كثيرة هي الدراسات التي كتبها بعض النقاد العرب عن الأدب السعودي المعاصر، هذه الدراسات حملت قدراً من التنوع والوفرة النظرية، حيث استثمر كاتبو هذه الدراسات كل ما وقع امامهم من مقولات ومفاهيم نقدية، لكي يقوموا بتجريبها على الأدب السعودي، وحظي الشعر بالنصيب الاكبر من هذه الدراسات.
بيد ان الصدق المنهجي، والبعد النقدي الموضوعي المتكامل كان بعيداً عن جل هذه الدراسات، كما ان الانطباعية وسمت كثيراً منها، فضلاً عن المحاباة، والتعجل في التقييم، وإطلاق الألقاب، والمفاهيم دون تأسيس نقدي حصيف.
ومؤخراً ظهرت حالتان من هذه النوعية من الدراسات التي تفتقر الى المصداقية المنهجية، وان تزيت برداء علمي، وتقدم نوعاً من اسوأ أنواع النقد الذي يرتبط أساساً بما هو مادي وهو ما يمكن تسميته بالنقد «النفعي».
الحالة الاولى تتعلق بدراسة عن شعر الشاعر المجدد «سعد الحميدين» وهو من رواد القصيدة الحديثة بالمملكة العربية السعودية، كما هو معروف، والحالة الثانية تتعلق بشاعر غير معروف، وربما لا يتابع احد قصائده او دوواينه، وهو الشاعر الشاب «حفيظ الدوسري».
بالطبع لا علاقة فنية او نوعية او زمنية بين الشاعرين، لكننا هنا نشير الى ظاهرة ملحوظة في نوعية ما من الدراسات التي تكتب بوعي ينأى تماما عن المنهج، ويصف الاشياء بما ليس فيها الدراسة الاولى عبارة عن كتاب للدكتور:
عبدالله ابو هيف بعنوان: «الحداثة في الشعر السعودي: قصيدة سعد الحميدين نموذجا، «المركز الثقافي العربي، ط1، 2002م. والدراسة الثانية كتاب ايضا للدكتور احمد عبدالحق مبسط بعنوان: «المناهل الاثيرة في شعر نابغة الجزيرة» «دار الوفاء لدنيا الطباعة، الاسكندرية.ط.2.د.ت».
وسوف نتأمل - ايها القارئ الكريم - هاتين الدراستين - الحالتين بشكل مكثف، لنرى كيفية التناول والطرح، ومدى افادة حركة الشعر بالمملكة منهما.
قصيدة «ابو هيف»
يبدو من المعلومات المزجاة بالكتاب الذي وضعه د.عبدالله ابو هيف عن الشاعر سعد الحميدين انه اول ممارسة نقدية للمؤلف في مجال الشعر، فأبو هيف له ثلاثة اعمال قصصية، واحد عشر عملاً نقديا ليس من بينها الشعر، وكتابان في الفكر بعنوان: «الشرق اوسطية والفكر العربي و«الفكر العربي والتطبيع» كما شارك في تأليف «22» كتابا، ووضع مقدمات ل «16» كتابا.
هكذا فان المؤلف يجرب حظه النقدي مع الشعر هذه المرة، فيكتب عن احد رواد الشعر الحديث بالمملكة، الذي صدر له «6» دواوين شعرية اولها: «رسوم على الحائط» «1976م» وليس آخرها «وللرماد نهاراته» «2001م». من هنا فان لابي هيف مفهوماً معيناًً عن الشعر، وعن القصيدة، وهو مفهوم غير المتابع، وغير القارئ لتحولات القصيدة الحديثة واستقصاءاتها النوعية المختلفة، وغير العارف بوضعية شعر الحميدين في سياق الشعر السعودي من جهة، وبوضعية الشعر السعودي في سياق الشعر العربي بوجه عام من جهة اخرى.
ابو هيف، وضع هذا الكتاب لا من باب النقد المنهجي العارف بمكامن النص الشعري، ولكن من باب النقد «النفعي» الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وعلى الرغم من ان الكتاب صادر عن دار نشر بيروتية عرفت بدراساتها الجادة المتميزة، وعلى الرغم مما يبدو للوهلة الاولى من ان الكتاب يناقش عناوين لافتة، الا ان من يتأمل في الكتاب ويحدق مليا في سطوره وفقراته، لن يعثر على شيء ذي بال، فالكتاب لم يضف جديدا، ولم يعرفنا لا على شعر الحميدين، ولا تجربته، ولا سماته الفنية والجمالية الخاصة، مجرد كتاب حافل بالفراغ واللاجدوى.
تكوينات براقة
يقع كتاب الدكتور ابو هيف في «258» صفحة، واذا ما حذفنا منه صفحات مقدمة الدكتور عبدالله الغذامي، وصفحات المصادر والمراجع فان الكتاب سيقع بين صفحتي «11:236» اي ان الصفحات الفعلية للكتاب «225» صفحة، اعتمد فيها المؤلف على «134» مصدرا ومرجعا عربيا ومترجما «سوى دواوين الشاعر سعد الحميدين».
واذا حذفنا الفقرات المقتبسة من هذه المصادر والمراجع، وحذفنا المقاطع الشعرية المزجاة من شعر الحميدين، فلن يتبقى للمؤلف سوى 25 صفحة فقط هي ما سجله وسطره من عندياته.
يتكون كتاب «الحداثة في الشعر السعودي: قصيدة سعد الحميدين نموذجا» من خمسة فصول، عناوينها كالتالي: ممهدات البحث، الدراما والنزوع الدرامي، التناص، اللغة، الصورة.
هكذا فان هذه العناوين تغري بالقراءة، فهي عناوين براقة ولافتة، كذلك فان تصدير د. عبدالله الغذامي و«تقريظه» الكتاب ما يغري بالمطالعة.
يقول د. الغذامي في تصديره:« لقد بذل ابو هيف جهداً علمياً عميقاً ومكثفاً لقراءة شعر الحميدين، وكشف ابداعيته وقيمه الفنية وتعدداته الجمالية، وهو جهد اقتضته التجربة بتعددها وعمقها، كما اقتضته امانة البحث وجدية الباحث وخبرته الطويلة مع النقد والابداع، وهذا كتاب ثري وعميق يحمل فائدة جليلة في الدرس الأدبي في مزجه بين النظرية والتطبيق» ص 9 و10.
ويضيف الغذامي.. ولذا فاننا امام كتاب ثري وعميق وشامل كمثل ثراء شعرية الحميدين وعمقها وتمثيلها للواقعة الثقافية السعودية والخليج».
قد نتفق مع د. الغذامي في الشطر الثاني من العبارة وهو «ثراء شعرية الحميدين.. إلخ» لكننا نختلف معه في ثراء الكتاب او عمقه أو شموليته.. اذ يبدو ان د. الغذامي ذهب بعيداً في تقريظ الكتاب، وربما ضرورة النشر تتطلب ذلك. فالبيِّن ان الكتاب ينفي كل ما ذكره د. الغذامي في التصدير، فليس به جهد علمي عميق ولا مكثف، ولم يكشف شيئاً من ابداعية شعر الحميدين ولا قيمته الفنية.
ان توطئة الكتاب «11:16» تتحدث عن الحداثة والهوية القومية في الأدب العربي وتعرض لمحتويات الكتاب.
ويقول فيها لقد فصلت الرأي في مقاربة الحداثة في الشغل الشعري للحميدين.. ويلاحظ نفوري في دراساتي النقدية جميعها من تطويل الشرح وغلو الانشاء اللغوي، معتمداً على لغة نقدية دقيقة تستهدي بانجازات المنهج الموضوعي الدلالي» و هذا القول لم يطبقه د. ابو هيف في اي من فصول الكتاب، بل انه فعل عكس ما يذكر تماما.
وفي الفصل الاول المعنون ب «ممهدات البحث» ويقع في الصفحات «17:44» لم يكتب ابو هيف كلمة واحدة من عندياته، بل كان الفصل عبارة عن استعراض الدراسات التي كتبت عن شعر الحداثة في الخليج ومقتطفات منه، ثم استعراض لما كتب عن شعر الحميدين من دراسات ومقالات، ونماذج منها، ثم استعراض للسيرة الذاتية للحميدين بدءاً من ص «36» حتى نهاية الفصل، وهذه السيرة تلخيص لحوار اجراه الاستاذ عبدالرحمن المرداس مع الشاعر ونشر بالجزيرة في العام 1991م. ويقع الفصل الثاني في الصفحات «45:86» ، ويشمل ثمانية عناوين جانبية، اعجبها العنوان الاول: «محاولة لفهم مصطلح الدراما» ابو هيف يسعى بعد كل ما كتب عن الدراما - ان يحدد هو المصطلح فيغتنم «10» صفحات لكي يطيل من صفحات الكتاب، ويزجي فيها آراء وأفكارا قيلت مراراً وتكراراً ولا علاقة لها بموضوع الدراسة.
ويبدأ من ص «55» في الدراسة الفعلية لشعر الحميدين لكنه يستطرد كثيرا في اشارات مطولة لشعر جبرا ابراهيم جبرا ونثره ونزار قباني، والسياب، ونبيس، وادونيس وغيرهم، ثم يقدم «59» نموذجا شعريا للحميدين دون تعليق نقدي عليها. ثم يتحدث عن «تعدد الاصوات» و«التمثيل والسرد الروائي»، وهكذا في كل عناوين الفصل، استطرادات لا داعي لها، وحشو ينهمك في ملء الصفحات ليكبر حجم الكتاب، والحديث عن المفاهيم والمصطلحات كأن ابا هيف ينفرد بتقديمها للقارئ لأول مرة، خاصة في حديثه عن «تقنية القناع» و«الترميز والاسطرة» التي شغلت «7» صفحات، فيما لم يشر الى شعر الحميدين الا في «3» صفحات.
وكأن شعر سعد الحميدين مجرد مناسبة للحديث عن كل المصطلحات الفنية المتعلقة بالشعر بوجه عام.
وفي الفصل الثالث من الكتاب الذي يقع في الصفحات «87:130» والمعنون ب «التناص» يتحدث ابو هيف بدئيا عن «محاولة لتحديد مصطلح التناص» ابو هيف يأتي في العام 2002م ليحاول ان يحدد مصطلحا، تم تحديده من قبل منذ اكثر من عشرين عاما، وتم تقديم دراسات وافية عنه من لدن متخصصين في النظرية والنقد الأدبي، كما ترجمت كتب كثيرة عن المصطلح، ويستهل ابو هيف الفصل بالقول: «يثير مصطلح التناص اشكاليات عدة، فهو مصطلح ملتبس» ص87. وهكذا الالتباس دفعه الى كتابة 13 صفحة زيادة في حجم الكتاب، استعرض فيها ما قيل عن «التناص» لدى بعض الدارسين، حيث الاشارة الى التناص في التراث العربي و«الجرجاني نموذجا» و«المعارضات والتناص» و«التناص والسرقات» وغيرها من العناوين.. واعتمد ابو هيف على دراسات منشورة بمجلة علامات لمحمد عبدالمطلب، وحسن البنا عز الدين وعبدالملك مرتاض ورجاء عيد وغيرهم، واعتمد في هذا الفصل على «33» مرجعا، في «43» صفحة هي حجم الفصل، هذا سوى الاستشهادات الشعرية من شعر الحميدين، اي ان المؤلف لم يكتب سوى صفحات قليلة من عنده، وبقية صفحات الفصل تلخيصات لما كتبه دارسون آخرون.
الامر نفسه يحدث في الفصل الرابع الذي يزيد على 50 صفحة «131-184» واعتمد فيه على «29» مرجعا. وهذا الفصل عبارة عن بحث كان قد كتب ونشر مستقلا عن الكتاب، درس فيه ظواهر لغوية عند الحميدين هي: العنوان، والتكرار، والحشد، والتلاشي، والانزياح.
ويتحدث في الفصل الخامس والاخير عن «الصورة» مستطرداً في رصد ما قيل وما كتب عن «الصورة الشعرية» بلا داع سوى تضخيم الكتاب حتى «يملأ العين» مشيرا في بعض المناسبات إلى شعر الحميدين.
ان كتاب د. ابو هيف نموذج للتأليف النفعي، فالكاتب لم يقل شيئا ذا بال من عنده، وحشا كتابه بفقرات مطولة من مراجع كثيرة، وقام بتلخيص آراء لدارسين آخرين. ولم يكن شعر الحميدين - الذي احتل حيزا ضيقا في الكتاب - سوء مناسبة للاستطراد والحشو والاطالة. مما يجعل كتاب ابي هيف مجرد كتاب براق لا يدل كثيرا او قليلاً على تجربة الحميدين الشعرية التي لم تتعرض في الكتاب لقراءة منهجية، بل عبارات انطباعية مغلفة بمصطلحات ومفاهيم لم تطبق على الشعر من قريب او من بعيد.
نابغة الجزيرة
من مواليد مدينة الخرج بمنطقة الرياض سنة 1392هـ اي ان عمره بالتقويم الهجري 31 سنة، وبالميلادي 30 عاماً تقريبا.
ربما يكون شاعرا مغمورا، غير معروف للمتابعين والمهتمين بحركة الشعر الراهن. انه شاعر يُدعى «حفيظ الدوسري».
ومع ان الشاعر الموهوب، يفرض شاعريته عبر نصوصه، وتتبدى هذه الشاعرية من قصيدة لأخرى، ومن ديوان لديوان، فان «حفيظ الدوسري» يمثِّل ظاهرة سلبية على ولادة شاعر وقع في براثن كتابات غير حقيقية، وفي أفخاخ نفوس مريضة نقديا ومعنويا.
إنها ظاهرة يعاني منها الأدب السعودي في السنوات الاخيرة، وهي تطفُّل المدَّعين، والموهومين بأنهم نقاد، ودارسون، فيقيمون هذا الأدب لا بما فيه فنيا وجماليا، بل بما يمكن ان ينجم عنه ماديا ونفعياً.
ان الشاعر - وللتذكير هو من مواليد 1392هـ - أُلِّفت عن تجربته الشعرية «غير المعروفة» ستة كتب نقدية، كتبها نقاد من مدينة الاسكندرية في مصر، والكتب تحمل العناوين التالية:
1- قراءة غير عادية في تجربة حفيظ الدوسري الابداعية من تأليف: محمود عبدالصمد زكريا.
2- براءة الضد الجميل «قراءة في ديوان أغاريد العذاب للشاعر حفيظ الدوسري» من تأليف: محمود عبدالصمد زكريا إيضا.
3- إطلالة على الملامح الفكرية في شعر حفيظ الدوسري. من تأليف: إبراهيم عباس غانم.
4- المناهل الأثيرة في شعر نابغة الجزيرة. للدكتور. عبدالحق مبسط.
5- النزارية المعكوسة من تأليف د. عبدالحق مبسط.
6- أسلبة الرؤية من تأليف د. عبدالحق مبسط ايضا.
ولعل شاعراً يثير هذا الاهتمام النقدي ويؤلَّف عنه «6» كتب مرة واحدة، يجعل من لقب «نابغة الجزيرة» اسما على مسمى. ويجعل الساحة الأدبية السعودية مشغولة بأعماله الشعرية البالغة 15 ديوانا شعريا منها: شوارد البيان، لحظات ندم، انا وليلى، سرطان العصر، ليل الغربة، ضياع دار، أغاريد العذاب، سدرة الحرف وغيرها من الدواوين التي انتجها الشاعر في فترة وجيزة لا تتعدى السنوات الخمس.
الشاعر مكثر شعريا، (اصدر اعماله الشعرية الكاملة مؤخراً) وبالتالي لا نستغرب هذه الكتب الستة المؤلفة عنه ولا نستغرب وسمه ب «نابغة الجزيرة» ولا نندهش لتأسيسه داراً للنشر بالاسكندرية بعنوان «منشورات حفيظ الدوسري» ولا نعجب لتقليده للشاعر نزار قباني.
الشاعر «نابغة الجزيرة» ربما كتب شعراً بحسن نية، وربما فتح المجال واسعاً لكي يكتب له آخرون شعراً ونثراً، كما نجد في ديوانه الصادر في العام 2001م بعنوان «مياه الرهبة» فمن يقرأ قصائده لا يصدق ان من كتبه هو حفيظ الدوسري الذي كان ينشر شعره منذ سنوات قلائل في «بريد القراء» بالصحف والمجلات.
ان الدوسري الذي أُلِّف عنه «6» كتب، وهو ما لم يحدث مع اكبر الشعراء المعاصرين بالسعودية، وقع ضحية عملية «نصب نقدي»، فالكتب الستة لنقاد غير معروفين، وتحمل الكثير من الدجل النقدي. والكتاب الذي بين ايدينا «المناهل الاثيرة في شعر نابغة الجزيرة» هو نموذج فادح على هذا «النصب النقدي».
لن نتعرض لما جاء في الكتاب الآن، او لشعر حفيظ الدوسري المتواضع.. ونرجىء ذلك لمناسبات قادمة.. وحسبنا أننا وضعنا حيال القارئ هذه المعلومات التي تشكِّل إطاراً ما لنقد نفعي اخذ يستشري حول حركة الأدب السعودي في السنوات الاخيرة.
|