عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة تعلم الأمريكيون أو أعادوا تعلم بعض الدروس الأساسية حول طبيعة العالم. وبعض الدروس حول الاعتماد المتبادل بين البشر وعن أهمية قيمهم بالنسبة لهويتهم كأمريكيين وخلال الأيام العصيبة والأسابيع التي تلت هجمات العام الماضي المرعبة فإن أغلب الأمريكيين في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا وفي مختلف التجمعات على امتداد الولايات المتحدة الأمريكية بدا أنهم أدركوا بصورة كبيرة هذه الحقائق ان الناس ترعى بعضها البعض. تدفقت رسائل الدعم والمواساة من جميع أنحاء العالم وشعر الأمريكيون بالارتياح لهذه التعبيرات عن الصداقة. وبدا الرئيس بوش قائدا طموحا عندما أكد على الإرهابيين هاجموا مركز الحياة المتحضرة ثم انطلاقه بعد ذلك لإقامة تحالف عالمي حقيقي لمواجهة هؤلاء الإرهابيين. ولكن للأسف يبدو أن أغلب هذه الدروس الآن معرضة للضياع. فمنذ أسابيع ونائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد يرددان أن أمريكا لها الحق في شن الحرب ضد العراق وأن تفعل ذلك بمفردها إذا احتاجت ذلك. وهذه الأقوال واجهت معارضة حلفاء أمريكا لمثل هذا التحرك العسكري بل ومعارضة داخل أمريكا لذلك تراجعت الإدارة الأمريكية قليلا عن هذا الموقف ووافق الرئيس بوش على إجراء مشاورات مع الكونجرس قبل الدخول في حرب جديدة مع العراق وأن يطلب إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يمكن أن يكون غطاء للتحرك ضد الرئيس العراقي صدام حسين.
ومن خلال الأحاديث الكثيرة التي أدلى بها بوش مؤخرا فقد بدا انه اتخذ خطوات صغيرة تجاه تبني منهجا أوسع في التعامل مع الملف العراقي. ورغم ذلك مازال بوش وأعضاء حكومته يقولون أنهم ليسوا في حاجة إلى تصريح رسمي بالحرب من الكونجرس قبل بدء هجومهم على العراق. ويحذر هؤلاء أنهم لا يرون أي مشكلة في بدء الحرب في ظل تحقيق الأمم المتحدة لأي تقدم على صعيد هذا الملف بما في ذلك الموافقة على استئناف التفتيش على الأسلحة العراقية وهذه النزعة الفردية لدى الرئيس بوش تختلف تماما عن الطريقة التي تعامل بها والده الرئيس بوش الأب مع العراق عند غزو الكويت عام 1991 ثم شن الحرب من خلال تحالف عالمي لإخراج العراقيين من الكويت عام 1991 حيث ذهب بوش الأب إلى مجلس الأمن وحصل على كل القرارات الدولية التي يحتاج إليها. بل وترك الفرصة امام العديد من محاولات الوساطة الدبلوماسية لتسوية الأزمة ولكنها فشلت. وقام بوش الأب باصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يطالب العراق بضرورة الخروج من الكويت قبل يوم 15 يناير عام 1991 وإلا سيواجه الحرب.
وفي بداية يناير عام 1991 كان هناك عدد من أعضاء الكونجرس مازالوا يخشون من الحرب ولكن قبل ثلاثة ايام من انتهاء مهلة الأمم المتحدة أصدر الكونجرس قرارا يعطي الرئيس حق استخدام القوة العسكرية لإخراج الاحتلال العراقي من الكويت وضمان التطبيق الكامل لقرارات الأمم المتحدة.
لقد كان بوش الأب ومن معه يحظون بالشرعية الدولية الكاملة وكذلك المساندة الداخلية التي كانوا يشعرون أنهم في حاجة إليها قبل الإقدام على هذه الحرب التي حملت اسم عاصفة الصحراء.
ولكن يبدو أن الرئيس الحالي بوش الابن قرر التخلي عن الحشد السياسي والدبلوماسي وفكرة التحالف الدولي التي ميزت فترة حكم والده كرجل دولة ولكن لماذا؟ هل بوش الابن لا يقدر قيمة التحالف العالمي الواسع الذي دعم حملته العسكرية ضد طالبان.؟ لماذا نراه يميل حاليا إلى التحرك الفردي الذي يفضله السادة تشيني ورامسفيلد؟!
في الوقت نفسه هناك نوع آخر من الفردية الأمريكية يهدد بالفعل التحالف السياسي الهش في أفغانستان. هذه الفردية تتمثل في الرؤية المحدودة ورفض تقديم الدعم المالي للشعب الأفغاني، لقد نجحت أمريكا في اجتذاب الحلفاء الأفغان إلى جانبها للحرب ضد طالبان على أساس الوعد بتوفير عصر جديد من الأمن والتنمية لبلادهم التي عانت طويلا من الصراعات والحروب وأمام هذه الوعود وافق الأفغان على خوض الحرب ضد طالبان والمساعدة في اقتلاع جذور تنظيم القاعدة من أرضهم وأكد المسؤولون الأمريكيون هذه الرؤية الواعدة عندما قالوا إنهم لن يتخلوا عن أفغانستان بعد الانتصار على طالبان والقاعدة والحقيقة أن أمريكا لن تتحمل وحدها عبء إعادة بناء أفغانستان ولكن معها تحالف واسع مستعد للمشاركة وكل المطلوب من أمريكا هو دور قيادي في هذا الاتجاه كما فعلت بالنسبة للعمل العسكري.
والحقيقة أن جهود أمريكا لإعادة تأهيل المجتمع الأفغاني سياسيا واجتماعيا واقتصاديا مازالت قاصرة جدا ومازال الأفغان يواجهون غياب الأمن والآن تريد الإدارة الأمريكية تحويل القدر الأكبر من الاهتمام والانفاق إلى جبهة جديدة تتمثل في الحرب ضد العراق.
والحقيقة أن الكثير من زعماء الدول حول العالم يقفون على أهبة الاستعداد للمساعدة في إيجاد مبادرات يمكن أن تساعد في تخفيف القلق بشأن صدام حسين وبرامج تسليحه وهناك بالفعل وسائل عديدة غير الحرب يمكن تجربتها مع العراق كما حدث مع كوريا الشمالية، كما أن الوقت لم يفت بعد لكي تهتم أمريكا بإعادة بناء أفغانستان، وفي كلا الحالتين فإن الأمر يرتبط تماما بالدرس العميق المستفاد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر وهو الاعتماد المتبادل بين أمريكا وباقي دول العالم.
* خبيرة في الشؤون السياسية خدمة كريستيان سياينس مونيتور- خاص ب «الجزيرة» |