«ليس كل من لا يعمل يعتبر عاطلاً، فهناك من لايرغب العمل إلا إذا كان الراتب يفوق ما يقدم له وهذا ليس بطالة، اضافة الى ان هذه المرحلة أوجدت بطالة احتكاكية بسبب تغير هيكل الاقتصاد وبرزت الى السطح أعمال ووظائف جديدة بحاجة الى مهارات جديدة».
أعجبتني هذه المقولة التي دونتها قبل أشهر عندما نشرت في الصحف على لسان الدكتور عبدالواحد الحميد أمين عام مجلس القوى العاملة، ومكمن اعجابي هو التشخيص الدقيق لواقع معاش ويجب أخذه في الحسبان عند الحديث عن السعودة وهو حديث بات اليوم يتصل بقضيتين أساسيتين الأولى هي البطالة، والثانية التعليم، والعلاقة الثلاثية بين الجميع هي المواطن السعودي والمواطنة السعودية التي ادخلها التعليم والتأهيل المستمر الى خارطة العمل والى أي حديث أو نقاش حولها.
نعم إن هناك من يبحث عن العمل ويملك المهارات ولكنها ليست المهارات المطلوبة لتلك الوظائف المطروحة مما يؤكد ان هذا النوع من البطالة يحتاج الى اعادة تدريب وتأهيل للشباب الباحثين عن العمل في الوقت الذي لا زالت المملكة بحاجة الى عمالة وافدة في ظل ارتفاع عدد الوظائف المطروحة «في بعض المجالات فقط وغالباً هي مجالات فنية وتقنية» والتي تفوق عدد الباحثين عن عمل من السعوديين.
ولعل المهم أيضا الاشارة الى ان نسب البطالة التي يتم تداولها اعلاميا وأكاديميا ليست دقيقة بالشكل الذي يمكن بناء القرارات عليها إذا كان واقع الحال هو ما يشير اليه الدكتور الحميد ونلمسه جليا بأنفسنا التي توقن ان قضية السعودة أو قضية البطالة كلاهما متوازيان وربما كانت نقطة التقائهما هي التعليم والتدريب واتاحة الفرصة.
وعند الحديث عن اتاحة الفرص لابد من التعريج على صندوق تنمية الموارد البشرية الذي يطمح ونحن نفعل معه ان ينجح في توظيف وتدريب حوالي 50 ألف شاب سعودي سنويا وتأهيلهم للعمل في القطاع الخاص خصوصا في ظل توفر قوائم كبيرة للمهن التي خصصت للتوطين اضافة الى مهن أخرى دخلت مراحل الدراسة، وتجربة الصندوق مع ما نلمس من تعاقداته مع الشركات واتفاقياته مع أكثر من طرف ومن بينها برنامج التدريب المشترك بالتعاون مع الغرفة التجارية الصناعية في الرياض ومؤسسة التعليم الفني وشركات القطاع الخاص حرية بالتشجيع وحرية بذكر أهم محاسنها ألا وهي ادخال الشباب في التجربة العملية، وبمعنى أدق مساعدتهم على الولوج الى عالم وظائف القطاع الخاص الميدانية والمكتبية، والفنية، وغيرها لأن كسر هذا الحاجز بين طالب العمل والجهة الموظفة يعتبر بداية الطريق فالصندوق لن يستمر في دفع نسب من الرواتب الى الأبد لجميع من نجح في توظيفهم لكنه يدرك ان الحريص الجاد على العمل سيثبت مهارته ودأبه بعد مرور السنة أو السنتين ويمكن حينئذ تركه والاتجاه لدعم شاب آخر وهكذا دواليك.
الحكومة من جانبها تطمح على السير في اتجاهين عند الحديث عن القوى العاملة وتوطينها.
الأول: قصر بعض الوظائف على السعوديين، والآخر: هو الاحلال التدريجي لتوطين العمالة السعودية بدلا من العمالة الوافدة، وفي الحالتين أو الاتجاهين هناك تأكيد على ضرورة اعادة النظر في التعليم والتأهيل لسوق العمل خصوصا وان العاملين من خريجي الجامعات السعودية هم من المتخصصون في العلوم النظرية وهذا لم يعد مجدياً للمرحلة الحالية.
التعليم بمفهومه التقليدي تغير وأصبح الآن وسيلة وأداة اقتصادية يشكل الأساس الأهم لبناء المجتمع المعرفي والذي أصبح الركيزة الأولى لقيام الاقتصاد الجديد، والعالم اليوم يعيش بأكمله تفاعلاً لانتاج المعرفة، ففي فترة 17 قرناً تضاعفت العلوم والمعرفة ثم تضاعفت مرة أخرى خلال فترة الثلاثة قرون الأخيرة والآن يبلغ معدل تضاعفها كل ثلاث أو أربع سنوات.
العالم بأجمله يتجه بقوة اليوم نحو ما يعرف باسم «مجتمع المعرفة» وتحول الرأس المال البشري وهو ما يعادل المستوى التعليمي الى أحد أهم الموارد واستطاعت ثورة المعلومات ان تيسر الوصول الى المعارف، ومن هذه الملاحظات يتضح جلياً انه من المستحيل تعليم وتعلم كل شيء وبالتالي فإن العلاقة بالمعرفة في العالم الذي نحن جزء منه ستكون نسبية وهذا يستدعي الى التركيز على مهارات محددة من ضمنها المقدرة على التحليل والبحث والقدرة على التساؤل وبناء معرفة انطلاقا من قاعدة المعلومات، والمقدرة على الاختيار بين المعلومات وانتقادها، والقدرة على الاستقلالية الذاتية، وعلى المبادرة وعلى العمل الجماعي وعلى قبول الآخر والتكيف في عالم متغير وبعبارة أخرى يجب أن تكون النسبة التي نطمح اليها هي أولا ما نحتاج اليه، ثم ما نتوقع ان نحتاج اليه قريباً، وهكذا دواليك.
ولو راجعنا معطيات المنافسة الاقتصادية بين الدول حاليا سنجد ان الاقتصاد الجديد المبني على مجتمع المعرفة وهو نتاج ثورة التقنية والاتصالات مفتاحه ورأس ماله هو العنصر البشري، وجاهزية العنصر البشري تعتمد بشكل رئيسي على النظام التعليمي ومدى جاهزيته وملاءمته لاحتياجات هذا العنصر وبالطبع لاحتياجات أمته ومجتمعه، وحتى يتلاءم هذا النظام لابد من احداث تغييرات في تركيبته تنطلق من مواءمة مخرجات هذا التعليم مع الحاجات الفعلية الحالية للعمل والابداع، ومع ما يتوقعه العالم من خلال تطورات متلاحقة، فالسكرتير الذي كان يكفيه مهارة الطباعة وحفظ الملفات كمؤهل لأداء وظيفته، أصبح اليوم يحتاج الى معرفة ثلاثة أو أربعة برامج حاسوبية مختلفة، والتعامل مع أكثر من جهاز تقني بعضها معقد، والتحدث بأكثر من لغة حية، وعلى ذلك يجب القياس فالعامل في مصنعه، والميكانيكي في ورشته، والمبرمج في معمله أصبحوا جميعاً يستخدمون الكمبيوتر، وبالضرورة فإن استخدامه سيتوسع ويشمل معظم أنواع الأعمال والوظائف.
ولست هنا في صدد تكرار المطالبة بتطوير التعليم خصوصا وان خطوات مهمة بدأت تجري فبهذا الاتجاه مع تزايد المعاهد المتخصصة وتزايد التخصصات العملية في أكثر من كلية ومعهد خاصة تلك المملوكة للقطاع الخاص، لكنني بصدد التفكير بصوت جماعي حيال ضرورة ترسيخ هذه المفاهيم لدى طالبي العمل، فإذا كان ما حصلوا عليه من تعليم أو تأهيل لا يكفي أو ربما هو كثير لكنه لا يناسب متطلبات الوظيفة، فإن الاحتياط يقتضي تجنب هذه السلبية في الخرجين الجدد بعد عام أو عامين والى الأبد عبر تنسيق أكثر، وعبر أهم عقبة تواجه قضية السعودة وهي قاعدة البيانات الواضحة والدقيقة لحجم المعروض من فرص العمل، ثم حجم المعروض من الوظائف فهناك فرق شاسع بينهما، ثم في المقابل معرفة حجم المعروض من الأيدي العاملة المواطنة التي يمكن ان تلبي الطلب الحالي والمستقبلي، وباضافة الخريجين الجدد، والفرص الجديدة سنوياً أو دورياً يمكن الحصول على مؤشرات ستساعد أصحاب القرار على اتخاذه بصورة مبنية على أساس علمي دقيق.
وعوداً على بدء فإن القضية لم تعد من وجهة نظري المتواضعة هي سعودة الوظائف، بل انها باتت اليوم سعودة العمل، أو فرص العمل فمن يتأهل للأعمال الفنية أو التقنية أو أعمال المبيعات وخلافها لا يحتاج الى من يوظفه، هو يستطيع العمل ويستطيع إذا توفرت لديه القناعة الكاملة أن يخلق لنفسه فرصتها، وأن يكون صاحب عمل حر أو مهن حرة مثل ملايين الأجانب في البلاد الذين يخوضون التحدي نفسه لكن من منطلقات مختلفة وبطرق ربما تكون مختلفة، وحسب الشباب أن ينظروا الى المقومات التي يملكونها ولا يملكها منافسهم القادم بدون أي مؤهل سوى المؤهل الكبير والمهم وهو الاستعداد للعمل.
وختاماً فإذا كان التعليم والتدريب مهمين للتأهيل فإن بث روح وثقافة العمل في الناشئة أيضا مهمة جداً وتقع على عاتق جهات التعليم نفسها من جهة، وعلى عاتق المجتمع فالمجتمع الذي يحترم قيم العمل ويشجع عليها سيكون مجتمعاً متحضراً ينتج الأيدي العاملة ويبنيها علميا وعمليا ونفسيا ويحيطها بسياج اجتماعي متين يعينها على الانجاز والابداع، فهلا فكرنا ملياً في سعودة العمل من خلال هذه المنطلقات سواء كنا أرباب عمل، أو أولياء أمور أو مسؤولين حكوميين معنيين بهذه القضية الاستراتيجية والمهمة لمستقبل بلادنا وأعمدة اقتصادنا وانتاجنا.
|