدمت أوراقها فوق هاجس المجد الذي أخذ ينتاب حياتها في كل حين.
كانت الفتاة قد هجرت أروقة الكتابة منذ أمد بعيد..
ولكن الحنين إلى الشهرة أكسبها شجاعة وإقداماً حتى باتت تقضي ليلها وسط أوراق متناثرة..
فوق وسادتها الصغيرة، التي تخلد للنوم فوقها، وتغمرها فرحة لم تعتد عليها من قبل.!
حتى جف حبر قلمها، حملت الصغيرة أوراقها بقلب تعلوه ضربات.. وقدمته الى دائرة العمل الابداعي في مدينتها..!
وسرعان ما احتضنتها الشهرة وألقت الأضواء عليها.. وأخذت تخطو خطوات واثقة نحو المجد.. الذي طالما حلمت به. وأصبحت ذات شأن هام.. وحققت ذاك المجد الذي راودها في الحقيقة والخيال.!
أسرعت اللحظات. وأخذت الشمس تودع المكان وتعانق موج البحر المتلاطم وقرصها يختفي شيئاً فشيئاً.
أخذت تنظر لمغيب الشمس الذي عكس لوناً قرمزياً على صفحات موج البحر الثائر، وهي تقبض بيديها على وريقات بيضاء،
وقلم حبر أزرق وسط دموع منهمرة، وأحلام ممزقة.
|