يلتئم جمعنا اليوم بهذه الوجوه النيرة في ساحة الثقافة والفكر والأدب، لنرحب أجمل ترحيب في مستهل موسمنا بضيفنا الكبير الأستاذ خالد بن حمد المالك، رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، بعد أن توقفنا كما جرت العادة خلال العطلة الصيفية، وكما جرت سنة الأقدار بأحداثها خيرها وشرها.. فقد ترجل فارس من خيرة من رعى الكلمة ورجالاتها في أكبر مؤسسة صحفية صاغت من اسمها «الشركة السعودية للأبحاث والتسويق» عقوداً من العطاء زانها صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن سلمان بن عبدالعزيز «رحمه الله» خلقاً وبذلاً ومحبة.. فنسأل الله - عز وجل- أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
كما رزئنا أيضا بفقد الصديق الصحفي الكبير الأستاذ نبيل خوري المبدع صاحب القلم النزيه فقد أسلم روحه لبارئها وحبال الود موصولة بينه وبيننا فقد ظل وفياً لمبادئه كما حرص رجالات هذا الوطن المعطاء على إيفائه حقه من العناية والرعاية، وكانت آخر لمسة إنسانية حظي.. بها الفقيد ما تفضل به صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض حين زاره في مرضه الأخير أثناء زيارته لأخيه صاحب السمو الملكي الأمير نواف ابن عبدالعزيز رئيس الاستخبارات العامة، الذي أجرى عملية جراحية تكللت بالنجاح ولله الحمد.. كما سعدت الاثنينية بتكريمه بتاريخ 13/6/1416هـ الموافق 6/11/1995م حيث قدم من باريس خصيصاً استجابة كريمة لدعوة الاثنينية وهي بادرة غير مستغربة على حبه للكلمة وواحاتها الوريفة.
وتجددت جراحاتنا أيضاً بفقد زميل عزيز، الأستاذ عبدالله باهيثم «رحمه الله» صاحب العبارة الرشيقة والأسلوب الأنيق راجياً المولى سبحانه وتعالى أن يكرم نزله ويجعله من أهل اليمين في جنات الخلود.
ولئن ساءتنا أزمان فقد سررنا بالقرب الجغرافي لمعالي الأخ الدكتورغازي القصيبي، في منصبه الجديد وزيراً للمياه، وهو قرب يجعلنا نجدد تطلعنا إلى استضافته في وقت قريب تكريماً لجهوده واستزادة من فضله وعلمه.
ونحمد الله الذي يغمرنا بأفضاله فتمتلئ جوانحنا بفيوضات أنواره بين الفينة والأخرى، مما يضفي علينا السعادة ويترك آثارها مرتسمة على هذه الوجوه الطيبة.. فيما أسعدنا هذه الأمسية باستضافة هذا العلم البارز الذي شهد له بلاط صاحبة الجلالة صولات وجولات.. ومن حسن الطالع أن يأتي هذا اللقاء لنفتتح به موسمنا بعد مرور عشرين عاماً على تدشين هذا المنتدى، الذي بدأ فعالياته بتاريخ 22/1/1403هـ الموافق 8/11/1982م .. شرفنا خلالها بتكريم ما يقرب من ثلاثمائة عالم وأديب ومفكر، من مملكتنا الحبيبة وبعض أنحاء العالم العربي والإسلامي.
أيها الأحبة سنبحر بعد قليل في رحلة ممتعة ربانها وفارسها ضيفنا الكبير، الذي عرفناه متمرساً في حقل الإدارة الصحفية، وهي علم وفن يختلف كثيراً عما ألفناه في إدارة المؤسسات التجارية والصناعية والمصرفية والخدمية لأن الإداري الناجح في هذا المجال يتعامل مع شريحة من المثقفين يشكلون ذؤابة مجتمعهم ولهم من سعة الأفق والمدارك ما يجعل التعامل معهم ممتعاً وصعباً في آن واحد.. الأمر الذي ينطبق على إدارة الجامعات وغيرها من مراكز الدراسات والبحوث.. فالإداري يقف في مفترق الطرق بين فن التعامل وتميز الفئات التي يديرها وبين مهامه وواجباته لتحقيق أهداف معينة تسعى الصحيفة للوصول إليها وفق جداول زمنية محددة.. وبالرغم من هذه المنعطفات الحادة، نجد ضيفنا الكبير يحمل ثقة لا حدود لها في نفسه، ومعاونيه، فيغرسها - كالفعل المتعدي في نفوس من يتعاملون مع الكلمة في موقع المبدع أو المتلقي.. وإن شئتم فاسمعوه يقول في مناجاة أقرب إلى الشعر:
الجزيرة اسم..
الجزيرة تاريخ..
باسمها نباهي..
وبتاريخها نعتد..
بهما ومنهما تبقى الجزيرة في الذاكرة..
تحفظ لنا ذاكرة الصحافة الفتية في بلادنا أن صحيفة الجزيرة رأت النور أسبوعية بتاريخ 20/2/1384هـ الموافق 30/6/1964م ثم تحولت إلى صحيفة يومية بتاريخ 12/8/1392هـ الموافق 20/9/1972م لتبدأ صفحة جديدة في رسالتها المهنية بهيئة تحرير رأسها ضيفنا الكريم على مدى ثلاثة عشر عاماً، تفتحت خلالها مواهبه الإدارية عن أكمامها ليعم شذاها مبنى الصحيفة، ثم ينطلق عبر صفحاتها إلى قرائها في كل مكان فكانت انطلاقة مباركة أساسها الحب والفهم المشترك لطبيعة المرحلة والعمل الدؤوب لبلوغ الأهداف التي رسمها بدقة مع الأساتذة أعضاء مجلس الإدارة للارتقاء بالصحيفة إلى مستوى وضعها بجدارة في مقدمة الصف الأول.
وأحسبكم توافقوني أن أجمل ما قدمه ضيفنا الكبير لم يأت بعد.. وقد وعدنا باستمرار البذل والعطاء وفق كلماته التي تشكل لوحة مشرقة، ونغماً تطرب له القلوب قبل الآذان فما أسعدنا برجل يجلس على قمة هرم التحرير في واحدة من صحفنا الرائدة حين يقول:
إن ما يهمنا تحقيق ما يرضي القارئ..
بأعمال صحفية مميزة..
في كل أيام الأسبوع
وعلى مدار العام..
وبإيقاع واحد...
مع اعترافنا بأن هناك مسافة كبيرة لتحقيق هذا الهدف..
وأن أمامنا الكثير لإنجاز استحقاقات هذا التصور.
إن هذا الأنموذج الرائع في العطاء يمنحنا مؤشراً ملموساً لنوعية الصحافة التي يمكن أن تثري حياتنا في المستقبل فالمسألة كما تعلمون لا تقوم على مقياس الكم من حيث عدد الصفحات، وجمال الألوان ونوعية الورق والطباعة - بالرغم من أهمية هذه المدخلات التي لا أقلل من شأنها في صناعة الصحافة- بل تتعدى ذلك إلى المضمون المهني والفهم العميق لطبيعة كل مرحلة، والاستجابة لمتطلباتها وفوق هذا وذاك احترام عقلية القارئ، في وقت انعدمت فيه حدود التبادل المعرفي مع انتشار شبكة الإنترنت ودخولها معظم مكاتب ومنازل المثقفين وحملة الرأي وطلاب العلم على اختلاف مشاربهم .. فقد اصبحت الحقيقة ملك الجميع وتوسع هامش الحرية الذي كان يتيح لنا النظر إلى الصورة من زوايا معينة إلى إمكانية النظر من كل الزوايا، تجسيم الحدث بكافة أبعاده لقراءته وفهمه والتفاعل معه بدون حساسية أو تفاسير لا ترقى لاحترام ذكاء المتلقي والتعامل مع الأمور بروح العصر ومعطياته.
ولضيفنا الكبير سبق في معالجة آلية توزيع الصحف من خلال انجازه التكليف الذي أنيط به لإنشاء الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع، فأسس بنيانها على قواعد ثابتة ثم قاد مسيرتها بصفته مديراً عاماً لها لمدة ست سنوات ساهم خلالها بجهد وافر في ترسيخ قنواتها وشق طريقها في دنيا التوزيع رغم صعوبة البدايات وجسامة التحديات .. مما رفع عن كاهل الصحف عبئاً وعنتاً كانا يثقلان مسيرة الصحافة في بلادنا لعقود طويلة في عمل سيخلد له ويجعله إضاءة فوق ما له من إضاءات تزهو بها صحفاته .. وبعد أن أدى رسالته خير أداء رأى رفاق دربه أن مكانه الطبيعي العودة لتسلم رئاسة تحرير صحيفة «الجزيرة» الغراء مرة أخرى فارساً متمكناً من أدواته في دنيا الكلمة وعشق الصحافة.
ومع تزاحم الأفكار والرؤى لا أنسى النواحي الإنسانية والروح الطيبة وعفة اليد، ونقاء السريرة التي يمتاز بها ضيفنا الكريم وتواضعه الجم، وعطفه الكبير على كل من شرف بالعمل معه.. فكلنا يعرف إغراءات المنصب الرفيع الذي يشغله ضيفنا الكريم، ولكم أن تتخيلوا حكم الهوى على التي يمكن أن تتراكم لمن يبيع ضميره بعرض الدنيا الفانية... إن هذه الصور الشائهة لم ولن تجد قط مكاناً في قاموس أو مسيرة فارس أمسيتنا لأن أخلاق الفروسية التي تشبع بها تعصمه بحمد الله عن الوقوع في حمأتها، ونسأله سبحانه وتعالى بنور وجهه الكريم أن ينير بصائرنا وأبصارنا ويحفظنا من مزالق الردى ومهاوي السوء.
أما الوفاء عند أخي خالد المالك.. فهو سجية نابعة من عمق ذاته وليس حلية مكتسبة تزول أو تبهت مع الأيام.. فللرجل مواقف عديدة تذكر فتشكر، في زمن عز فيه الوفاء، والاستفاضة في الحديث عنها يسلبها شيئاً من حميميتها، وأعلم أنه يحبها طي الكتمان لترتقي في درجات الإحسان.
إن الحديث عن ضيفنا الكريم مما يستهوي النفوس، خاصة أولئك الذين تفاعلوا معه عبر مختلف محطات العمر، إلا أن واقع الحال يحتم علينا ترك أكبر مساحة زمنية ممكنة لفارس الأمسية ليحدثنا عن مسيرته وذكرياته .. لذا آمل من الاخوة الزملاء الذين سيمتعوننا بكلماتهم تأطيرها في حدود خمس إلى سبع دقائق، وقد سبق أن الححت على ذلك في مناسبات سابقة ولكن يبدو أن صوتي لم يصل إلى غايته .. ومن ناحية أخرى أرجو من الأساتذة الذين يودون المشاركة بكلماتهم أن يتصلوا بسكرتارية الاثنينية قبل وقت كاف حتى تتاح الفرصة حسب أسبقية طلب الكلمة.. أما الكلمات التي سوف لن نسعد بسماعها لضيق الوقت فيمكن تمريرها إلى سعادة المحتفى به عقب الحفل، على أن يتم تضمينها في الجزء الذي يحوي فعاليات الأمسية من سلسلة الاثنينية، ويشار إلى أنها من الكلمات التي وردت إلى «الاثنينية» ولم تلق في الحفل، مراعاة لأمانة التوثيق.
أهلاً وسهلاً ومرحباً بضيفنا الكبير، وعلى أمل أن التقي جمعكم الكريم الاثنينية القادمة لنسعد بتكريم العالم الثبت، فضيلة الأستاذ الدكتور محمد بن هادي أبو الأجفان.. الأستاذ بقسم الدراسات العليا الشرعية - كلية الشريعة- جامعة أم القرى.. وفضيلته عالم تونسي له مكانة مرموقة بين نظرائه، وقد بلغت مؤلفاته في مجال تحقيق التراث أكثر من ثلاثين مؤلفاً، وله من البحوث والدراسات في أصول الفقه والاجتهاد والأحكام أكثر من مائة وعشرين بحثاً.. آملاً أن نلتف حول فضيلته لنشرف بتكريمه وننهل من معين علمه وفضله والسلام عليكم ورحمة الله.
عبد المقصود خوجة |