إعداد: عبد الحفيظ الشمري
توطئة:
في نصوص أربعة منتقاة يطل القاص زياد السالم على المشهد السردي واسماً هذه النصوص بعنوان «وجوه تمحوها العزلة» آتية على هذا الترتيب: مرثية رجل الظل، سنوات العزلة، أعشاش القصب، حضوضا.. واقعة في نحو «50 صفحة» من القطع الصغير..السالم في هذه المجموعة يبكي.. نعم يبكي في الخفاء؛ كما يليق برجل هده العناء اليومي، وأثقلته اللواعج، ومع هذه النوبات البكائية يكتب، وفي العتمة الجديدة؛ المسماة صبح الكاد حين يتفرس قسمات الوجوه الغاربة في العزلة.. لم تكن تلك الوجوه سوى افرازات مكابدة ابن الصحراء، وحيرته الى أين ينتسب ولاؤه..؟، أين يذهب.. ومع من يأتي؟ بعد سقوط الصحراء فريسة لأهل الأسوار الأسمنتية.. والأسلاك الشائكة.. أترى زياد يدفع بشخوصه نحو النهاية نحو السكنى في غابات الأسمنت المتسامقة؟
حيرة الانسان «رجل الظل» في القصة الأولى من المجموعة هي تلك الحالة التي تأخذ من المكان «المقبرة» صورته المحيرة، والحرية بالحزن والهلع من مآل الأحلام الى الفناء، والتواري في أي قبر من هذه القبور المنتظمة والصامتة.
يرسم الراوي للأحداث في القصة وجه الحزن «الرجل/ المقبرة» في ثنائية لا تلبث إلا وتهيل الأحزان الفطرية المنتقاة.. تلك اللواعج التي تنثال من انسان هذا الزمان.. الرجل الذي يفر من كل منغصاته نحو المقبرة ليستعيد هذه التفاصيل اليومية ويدونها بلغة أهال عليها من كرم المجاملة ما ولد الكثير من المرادفات اللفظية التي تصب في سياق البحث عن مفردات مؤثرة وقوية.. «المقبرة، الخراب، جذوع الأثل، جنون حمود، المعتقل، الإهانة، التيه، القطران، العث..حول هذه القضايا والتفاصيل كان لنا مع القاص زياد السالم هذا الحوار حول مجموعته من خلال «نافذة على الابداع» والذي جاء على هذا النحو:
* وجوه تمحوها العزلة - رؤية تمثل حيرة الانسان وقلقه.. الى أي مدى يصور القاص زياد هذا المآل لأحلام رجل الظل؟
- ثمة مباهج عميقة الواقع في التعرف الأولي على الأشياء، لكن رجل الظل الموبوء بالحزن، الذي استيقظ على واقع بشع، متفرساً في قتامة المشهد المعتم وقد انخرطت الموجودات في البكاء، فقد لذة الاستكشاف ولم يعد قادراً على الغناء.. لهذا آثر العزلة هارباً من الجميع، متكئاً الى جذع نخلة مختبئة في زحمة الخرائب المهجورة. مكتفيا بالتأمل الاستجوابي بعد ان صودرت أحلامه الصغيرة قسراً، ليجد نفسه وحيداً في العراء يحمل سجلاً معبأ بخبرات فشل ترزح تحت الارتكاس.
* ترسم يا زياد للأحداث وجهاً يضوع حزناً.. أهي فطرية منتقاة لتلك اللواعج والانثيالات؟
- بربك.. هل هناك وجة آخر غير الحزن؟ ما لونه. ومن أي كوكب هبط؟ دلني إليه.
ينتابني سؤالك هذا فتلتمع على شاشة الذاكرة صورة «غزالة» حافظة كتاب الثأر،، في «فيضة الرعد».. كيف لها ان تفرح في «زمن حدران الكيس»؟
أمام كل هذه القوى الاعتباطية في الطبيعة، بله ضلوع القوى الظلامية المدمرة لكل ما هو انساني وجميل في مسخ الآخر ذي الرؤية المختلفة.. تنعدم القيم الانسانية الى درجة الصفر وتتحول علاقة التكافؤ الانساني الى علاقة التشيؤ.. أحد أطرافها ينتهي الى التلاشي التام.. ومن هنا يبدأ الكف الذهني ومن ثم الانحدار الى مرتبة اللامبالاة.. إنها عملية تبخيسية لاعطاب الروح المتوثب.
* اعتمادك على المكان «المقبرة» هل هو ناتج عن مؤانسة حميمية لتلك التفاصيل التي عشتها كإنسان؟
- كلنا «فاوست».. لكن الزمن الجميل لا يقف!
وكما غنى سعد الله ونوس ذات مرض «نحن محكومون بالأمل» معزياً نفسه مخافة الموت، كنت متأهبا للغد البهيج المشغول بالأطفال والأغنيات.. كنت عرافا يجوس خارطة المدينة حارة حارة بيتا بيتاً وشارعاً شارعاً. على كتفي «شماغ مهترىء» وفي عيني بكاء عتال على رصيف.. تلك الأيام الخوالي بتفاصيلها الماتعة والمفزعة.. لحظتئذ استيقظت على ولد في ميعة الصبا يختبىء عن أهله في المقبرة المحاذية لبيتهم القديم. ممعناً بقراءة «ألف ليلة وليلة» هذا الولد المؤذي والمتماهي مع الكائنات الميتة، حرن ولم يبارح مكانه، لأنه ملتاث أبداً بالنهايات، شرع يطرز في قماشه الأفق أكفاناً بيضاء لجثث سوداء رؤوسها كعرائس الذرة.. هذا الولد الذاهل بين القبور، ما انفك يبكي، علّه يشتاق الأمس.
* لسان الراوي في المجموعات يتفنن في إذاعة أدق التفاصيل، هل هناك هي خبايا ذلك المجهول الذي يعرفه زياد السالم؟
- ما يدهش حقاً، هو فرار الراوي الى تلك التفاصيل الموحشة في الوقت الذي لا يملك فيه سوى الفرار، بغية الخلاص من ذلك المجهول الذي يتسلل اليه متنكراً في هيئة طفل أو كهل شحاذ..
حتى وهو في حضن أنثى يتسلل اليه، يتعقبه في كل مكان. انه الفعل العقابي بتكاليفه الباهظة، يشتغل بالخفاء، فيا للخوف!.
* مخابىء الذاكرة تلوذ بأعطافها طفولة مقموعة، ويفاعة مقهورة، وشباب لا يتقن سوى النكت البذيئة.. كيف توزع على النصوص هذه الاستدراكات الحياتية؟
- أنا لا أوزعها، ولكني أعيشها بالفعل لحظة الكتابة الابداعية.. أعيشها مرة أخرى مأخوذاً بضبابة الحلم، كيما استرجع ذاتي المفقودة.. أو أن أقوم بتصفية كل الشروط الحياتية المتواضع عليها.. بي رغبة ما خفتت.. كطائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد ليواصل رحلته الأبدية من جديد.
* احتواء النصوص على الحالتين الزمانية والمكانية جاء مكشوفاً ومحدداً. هل هي مصادفة أم ترتيب واعٍ في كتابتك؟
- بل ترتيب واعٍ في كتابتي.. وحضور الحالة الزمانية في الفن القصصي والروائي جدٌّ مهم لأنه الأرضية الحاضنة والسقف الأفقي المفتوح لمسرح الكائنات المتحركة ضمن الأجواء والمناخات الحية.. كما ان المكان يفرز ذاكرة مشتركة - جماعية - تلون أهل هذا المكان وتحدد ما هيتهم.. خذ مثلاً أعمال سليم بركات التي غاب فيها الزمان والمكان لم يكتب لها الحياة لأنها هلامية تنسرب في بحر من التوهيمات والعدم.وفي المقابل فإنني لا أقدم المكان والواقع كما هو، وإنما استبطن أشياءه وأخلع عليه من نفسي بغرض أسطرة الواقع وترتيب المكان كما أراه.
* في السياق العام للقصص تظهر بجلاء عزلة الشخوص ودوامة المتاهة المعاندة الى أي مدى يمكنك محاولة كسر هذه العزلة؟
- يرمي الانسان نفسه في أحضان الدنيا طالبا متعة لا تنتهي - وهو بذلك يحاول تجاوز الاحساس بالموت، بيد أنه أبداً يخفق!.. نتذكر جيدا بطل شكسبير، الهارب من نفسه الى الناس - يكاد يتلاشى مغتبطاً في ازدحام البشر، لكنه في نهاية المطاف يقع بفخ نفسه ويفنى!.. إذن حتى الذوبان في الذوات الأخرى هو وجه من وجوه العزلة.. لكن دعنا نطرح مع ميلان كونديرا سؤالاً مختلفا جذرياً: ما هي امكانات الانسان التي تبقت له في عالم باتت فيه الأسباب الخارجية ساحقة الى حد لم تعد معه المحركات الداخلية تزن شيئاً؟ في رواية «المزحة» يرى «لودوفيك» جميع أصدقائه وزملائه يرفعون أيديهم للتصويت بسهولة كاملة على طرده من الجامعة وبالتالي على قلب حياته رأساً على عقب، وهو على يقين من أنهم قادرون لو اضطر الأمر على التصويت بالسهولة ذاتها على اعدامه إنها دوامة اللايقين! فهل هناك أحد يستطيع كسر الهرير الجنائزي؟
أشك في ذلك.
اشارة
*وجوه تمحوها العزلة «قصص»
*زياد عبد الكريم السالم
*دار أزمنة - عمان 2002م
الطبعة الأولى
|