سيبقى 21 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 18 أيلول/ سبتمبر 1932م من الأيام المشهودة في حياة المملكة العربية السعودية، وعلاقاتها العربية والإسلامية والدولية ففي ذلك اليوم التاريخي، وقع مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة، المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود مرسوم توحيد أجزاء المملكة العربية السعودية واعتبر يوم 23 أيلول/ سبتمبر من كل عام يوماً وطنياً لاحياء ذكرى هذا الحدث الكبير، إذ لم تعد هناك إمارة نجد، ولا إمارة الحجاز (أو مملكة) ولا أقاليم مستقلة أو شبه مستقلة، وإنما هناك مملكة قوية واحدة وموحدة - تحت قيادة مركزية ذات سلطة واحدة، ولم يكن أمراً عجباً في سياسة مؤسس المملكة، ان يقترن العمل لبناء الدولة الواحدة مع العمل لتوحيد الجهد العربي، ودعم كل ما من شأنه تقوية الروابط العربية - العربية على طريق التكامل العربي والوحدة العربية، وكذلك كان من طبيعة الأمور ان تتركز جهود المملكة في المرحلة المبكرة نشرتها على اعادة تنظيم الجبهة الاسلامية، وتطوير علاقات الشعوب الاسلامية بعضها ببعض في زمن كانت كل جهود أعداء العرب المسلمين موجهة لتفتيت الوجود العربي والإسلامي وكانت تلك قصة القلعة العربية.
على طريق الوحدة العربية
أصبح من المعهود ان تعمل وكالات الانباء العربية والدولية على متابعة ونقل ما يتضمنه جدول أعمال مجلس الوزراء السعودي من وقائع في جلسته الدورية الاسبوعية حيث عادة ما تبدأ الجلسة باستعراض الاحداث على الساحتين العربية والاسلامية علاوة على المسرح الدولي، وقد اعتبر ذلك بحق برهاناً على السياسة الاستراتيجية الثابتة والمبدئية للمملكة ومثال ذلك ما صرح به سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني في جلسة مجلس الوزراء يوم 2 أيلول/ سبتمبر 2002م تعقيبا على مباحثات مع الرئيس السوري بشار الأسد في الأسبوع السابق بقوله: «لقد جاءت هذه المباحثات ضمن المشاورات الثنائية الهادفة التي تصب في مصلحة الأمتين العربية والإسلامية وتناولت المباحثات التطورات التي تشهدها الساحة العربية». وتظهر هذه المقولة على ايجازها مجموعة من الحقائق لعل من أبرزها:
أولاً : ان صاحب السمو الملكي لم يتعامل في مباحثاته الثنائية من خلال المصلحة السعودية ولا من خلال المصلحة السورية ولكنه انطلق فيها من مصلحة الأمتين العربية والإسلامية.
ثانياً: ان هذه المباحثات الثنائية قد أصبحت الوسيلة المناسبة - والفعالة - لتنسيق المواقف العربية والإسلامية في مواجهة ما يحدث من تطورات متسارعة على الساحات العربية والإسلامية والدولية.
ثالثاً: ان المملكة العربية السعودية، بما تمثله من صدق ومن التزام مبدئي بقضايا العرب والمسلمين وحتى القضايا العالمية والإنسانية هي الملاذ الذي تتوجه إليه الانظار.
وخلال بيان في سبتمبر 2002م عن الرياض - جاء فيه: وقعت المملكة العربية السعودية وليبيا في جدة اتفاقية للتعاون الاقتصادي والاستثماري والفني والثقافي والرياضي والشبابي وستساهم هذه الاتفاقية التي وقعها عن الجانب السعودي الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية، وعن الجانب الليبي الدكتور علي عبدالسلام التريكي أمين اللجنة الشعبية العامة للوحدة الافريقية في تطوير ودعم العلاقات الثنائية والتعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بما في ذلك المجالات الصناعية والبترولية والبتروكيماويات والزراعة والشؤون الصحية وتبادل المعلومات المتعلقة بالابحاث العلمية والخبرات الفنية بين البلدين، إضافة إلى تشكيل لجنة مشتركة من الجانبين تجتمع للتشاور في الاجراءات والتدابير اللازم اتخاذها لتعزيز التعاون الثنائي في جميع المجالات المشار إليها في الاتفاقية.
ويبدو واضحا أن هذه الاتفاقية وبما تضمنته من مبادئ عامة للتعاون بين البلدين، إنما هي اتفاقية (وحدة غير معلنة) إذا ما جاز التعبير، فالوحة - أو الاتحاد - أو أي شكل متطور من العلاقات بين الدول، لا يمكن أن يتحقق بدون الالتزام بمثل هذه الاتفاقات واعتمادها قاعدة لبناء المستقبل المشترك، إذن فقد تجاوزت المملكة العربية السعودية والجماهيرية الليبية الشكل الدستوري لقيام الوحدة بينهما - ووصلتا مباشرة الى جوهر الوحدة الحقيقية، وتبقى قضية الشكل الدستوري للوحدة (العلم والنشيد الوطني وشعار الدولة وسواها) قضية تابعة للهدف الوحدوي وليست قضية متقدمة عليه، وذلك هو الطريق الصحيح لبناء العلاقات العربية - العربية في إطار كل التجارب الوحدوية الحديثة.
ويمكن بالتالي القول إن الاتفاقات الثنائية التي أبرمتها المملكة مع دول عربية - أو تلك التي يمكن ابرامها - قد تتباين في مستوياتها، وقد تختلف في اشكالها ومضامينها ولكنها تتفق بالتأكيد على حقيقة واحدة وهي تحديد معايير الطريق الواضح والصلب لمسيرة بناء الوحدة العربية، ووقفة عجلى أيضا عند تطوير العلاقات السعودية اليمنية التي تشكل بدورها أمثولة للعلاقات الثنائية على طريق الوحدة وقد لا تكون هناك حاجة ولا ضرورة لاستعراض مسيرة الأحداث لهذه العلاقات ذات الجذور التاريخية، والتي تعود إلى أيام اعادة تأسيس المملكة العربية السعودية حيث كانت تنقية الحدود المشتركة تشكل نوعا من التوترات غير المحمودة، وغير المرغوب فيها، وقد أمكن الوصول الى تسوية (لما يعرف حديثا باسم ترسيم الحدود) دون تدخل خارجي، وفي إطار مجلس التنسيق السعودي - اليمني الذي يرأسه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام وهيئة يمنية يرأسها رئيس الوزراء الدكتور عبدالقادر باجمال، وكان في جملة أعمال هذا المجلس اتخاذ قرار في حزيران/ يونيو 2001م بأن تقوم المملكة بتقديم قروض بقيمة 300 مليون دولار من أجل تمويل عدد من مشاريع التنمية في اليمن، وفي اجتماع يومي 15-16 حزيران/ يونيو 2002م تم التوقيع على وثائق اتفاقيتي النقل البري والبحري وكذلك التوقيع على مذكرة تفاهم للتعاون والتنسيق بين وزارة خارجية البلدين ومشروع اتفاقية للتعاون البريدي.. وإلى جانب ذلك تمت مناقشة القضايا ذات العلاقة بنظم وآليات عمل مجلس التنسيق الأعلى للوصول إلى درجات متقدمة من التكامل الاقتصادي والتنموي والثقافي بين البلدين وأعلن يوم 6 تموز/ يوليو 2002 انه تم التوقيع على اتفاقية مبادئ لانشاء خط أنبوب للبترول من المملكة العربية السعودية الى أحد الموانئ اليمنية على البحر العربي بين وزارة النفط والمعادن اليمنية والشركة المتحدة لخطوط أنابيب البترول السعودية، وصرح وزير النفط اليمني (رشيد صالح بارباع) أن هذه الاتفاقية هي حدث تاريخي يلبي امال وتطلعات البلدين، إذ إن مزايا المشروع من الناحية الاقتصادية تتمثل بالنسبة للجانب اليمني بترسيم العبور للنفط الخام وتشغيل العمالة اليمنية في منشآت التخزين وميناء التصدير، إضافة الى زيادة حركة النقل من وإلى الموانئ اليمنية.
هل يمكن بعد ذلك الحديث - ولو بكلمات قليلة - عن موقع فلسطين في لقاءات المملكة الثنائية وفي مؤتمراتها العربية، في محيط الجهد العربي والمحيط الإسلامي، في المؤتمرات القارية أو الدولية؟ لقد احتفظت القضية الفلسطينية منذ بداية تنفيذ المشروع الصهيوني في أعقاب الحرب العالمية الأولى 1918 وحتى اليوم في مطلع القرن 21 وهي ستبقى كذلك في الموقع الأول من اهتمام المملكة العربية - ملكا وحكومة وشعبا - ذلك أن القضية الفلسطينية بالنسبة للمملكة هي قضية عربية وقضية إسلامية، قضية مبادئ وقيم، قضية قومية وقضية إنسانية، ويمكن ضمن هذا الإطار وضع المبادرة السعودية التي اعتمدها مؤتمر القمة العربية العادية الرابعة عشرة (قمة بيروت) التي استمرت من 27-28 اذار/ مارس 2002م وفيها ألقى صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني كلمة تضمنت (مبادرة السلام العربية) التي كان من أهم بنودها:
1- الطلب من إسرائيل اعادة النظر في سياساتها وان تجنح للسلم معلنة أن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي.
2- الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو/ حزيران 1967م والأراضي التي مازالت محتلة في جنوب لبنان.
3- التوصل الى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (194)،
4- قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو/ حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة تكون عاصمتها القدس الشرقية.
الريادة الإسلامية ومرجعيتها
وهكذا فإذا ما كانت قضية فلسطين هي قضية بالنسبة للمملكة العربية السعودية ذات أبعاد عربية وإسلامية وإنسانية متلاحمة كل التلاحم كمثل تلاحم سدى النسيج بلحمته، وإذا ما تم التعرض للسياسة الاستراتيجية للمملكة من منطلقاتها العربية على نحو ما سبق ايجازه فإن ذلك بهدف الدراسة والبحث فقط، إذ يبدو انه من المحال فصل او تجزئة هذه المنطلقات أو فصل الابعاد العربية عن الابعاد الاسلامية أو الانسانية أو العالمية من الناحية العملية والواقعية، ويبدو ان ذلك كان من قدر المملكة العربية السعودية اقترن ظهور المملكة واعادة بنائها بانحلال الدولة العثمانية الاسلامية، واعتماد الدولة التركية طريق (العلمانية) بديلا عن الاسلام، فغابت بذلك شمس المرجعية الاسلامية التي كانت توحد العالم الاسلامي لأكثر من خمسة قرون من عمر الزمن، وتشكلت في الهند (جمعية الخلافة الاسلامية) فكانت ظهيرا للمملكة ونصيرا لها ويذكر هنا أن مؤسس المملكة - المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز - قد أدرك هذه الحقيقة فبدأ بالعمل لاعادة توحيد المسلمين واخراجهم من مأزقهم، ومشاركتهم في الرأي والشورى، ومن ذلك على سبيل المثال كتابه في الأول من ربيع الآخر 1344هـ - 1924م الذي وجهه الى الحكومات والشعوب الاسلامية وطلب فيه عقد مؤتمر إسلامي لتقرير مستقبل الحجاز وشجعته (جمعية الخلافة في الهند) على جهوده وفي سنة 1355هـ - 1936م طرح الملك عبدالعزيز معاهدة للوحدة العربية حملت اسم (معاهدة اخوة عربية وتحالف).
وبعد ذلك جاءت تطورات كثيرة على الاتجاهين العربي والإسلامي، فيما استمرت جهود المملكة على الاتجاهين لمجابهة كل الانحرافات ومعالجة كل الثغرات ونقاط الضعف وكان من ذلك على سبيل المثال (المنظمة الاسلامية) و(البنك الاسلامي) و(المجلس الاسلامي العالمي) علاوة على ما تبذله المملكة من جهد في بناء المساجد في كل القارات وإقامة طباعة خاصة للقرآن الكريم وتنظيم المؤتمرات الاسلامية ودعم بلاد المسلمين في المحن والكوارث والنكبات (الطبيعية وغير الطبيعية) وإقامة مجمع للفقه الاسلامي والدفاع عن قضايا العرب والمسلمين في كل مكان من العالم (ومن أبرز ظواهرها الحديثة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز) دعم أفغانستان في محنتها ودعم البوسنة والهرسك ودعم كوسوفو ودعم باكستان ودعم الاقليات الاسلامية في كل أصقاع الأرض، والقضية هنا ليست بالتأكيد قضية (دعم مادي) بقدر ما هي قضية تأكيد لوحدة هذا العالم الاسلامي، وبأن المسلم أينما كان موقعه من أرض الدنيا فهو في رعاية الله عز وجل ومع اخوة في الله يعيشون معه همومه الدنيوية ويشاركون في حدود الاستطاعة بما تفرضه هذه الاخوة.. وبذلك احتفظ المجتمع الاسلامي بقدرته على أساس انه جسد واحد، إذا أصيب عضو منه تداعت له سائر الاعضاء بالسهر والحمى.
وتبقى قضية الريادة الاسلامية ومرجعيتها بالنسبة للمملكة العربية السعودية هي قضية أكبر بكثير من مجرد كونها تقديم الدعم والمساعدات لمشاركة المسلمين شعوبا ودولا في ايجاد حلول لمشكلاتهم الحياتية، انها وببساطة قضية دعم الوجود الاسلامي في حاضره ومستقبله، وهي بالتأكيد ليست مسؤولية المملكة العربية السعودية بشعبها وحكوماتها وتنظيماتها وملكها بقدر ما هي قضية كل مسلم ملتزم بما أنعم الله عليه من نعمة الايمان والاسلام، وبالتالي فإن قيام المملكة بكل ما هو مستطاع للاضطلاع بالأمانة وهي أمانة ثقيلة تنوء الجبال بحملها لا يعفي المسلمين أفراداً وجماعات من الاضطلاع بقسطهم في حمل هذه الأمانة، ولكن هل تستطيع كل الجهود - الفردية والاجتماعية - ان تضطلع بدورها إن لم تكن هناك ريادة ومرجعية؟ أليس التنظيم هو النهج الذي لابد من اعتماده لتحقيق النجاح في أي عمل مهما كان نوعه وهدفه؟ وهل حصلت المملكة العربية السعودية على موقعها الريادي ومرجعيتها - المعترف بها عربيا وإسلاميا ودوليا - إلا بفضل تنظيمها الدقيق ومتابعتها المستمرة لأحوال المسلمين وقضاياهم؟ قد يكون من الصعب الاحاطة بما قدمته المملكة من مساعدات - مادية ومعنوية - للشعوب الاسلامية وتنظيماتهم الاجتماعية والانسانية، وما تم تحقيقه من انجازات لبناء المستقبل الاسلامي المشترك، سواء في البلاد العربية والاسلامية أو في المهجر، إذن فعندما يتم الحديث عن الريادة والمرجعية، فإن الحديث لا يتم من فراغ، ولا يستند إلى أرضية ضعيفة وإنما يتم وسط وقائع لا تقبل الجدل ولا النقاش، ويتم على أرضية صلبة وقوية، ويصبح من الطبيعي ان يتعاظم الدعم للدور السعودي لا في المحيط الجغرافي العربي أو في المحيط الاسلامي، وإنما على الصعيد العالمي، فكثيراً ما تم اختيار المملكة العربية السعودية لتمثيل العرب والمسلمين عندما تظهر الحاجة لمن يحق له الدفاع عن قضايا العرب والمسلمين، ولقد أصبح من المتعارف عليه عند حدوث أزمات أو ظهور مواقف معقدة ان يتم البحث عن دور سعودي، وحيث اعتبر في كثير من الاوساط السياسية ان غياب الدور السعودي إنما يعني ببساطة فشل أو احباط الجهود لأي مشروع سياسي او اقتصادي ولعل ذلك هو السبب الكامن وراء حرص القيادة السعودية للمشاركة في المؤتمرات العربية والاسلامية والدولية، وطرح المبادرات -وعلى سبيل المثال - فقد كان حضور المملكة العربية السعودية مؤتمر القمة الثامنة لمنظمة المؤتمر الاسلامي (مؤتمر قمة طهران 9- 11 كانون الأول/ ديسمبر 1997م) هو العامل الاساسي لنجاح هذه القمة التي ضمت ممثلي ورؤساء (55 دولة إسلامية) وكان من أهم نتائج المؤتمر اسقاط (استراتيجية التطويق المزدوج) و(اسقاط الشرق أوسطية) واخراج إيران والعراق من عزلتهما عن العالم الإسلامي، ولكن هل استطاعت المملكة تحقيق أهدافها - القريبة والبعيدة - دونما جهد؟ أم كان لابد من التعرض لابر النحل من أجل الوصول إلى الشهد؟
أعداء القلعة
يصبح من المتوقع ـ على ضوء ما تقدم ـ ان تتوجه سهام الحاقدين على العرب والمسلمين لتنال من القلعة التي تؤمن نوعا من الحماية والوقاية للشعب العربي والشعوب الاسلامية فالمملكة تضيف كل يوم لبنة الى بنائها فتتزايد سموا وشموخا؛ وتتعاظم قوة ومنعة؛ وهذا ما لا يريده اعداء القلعة؛ والطامعين في السيطرة عليها وقد ظهر واضحا خلال مسيرة ربع القرن الماضي ان اعداء القلعة يمتلكون مخططات متنوعة في محاولاتهم لاخضاع القلعة او على الاقل حرمانها من ممارسة دورها العربي والاسلامي والانساني ـ الذي كثيرا ما كان مضادا لاداور اعداء العرب والمسلمين ومن ذلك:
اولا: محاولات عزل القلعة الممثلة بالمملكة العربية السعودية ـ عن مواقع قوتها في الوطن العربي والاسلامي ـ وذلك باضعاف الدول العربية والاسلامية والهيمنة على قراراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية (كنموذج تركيا، وربما افغانستان في المستقبل).
ثانيا: احباط المبادرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السعودية بطرائق مختلفة اهمها الهجوم غير المباشر ـ إذ يبدو من الصعب جدا على اعداء القلعة الهجوم المباشر عليها ـ لاسيما وهي تقدم مبادآت انسانية ذات قيم عالمية.
ثالثا: مهاجمة القلعة من داخلها عبر اثارة اضطرابات وانقسامات التي تحمل مبادىء غربية ومشبوهة (كقضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان وتحرير المرأة.. الخ)، وذلك بصرف النظر عن مضامين هذه المبادىء واهدافها الحقيقية.
رابعا: ممارسة الضغوط المتنوعة في محاولة لاخضاع القلعة ـ او لحملها على تغيير نهجها بداية من الضغوط الاعلامية والسياسية ومرورا بالضغوط الاقتصادية والعلمية ونهاية بقرع طبول الحرب ـ والتهديدات بالتدخل المباشر او غير المباشر. ويبدو هنا انه لابد من التمييز بين مختلف الوسائل للتعامل مع التحديات بحسب انواعها واشكالها وطرائقها، فالمعروف ان الهدف المباشر لاعداء القلعة هو الوصول الى المجتمع السعودي المميز بتماسكه وتلاحمه والتفافه حول قيادته وحكامه بفضل الله ثم بفضل التقاء الشعب السعودي، ملكا وشعبا، حكومة ونظاما، على كتاب الله وسنة رسوله، وإن ما يتم طرحه من افكار تنال من الحكم السعودي لا تعني الحكم السعودي بقدر ما تعني تدمير الروابط التي تشد اطراف القلعة وتظهر هنا الصورة الواضحة كل الوضوح للنيل من القلعة إذ ان قوة القلعة إنما تكمن بتكامل العوامل الثلاثة (القدرة الكامنة والذاتية للمجتمع السعودي مضافا اليها القدرة الكامنة في المجتمع العربي والتي تدعم القدرة السعودية بكل ايمانها وما هو متوافر لها من حرية العمل وتأتي بعدذلك القدرة الكامنة في وسط الشعوب الاسلامية. وهذه الدوائر الثلاثة التي تلتقي عند حامية القلعة هي التي تشكل قوة القلعة في وجه التحديات المتعاظمة التي تتزايد ثقلا يوما بعد يوم).
لقد جاءت التطورات الحديثة لتفرض على القلعة وعلى حاميتها ـ تحديات اضافية غير مسبوقة وغير معهودة ـ فالسعي لفرض (العولمة) ومحاولات اعادة تنظيم العلاقات الاولية وفق مقاييس ومعايير مستحدثة؛ قد احدث حالة من الهيجان العالمي؛ وجاء تصعيد الاعمال العدوانية الاسرائيلية على الساحة الفلسطينية؛ ثم احداث يوم 11 ايلول سبتمبر 2001م لتشكل بمجموعها دعما لحالة العداء الدفينة التي كثيرا ما امكن التمويه عليها أو المحافظة عليها في حالة الكمون. وبدأت ظواهر الضغوط في التعاظم؛ والانتقال من الخفاء الى العلن؛ ومن درجة الشدة المنخفضة الى درجة الشدة المرتفعة ولقد كان ذلك متوقعا وليس غريبا ولا مباغتا؛ ولكن الظاهرة الجديدة هي ان هذه التحديات التي عبرت عن حالة العداء الدفين قد جاءت موزعة بعدالة ـ على عدد من الاقطار العربية والاسلامية (في طليعتها مصر والعراق وايران وربما سوريا ولبنان) فهل يعني ذلك وجود مخطط عدواني شامل هدفه هو ضرب كل القلاع العربية للوصول الى القلعة المستهدفة في الجزيرة العربية؟ ام ان الهدف هو تحييد تلك القلاع واخراجها من الحرب المتوقعة عبر ممارسة الردع ـ او التخويف بالعصا الغليظة لتبقى القلعة الهدف منعزلة ومجردة من حرية العمل ومن القدرة على العمل؟ لقد جابه العرب والمسلمون هذا المخطط بجهود كبيرة لتنسيق التعاون وكانت (الرياض) مركز جهد سياسي ـ ديبلوماسي ـ مكثف؛ اكد حقيقة التفاف العرب والمسلمين حول القلعة وتمسكهم بمرجعيتها ودورها الرائد. وامثولة هذه الحقيقة ما أعلن يوم 28 ـ أب ـ اغسطس 2002م في جوهانسبورغ (جنوب افريقيا) حيث قررت المجموعة العربية المشاركة في المؤتمر اختيار المملكة العربية السعودية للتحدث باسم المجموعة العربية اثناء جلسات المؤتمر ولم تكن هذه الظاهرة هي الاولى من نوعها فلطالما شهدت اروقة المؤتمرات الدولية بما في ذلك مجلس الأمن وهيئة الامم المتحدة ـ اتفاقات مماثلة ترك لممثلي المملكة حق التحدث باسم المجموعة العربية او المجموعة الاسلامية؛ وذاك هو الاعتراف غير الرسمي وغير المعلن بدور القلعة الرائد في المحيطين العربي والاسلامي وهو دور لا يحتاج في الواقع للاعتراف الرسمي والمعلن: إذ ان ذلك اصبح حقيقة قائمة؛ ارتسمت على ارض الدنيا بفضل الله ثم بفضل ما توافر لها من مقومات النجاح عبر عقود متطاولة في زمن تميز بالتجرد من الفضائل في غابة العلاقات الدولية. وهنا لابد من الاعتراف بأن هذا الاعتراف العربي والاسلامي بدور (القلعة) قد فرض على بقية القلاع (الكبرى والعظمى ذات الصفة العالمية) ان تعتمد قلعة الجزيرة العربية مرجعية لها ايضا ـ للوصول الى معرفة ما يمكن من الاوضاع الصحيحة في التعامل مع القضايا العربية والاسلامية.
الدبلوماسية السعودية
ويبقى السؤال الذي يفرض ذاته بقوة والحاح: كيف استطاعت المملكة العربية السعودية (القلعة) ان تتعامل بنجاح مع اقاليم الوطن العربي ـ وان تتعاون معها على طريق الوحدة؛ على ما تضمه هذه الاقاليم من بؤر متفجرة والغاما مؤقتة وأوضاع أقل ما يمكن ان يقال فيها أنها ـ غير طبيعية ـ؟ ثم كيف استطاعت تجاوز تناقضات البلاد الاسلامية؛ وما يتوافر بهذه البلاد من تناقضات مثيرة واختلافات كثيرة؟ وبعد ذلك وقبله: كيف استطاعت المملكة العربية السعودية المحافظة على موقعها عند تعاملها مع سياسات دولية (تجعل العاقل مجنونا والحليم حيراناً) على ما فيها من الغرابة والانحراف؟
قيل لمعاوية بن أبي سفيان ـ أمير المؤمنين ـ وقد دانت له الرقاب وخضعت له القبائل وارتفعت له الرايات: كيف استطعت ان تسود على أهل الشام وسواهم ـ وهم على ما جبلوا عليه من النكد والخلاف والشقاق ـ وجاء الجواب: والله لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت اذا شدوها ارخيتها؟ وإن رخوها شددتها ـ وتلك هي ديبلوماسية (الشدة واللين) (الصلابة والمرونة) كمثل الرخام الصلب لا يكتسب قيمته الا من خلال نعومة سطحه. ولقد جابهت المملكة ازمات كثيرة في علاقاتها الدولية والاسلامية والعربية؛ فأمكن التعامل معها بنجاح بحيث احتفظت المملكة بموقفها الصلب، وحققت اهدافها بكفاءة كان للديبلوماسية فيها الدور الكبير بحيث أصبحت الديبلوماسية السعودية ذات شهرة عالمية بفضائلها ـ فهي هادئة لا تستثيرها الاحداث ولا تؤثر فيها الانفعالات.. تحدد اهدافها بدقة ـ وتحدد ايضا السبل والوسائل لبلوغ هذه الاهداف.. ولعل متابعة التحرك الدبلوماسي السعودي خلال سنوات العقد الاخير من القرن العشرين ـ حيث الاحداث الجسام التي بدأت بحرب تحرير الكويت وتفكك الاتحاد السوفيتي (السابق) وانتهت بأزمة احداث 11 ايلول سبتمبر 2001 هي متابعة كافية لارتياد كل ابعاد الدبلوماسية السعودية ـ سواء بسواء ـ ومثال ذلك التعامل مع ازمة اليمن عند تفجر مشكلات ترسيم الحدود) والتعامل مع ازمة العراق منذ بدايتها وحتى اليوم ودليل ذلك توجه دول الخليج بخاصة وبقية الدول العربية التي تعاني من مشكلات حدودية بعضها مع بعض ـ لحل تلك المشكلات بالاسلوب (السعودي) من حيث التعامل المباشر واعتماد الحلول التوفيقية ـ والأناة والصبر بعيدا عن التعجل والارتجال). وقد يكون (مشروع السلام العربي) الذي اعتمدته قمة الجامعة العربية في بيروت 27 ـ 28 اذار ـ مارس 2002 وما رافق ذلك ايضا من لقاء سعودي عراقي هو برهان واضح على نهج المملكة الدبلوماسي في التعامل مع الاحداث وفي تجاوز التناقضات الثانوية او المعوقات الصغرى لبلوغ الهدف الكبير.
قد يشعر الانسان العربي والمسلم بالاشفاق والمرارة في آن واحد: عندما يرى الغيوم السوداء وهي تتجمع في أفق الوطن العربي متهددة بأشد الاخطار ـ مما هو متوقع وما هو غير متوقع ايضا ـ فكيف ستتعامل الدبلوماسية السعودية مع مثل هذه الاخطار غير المعهودة؟: وهل بالمستطاع الاعتماد على اصدقاء المملكة في الوطن العربي وفي العالم؟ وهل يمكن للدبلوماسية السعودية الثبات في مواقعها وسط العواصف الهوجاء؟
وتبقى هناك تساؤلات قد يكون من الصعب الاحاطة بها غير ان هناك حقيقة قد تبعث نوعا من الامل والتفاؤل في مجابهة التحديات ومن ذلك ان الدبلوماسية السعودية قد برهنت باستمرار انها تمتلك قدرا من المرونة والقوة للاستجابة قدرة تعادل قدرة التحديات او قد تزيد عليها (في اطار مصطلحات المؤرخ البريطاني في التحدي والاستجابة المؤرخ توينبي) وعندما تكون الاستجابة معادلة للتحدي او تزيد عليه في القوة والعدة ـ فذلك يعني توافر فرص لتجاور التحديات. هذا من ناحية؛ ومن ناحية ثانية فان هذه التحديات بتوسيع دوائرها قدوضعت الشعب العربي وقياداته في خندق واحد. وبالتالي: فستكون هناك فرصة رائعة إذا ما امكن الافادة منها لتحقيق استجابة عربية ـ واسلامية تزيد على حجم التحدي ونوعه ـ وعندما يكون الامر كذلك فعندها تستيقظ المصالح ـ لا سيما في عالم لا يعترف الا بالمصالح قاعدة لعلاقاته الدولية وبذلك تكتسب (استراتيجية القلعة) دعماً اضافيا ـ بمدافع اضافية وتكميلية ويبقى هناك العامل الثابت الذي اعتمدته الاستراتيجية السعودية باستمرار ـ وفي مواجهة الازمات بخاصة ـ وهذا العامل هو الاعتماد على الله والتوكل عليه بعد الاعداد وبذل كل الجهود ـ وأقصى ما يمكن من الجهود لتجاوز ما هو قادم من التحديات امتثالا لقوله تعالى: {الّذٌينّ قّالّ لّهٍمٍ النّاسٍ إنَّ النَّاسّ قّدً جّمّعٍوا لّكٍمً فّاخًشّوًهٍمً فّزّادّهٍمً إيمّانْا وّقّالٍوا حّسًبٍنّا اللّهٍ وّنٌعًمّ پًوّكٌيلٍ} [آل عمران: 1 - 173] ولينصرن الله من ينصره، ولئن كانت الغيوم السوداء منذرة بعاصفة هوجاء فقد تكون أيضا نهاية لمرحلة قاتمة من حياة الامة العربية والشعوب الاسلامية وبداية فجر جديد تتطلع اليه انظار الشعوب العربية والاسلامية وحتى شعوب العالم لتتحرر من مخاوف الفساد والطغيان وانحلال القيم؛ ولتعود للحياة إشراقتها ونورها وفضائلها وذاك هو الأمل الكبير الذي تسعى اليه الدبلوماسية السعودية بصورة ثابتة. ومعها كل الشعوب العربية والاسلامية التي لم تعرف في المملكة ـ ورجالها ـ الا الملاذ الآمن وموطن الخير والرجاء.
(*)كاتب وباحث سياسي سوري |