الجسم، الغريزة، العقل، والروح.. عناصر أربعة أساسية تتكون منها الطبيعة البشرية، وتربط هذه العناصر علاقات وارتباطات شتى، تأخذ أشكالاً مختلفة ينجم عنها اختلاف البشر، فلا يوجد فرد واحد له مثيل يشبهه من بين الستة آلاف مليون فرد يقطنون الأرض، فكل فرد هو إنسان متميز، وشخص يختلف عن الآخرين، وهذه الاختلافات وليدة مجموعة من الصفات الوراثية والعوامل البيئية التي تداخلت مع بعضها البعض وتشابكت منذ النشأة الأولى.
ولعل عنصر العقل لهو أهم العناصر الأربعة تحكماً في سلوك الإنسان، وقد حبا الله تعالى الإنسان وأعطاه عقلاً مدبراً راجحاً لا مثيل له بين كافة الكائنات الأخرى، وبالرغم من هذا، فلقد أساء هذا الإنسان استخدام عقله إلى أبعد الحدود، وأتلفه بماديات الحياة التي أنكرت عليه المشاعر الإنسانية، جرياً وراء الشهوات والنزعات وحب الذات، فزادت الأمراض النفسية والعصبية، وتفشت بين البشر بشكل كبير، وكمحاولة من الإنسان الابتعاد عن المجتمع وواقع الحياة لجأ البعض إلى وسائل عديدة حتى يحقق الاشباع النفسي من السعادة، أو ربما تخفيف حدة آلامه النفسية والعضوية التي ألمت به، محاولاً بذلك الحصول على لذة مؤقتة لا يعرف انها سوف تجلب له التعاسة والشقاء فيما بعد، فلجأ إلى المخدرات وعقاقير الفرفشة والهلوسة أو كما تسمى وكل ما يفسد العقل بغية الابتعاد والهرب من حالة الوعي والادراك للواقع الذي يعيش فيه. ولعلنا لا نفارق الحقيقة إذا قلنا ان أخطر ما يهدد الكيان البشري في عصرنا هذا هو انتشار تعاطي المخدرات، وعقاقير الهلوسة والفرفشة، والمشروبات الكحولية، فأصبحت دون منازع أخطر الآفات.
المخدرات عبر التاريخ
الإنسان منذ فجر التاريخ وهو يبحث عن المواد المخدرة ليخفف بها آلامه، فاستخدم مستخلصات بعض النباتات ذات الخواص المنشودة، وقد سجلت كتابات المؤرخين ان الإنسان منذ العصر الحجري توصل إلى اكتشاف واستخدام الخشخاش أو الأفيون، والواقع انه لا توجد أمة من الأمم لم تساهم بمقدار في هذا المجال، فأهالي هاواي وجزر المحيط الهادي مثلاً يستعملون «الكاوا كاوا» والمكسيكيون يستعملون «المسكال» واليمنيون يستعملون «القات» وأهالي البيرو والارجواي يستعملون «الكوكا الكوكايين» و«الماريجوانا» و«الهيروين» والعقاقير الاصطناعية مثل «إل. إس. دي» والديميرول والدولوفين وغيرها.
والسموم البيضاء من عقاقير الفرفشة والهلوسة مثل «إل.إس.دي» والمسكال والكوكايين لا يعدان مشكلة خطيرة في البلاد العربية حالياً، أما المشكلة الحقيقية فهي تعاطي الحشيش في معظم تلك البلدان والقات في اليمن بشكل خاص.
كيف تحدث المخدرات تأثيرها؟
عقاقير الفرفشة أو الهلوسة أو المخدرات توسيع الدماغ، تصنف في مجموعة حسب تركيبها الكيميائي الطبيعي «مثل الحشيش والأفيون» أو الاصطناعية مثل «إل.إس.دي» ذات الأثر القوي على الدماغ، فدماغ الإنسان أو «المخ» يتكون من آلاف الملايين من الخلايا العصبية، وهذه الخلايا العصبية تشبه في شكلها الاصابع ولكنها دقيقة جداً لا ترى إلا تحت المجهر، وهي تنقل النبضات العصبية على هيئة تيار كهربائي أو ممسات عن طريق جزيئات كيميائية تعرف باسم المرسلات العصبية، وعندما تثبت هذه المواد الكيميائية عبر الممسات تحمل معها رسالتها العصبية فترسل إشارة من جديد إلى الخلية المجاورة.. وهكذا تنتقل الإشارات. وتمكن العلماء حتى الآن من اكتشاف أكثر من عشرين مادة مختلفة من هذه المرسلات العصبية، ولكل منها تركيب فريد يمكن تشبيهه بمفاتيح مختلفة كل «مفتاح» له مكان خاص أشبه «بالقفل» يستقبل عليه، ولا يصلح له غير كمركز استقبال، ولقد تضاربت آراء المهتمين بكيفية تأثير هذه العقاقير على الدماغ، ويحاول كل منهم ان يدعم رأيه بالبرهان والتجربة، فيقول البعض ان هذه العقاقير توقف مرور التيارات العصبية عبر خلايا الدماغ بتأثيرها المباشر على واحد أو أكثر من المرسلات العصبية، مما يجعل الإنسان يشعر بحالة اللا وعي وعدم الادراك بما يدور من حوله. وتقول نظرية أخرى ان عقاقير الهلوسة أو الفرفشة تؤثر بشكل مباشر على مادة «السيروتونين» الموجودة في الدماغ والضرورية للحفاظ على اتزانه، فتتحد معها وتحولها إلى مركب جديد هو المؤثر المباشر على درجة اتزان الدماغ وهذه التفسيرات وان اختلفت فهي تتفق على ان تأثير بعض عقاقير الهلوسة أو الفرفشة «مثل الحشيش والماريوانا وال.اس.دي» عادة ما يكون مؤقتاً ويزول بزوالها، كما يعتقد العلماء ان كمية المرسلات العصبية الموجودة في الدماغ وبقية أجزاء الجسم لها علاقة وثيقة بسلوك الأفراد، فحينما يفرز الدماغ أو «الجهاز العصبي ككل» أكثر من اللازم أو أقل من اللازم من هذه المواد الكيميائية تبدأ المشكلات السلوكية في الظهور، فالاكتئاب الشديد مثلاً يمكن ان يُعزَى إلى هبوط غير عادي في مستوى مرسلات عصبية معينة اسمها «أحادية الأمنيات» وهذا الهبوط قد تعزى أسبابه إلى زيادة نشاط خميرة «مونو أمين اوكسيداز» التي تسبب تحلله وتدميره، والمخدرات والعقاقير المهلوسة قد تتداخل بطريقة أو بأخرى في تفاصيل هذه العملية، بحيث في النهاية تحاكي عمل المرسلات العصبية وتلتصق بالخلايا العصبية مزيلة بذلك حالات الاكتئاب.
ونود ان نؤكد ان مثل هذه العقاقير تتفاوت في درجة تأثيرها بين الأفراد، حيث تختلف من شخص لآخر حسب بنيته الجسمية والشخصية ومكوناتها والرغبة الكامنة.
والجدير بالذكر انه كثيراً ما يترتب على التداخل في علم الدماغ بواسطة هذه العقاقير نزول وهبوط في حاسة الجوع والجنس والعطش عند الإنسان، وهي حالات مؤقتة تزول بعد فترة معينة تتفاوت حسب طبيعة المادة المخدرة وطبيعة الأشخاص، ويعتقد بعض الناس ان استخدام عقاقير الهلوسة تعطيه دفعة قوية إبداعية في أي عمل يقوم به، فالرسام يعتقد ان خطوط ريشته أصبحت معبرة وجميلة، والمغني يعتقد ان صوته أصبح أجمل والكاتب صار يكتب عبارات من الذهب؛ فلها فعل تخيلي وسحري في عقول الناس متناسين جميعهم انها لذات مؤقتة سوف تجلب إليهم التعاسة والشقاء بالأجل القريب..
ظاهرة الإدمان
هناك خلط شائع وارتباك بين عامة الناس على مفهوم الإدمان لذا يلزم لنا التنويه عن هذه الظاهرة، فالإدمان معناه التعود على الشيء مع صعوبة التخلص منه، وهذا التعريف لا ينطبق على كافة المخدرات وعقاقير الهلوسة والفرفشة، لذلك رأت هيئة الصحة العالمية في عام 1964م، استبدال لفظ الادمان بلفظين آخرين أكثر دقة في المعنى واللفظ، فاستخدمت لفظي الاعتماد الفسيولوجي (الصحي)، والاعتماد السيكولوجي (النفسي).
الأول يستخدم للدلالة على ان كيمياء الجسم حدثت بها تغيرات معينة بسبب استمرارية تعاطي المادة المخدرة، بحيث يتطلب الأمر معه زيادة كمية المخدر دوماً للحصول على نفس التأثير، والانقطاع عن تعاطي المخدر دفعة واحدة أو على دفعات، ينجم عنه حدوث نكسة صحية وآلاماً مبرحة قد تؤدي في النهاية إلى الموت، ومن أمثلة ذلك: الأفيون ومستحضراته، الكوكايين، الهيرويين، الكحول، وأقراص البارتيتورات المنومة.
أما الاعتماد السيكولوجي فيدل على شعور الإنسان بالحاجة إلى العقاقير المخدرة لأسباب نفسية بحتة، والتوقف عنها لا يسبب عادة نكسات صحية عضوية.. مثل عادة التدخين، وتناول القهوة، والشاي، والحشيش، والماريوانا، وأقراص الامفيتامين المنبهة.. ولذلك لا يمكن ان نصف هذه الحالات جميعها، من الوجهة العلمية بصفة الادمان، ويمكن ان نفسر ظاهرة الاعتماد الفسيولوجي وهي من أخطر نتائج تعاطي المخدرات على الفرد والمجتمع، بأنها ترجع لأسباب دخول هذه السموم في كيمياء الجسم فتحدث تغييرات ملحوظة بها، ثم ما تلبث بالتدرج ان تتجاوب مع أنسجة الجسم وخلاياه، وبعدها يقل التجاوب لأن أنسجة الجسم تأخذ في الاعتبار المادة المخدرة أحد مكونات الدم الطبيعية، وبذلك تقل الاستجابة إلى مفعولها مما يضطر «المدمن» إلى الاكثار من كميتها للحصول على التأثيرات المطلوبة، وهكذا تصبح المادة المخدرة بالنسبة إلى المدن كالماء والهواء للجسم السليم، فإن لم يستطع المدمن لسبب ما الاستمرار في تعاطيها، تظهر بعض الأمراض التي تسمى بالأعراض الانسحابية، التي تتفاوت في شدتها وطبيعتها من شخص لآخر، فمثلاً عند التوقف عن تعاطي المورفين تبدأ على شكل قلق عنيف وتدمع العيون، ويظهر المريض وكأنه أصيب برشح حاد، ثم يتغير بؤبؤ العين، ويصاحب كل ذلك ألم في الظهر وتقلص شديد في العضلات مع ارتفاع في ضغط الدم وحرارة الجسم..
أخطار المخدرات وعقاقير الهلوسة
علاوة على مشاكل الاعتماد الفسيولوجي والنفسي التي يصاب بها الشخص بعد فترة من تعاطيه العقاقير المخدرة، هناك نكسات عضوية مميزة تتمثل في تدمير خلايا الجسم العصبية والجسمية المختلفة، مما يؤدي إلى تدمير أعضاء الجسم الداخلية، كما أثبتت ابحاث الدكتور «اغوزكسيو» بجامعة واشنطن وجود اضطراب شديد في تركيب خيوط الكروموسومات الحاملة للصفات الوراثية، وخاصة حدوث كسر في بعض أجزائها، وهذا قد يتسبب عنه عيوب خلقية للأطفال من الأمهات والآباء سبق لهم تعاطي هذه العقاقير بالإضافة إلى ذلك، زيادة نسبة حوادث الإصابات أثناء العمل وحوادث السيارات، والقتل والعنف والسرقة والاجرام، وحوادث الانتحار التي تعزى في كثير من الحالات إلى تعاطي المخدرات والعقاقير المهلوسة، فكيف يمكن لسائق مثلاً وقد فقد جزءاً من احساسه ان يقود سيارته؟!، وكيف لعامل نجارة أو حدادة أو كهربائي ان يستخدم أدواته دون قدرة على التركيز والتفكير؟، فلذلك ارتفعت نسبة الحوادث أثناء العمل بنسبة مخيفة، كما زادت حالات الانتحار بين الشباب بعد ان تحطمت العلاقات الأسرية والزوجية بينهم وأصبحت العلاقات في طي النسيان، وبما ان هذه العقاقير عادة ما تكون عالية السعر، فيلجأ المدمن إلى السرقة والنهب حتى يحصل على المال ليشتري به هذه التفاهات.
خلايا الجسم والمخدرات
يتكون جسم الإنسان من مجموعة من الخلايا تتقاسم فيما بينها وظائف عديدة، حيوية للإنسان تقوم بها مجموعة من الخلايا المختصة مثل التنفس والهضم، خلال التفاعلات الكيميائية التي تقوم بها تلك الخلايا في الجسم في حالته الطبيعية، أما تحت تأثير تعاطي المخدرات، تنعكس تلك التفاعلات البيوكيميائية مما ينتج عنه انقلاب في الوظائف الحيوية للخلايا. وعلى سبيل المثال: ما يحدث عند تبادل أيونات الصوديوم والبوتاسيوم من داخل وخارج الخلية، ففي الإنسان الطبيعي تصدر شحنات كهربائية تنتقل إلى أنسجة أخرى من الجسم لكي تتم الوظيفة مثل انقباض عضلات الصدر للتنفس، أما في حالة ادمان المخدرات، فيصبح من المتعسر على الخلايا استبدال الأيونات على الوجه الطبيعي، مما يؤدي إلى اضطراب في الخلايا فاضطراب في عملية التنفس.
وإذا أردنا ان نبسط ما سبق نقول بإيجاز أن تعاطي المخدرات يحدث تثبيطاً او اخماداً لخلايا الجسم العصبية المركزية مما يؤثر على وظائف القلب والرئتين والكبد والكلية.. إلخ.
خاتمة:
وبعد ان تعرفنا على المخدرات وآثارها السيئة على الإنسان والمجتمع ويجدر بنا ان ندق ناقوس الخطر ضدها ونقوم بمكافحتها، ويجب على كل منا ان يوجه ويعرف أصدقاءه واخوانه على أضرار المخدرات ويحذرهم من الوقوع في براثنها، وعليه ان يرشدهم لكي يكونوا شباباً صالحين يقوم على سواعدهم بناء مجتمعنا المتقدم علمياً وحضارياً لنواكب ركب الحضارة المتقدمة. والله من وراء القصد..
|