* مع الورد. والقمر
* علي جعفر آل إبراهيم
* 186 صفحة من القطع المتوسط
كل من سار على الدرب وصل.. وسُلَّم الشعر طويل وشاق لا يحتمل التردد والكسل.. صحيح أنه يحتمل الفشل والنجاح في بداياته.. تماما كتسلق قمة افرست في جبال الهملايا.. كثيرون تسلقوا، وفشلوا وأعادوا الكرَّة من جديد فقهروا ما كان يعتقد بالمستحيل واحتلوا مكانتهم في موسوعة جينز للأرقام القياسية غير المسبوقة كأنهم يمتلكون الارادة غير القابلة للانكفاء والتردد..
وشاعرنا الشاب آل إبراهيم تملك ناصية المحاولة في ديوانه.. حلق في البعض.. وأخفق في البعض.. وهذا ليس عيباً.. العيب ألا يحاول: بداية درجات سلمه كانت مع «شفاء صادي»:...
«آجاهد نفسي لا تبوح بما ألقى
ولكن هذا الحب علمني الصدقا
نحتُّ هممي عمياء للحب واديا
وقد سمعت، لكنها ترغب العمقا»
ماذا في هذا؟ لقد سعت بك هممك إلى حيث يجب أن يكون حبك.. ان الشكوى في تسطح الحب لا في عمقه.. اما مفردتي «الصدق» و«العمق» فإنهما في غير حاجة إلى عكاز تتكئ عليهما.. أي بدون ألف مد مشكلة شاعرنا ان حيرة حبه أخذته حيث يهوى ولا يهوى:
«لقد كنت حرا أسلك الأرض أيهما
وهأنذا أهواه. ما أكبر الطرقا»
ماذا قال له نديمه؟!
«قال نديمي أن دربا سلكته
يُسلب أهلية العقول فما تبقى»
ويُسلب تهز أركان موسيقى الشطر ليته أبدلها بمفرده «يُصادر» إذا لكانت أنسب.. من هي تلك التي أغنى من هدية؟ وأي هدية تلك التي وضعها في ميزان المفاضلة؟!
«انت أغلى هدية، أنت روح
بعدها عن جوارحي اضناني
الجوارح يا عزيزي تجرح لأنها كاسرة «أليست» «جوانحي» أكثر رقة.. وأصدق تعبيراً؟! هذه المرة أختار الورد بطلا لقصيدته:
«يا ورد بهاؤك اضناني
اسلوه؟ فما صدق السالي..
فبطلعته.. وبسمته
الذهن يُصار إلى بدد»
لم يطلب أحد من شاعرنا أن يموت لذي خلد يعشقه وهو لا يعرفه.. ولا أن يسترجع هواه من جديد في أغنية غير موحية تفتقر إلى الموسيقى الشعرية الموحية بجماليات الصورة.. والمشحونة بالمباشرة والتكرار الممل...
شاعرنا آل إبراهيم كريم.. كرمه ينضح من عناوين قصائده.. (هدية إلى...).. قبيل تقديم هديته تأتي مناجاته
«بعدت عن الحياة فلا تدعني
بعيدا عنك يا أملي فأكبر»
انتهت قصيدته القصيرة جدا دون أن يقدم لمعشوقته الهدية.. يبدو انه نسيها أو سرقت منه لا أدري!
وعن نفثته الحارقة يقول:
«لا تسألني ان رميت بما
بين المخالب، نابض يبلى»
«الجوارح» و«المخالب» لماذا يا أخي هذا التوحش في خطابك الشعري.. لست في غابة وإنما مرج حب يجب ان تختار له أرق العبارات.. أو أصدق العبرات..
«عطشى إليه غنا له شرر
هام فأصبحت الربى ذيلا»
«عتا» غير مفهومة لدي.. هل كان يقصد اغتاله شرر.. ربما.؟ ومن نفثة إلى دمعته:-
«بحشاي من خلقت لكي
تهواه أعضائي»
أعضائي كلمة موحية وجافة.. ثم إنها امرأة لابد وأن تهواها أليس مناسبا أن يأتي البيت على النحو التالي:
«بحشاي من خلقت لكي
يهواها وجداني».. ويستطرد قائلاً:
«سأذيع بين الكائنات
بأعذب المروى!..
حتى المروى من الري غريبة على مفردات الشعراء أبدلها بالمنهل.. ان ذلك أجمل يا صاحبي..
«كل شي» عنوان قصيدته.. عن أي يتحدث: ما هو هذا.. وما هو حديثه؟
«ما لساني؟
ما بياني؟
ما أنا؟
قبل ان أشرب»
انه ينفي وجودا بلاحب.. انه أشبه بالصخرة الصماء دون عاطفة وأحاسيس.. ويجيب:
«نلتُ من دوح المعاني ثمرة
حين وافى قمره
ما أنا؟»
ينتهي السؤال، وقد أجاب عليه.. حري به ان يقول:
«ذا أنا».. وإذا كان لكل شاعر ميلاد يتحدث عنه فقد تحدث عن ميلاده:
«ذوقته الزلال
ابلعته صوت فمي»
الصوت يا صديقي لا يبلع وإنما يسمع.. وإذا كان لابد من بلع فليكن.. اجرعة.. ولك الخيار.. ومع طائر شعره الذي تباعد بلا حدود عن غابة كانت له المهد والوطن يعرف مساحتها ويدرك سعتها وظلالها المحدودة:-
«أنهارها تسطع بالبريق»حسنا لو استبدل الأنهار بالأقمار التي تعكس ضوءها على صفحة الماء تماما كالمرآة التي نرى ملامح وجهنا فيها.. نتجاوز «الصلعة» التي لا شعر فيها.. وأكاد أقول لا شعر فيها أكثر من محاولة اجتهادية محمودة لا تخلو من دعابة.. ومن شعر «الصلعة» إلى شعور الوسام.. ولمن؟! لوطنه الذي يستحق أكثر من وسامه، وأكثر من قلادة، وأكثر من نيشان متى تجذر انتماؤنا له.. وولاؤنا من أجله:-
«بلادي لا يزيد علاك شيئا
نشيدي ان اردد أو اقولا
سلاما أيها الأدب المجلى
وسام الخطة، والكلم الثقيلا!!»
ما هذا يا صديقي.. الكلام الثقيل لا يستحق أوسمة.. وإنما الكلام الجميل، والأصيل، والنبيل.. اختر منها ما شئت..
«قرأتك في العنان، وفي أعالي
نجومك، وابتغيت لها وصولا
قرأت بك الحياة، وكل ما في
بدائعها بما لطفت شمولا»
زدنا من هذا الشعر الجميل الذي نتشوق لسماعه.. ويبدو انه استجاب دون ان أدري لقد فتح صفحة ثانية لوطنه:-
«وطني كم رويت برد سماح
منك يشتاق الندى معروفا
تنتشي تحته رؤى وأماني
وتغدو منابعا وقطوفا»..
الماء، والنماء، والوطن حديقة غناء لا يقدر خريف الحياة على قتلها.. احسنت.. احسنت..
وعن «سيهات» سقط رأسه لابد له من أغنية بر.. ووفاء:- انه يتعشق ترابها الى درجة الوله كما لو انه عطر.. وله الحق في ذلك:-
«اثيري على ناظري التراب
صباحا وفي منزل الغاسق»
ولأن للأمل موقد.. واتقاد.. فإن لشاعرنا آل إبراهيم معه حكاية وتجربة لا تشجع كثيراً اترك له مراجعتها دون تدخل.. سوى ان حبكتها الشعرية تحتاج إلى اعادة نظر.. إلا ان الذي انتظره بحرارة الشوق ذلك الذي همس به في أذن الشهيد: لم أفهم شيئا في أول همسة.. وإنما قرأت آخر همسة:
«تحول ميمه، والهاء
عاصفة الرصاص الى شفا الورق
وفي صوتين يسكب الوجود
الحب والصدق»..
قرأتها يا صديقي.. واهمس في ذلك ان الحي ناهيك عن الشهيد لا يقرأ الغموض.. ولا يفك اللغز.. أفصح.!
«سوف يفي الغيب» أخالها أكثر وضوحا واشراقا من سابقتها:-
«سأنشد كلما أظمأ
لينطق بعدك الصعب
ويعلم انني بالموت
انعش! لو تعذر او ثوى»
هل انك تريد ان تقول «انتعش» بدلا من ان أعش.؟ وهل أحد ينتعش بالموت؟ وهل الحتف يتعذر؟ ومتى؟ وبأية حال؟ لم يطرح صديقي أكثر من تهومات لا توصل إلى قناعة.. حتى قمره الذي خاطبه والمضارم التي لا تخبو، والغيب الذي لم يف، بقيت تنتظر الحل:-
«يضج العالم المحروم
يصرخ.
ينتهي
يدري
بأنك فرحة العصر
أن شفاءه الإسلام
أن شفاءه الحب»
أين هي المعاناة.؟ ما شكلها.؟.. ثم لماذا تقطيع أوصال الشعر؟ الجدار حين تتناثر لبناته يتحول الى طلل وإلى ملل.. هل انه الافتعال الذي يمزق الصورة ويلقي على بقاياها دشا باردا.. أكاد أجيب بنعم.. لأن شاعرنا حين ينفعل ولا يفتعل قادر على صياغة ما هو أفضل وأجمل.. لنقرأ معه مقطوعته الشعرية «كعبة البيت»
«لم تعد تُضحك المجازر ما انهك
قلب السماح.. همٌ وعصف
فالدم البوسني ما جف أو غار
ولا نزفة لقانا تجف
وثرى القدس حين اسكنه الخذ
لان من ظن انه سيكف؟!
سيطيل النياح والكف بتراء
ويعنو الغلاة نبض يشف»..
زدنا من شعرك الجميل زدنا يرحمك الله.. ويسترسل في واحدة من أجمل قصائده:-
كعبة البيت حللي العالم البائس
نورا سقاه مزن وعطفه فجرِّي زمزم الحياة أناشيد
فيحيا أمن.. ويدحر خوف»
وردت كلمة «حللي» بحرف حاء مهملة.. صحتها جللي.. أي ابسطي نورك.. وتتوالى قصائده المعبرة كما لو أننا انتقلنا من أرض رمادية إلى حقل مليء بالزهور والشجر.. والثمر.. كيف لا وهو يرسم صورة باكية لطفل بوسني:
ألق في جماله خلل
كملت لا يشوبه خلل
رسم الحزن شكل وجنته
فمحياه بالأسى جذل
«الجذل» شاعرنا صفة من صفات السعادة لا شأن للأسى بها.. لتقل» وجل»
ان روحي بجمرة علقت
وقوامي بها لمتصل
ما عراها.. كما عراك ولم
تلق ما أنت منه مذ قتل
ومرة ثانية ابدل ما عراها بما اعتراها.. ان ذلك أصوب.. «نفخة من زفير» عبرنا محطتها حتى لا نتعرض سوياً إلى نفخة زفيرها الذي لازمته طويلاً.. ما أحوجنا إلى نفحة نسيم ترطب الأجواء وتسري عن الأجساد.
وعبوس لحظة فترة قصيرة لا تمنح راحة ولا استراحة.. «اما الضاد» فبحرها واسع نخشى الغرق فيه مع شاعرنا الذي أطال.. ورغم هذه الخشية لابد وأن نتوقف أمام مقطع من بحر قصيدته المتفاوته القدرة على رسم الصورة.
سكبت بها النفس ما وسعت
من الصدق فاطلب بها مرتقى
وجاريت فيها مليك البيان
على عرش صرح الجيان استوى
ويمتُّ بها كل مكنونة
وشرعت من داخلي ما انطوى
وصورت نفسي بأبعادها
بما ساء منها.. وما يرتضى
بعقد من الدر.. در الشعور
صفي.. خليق بان يصطفي.
هذا هو المطلوب منك ومني ومن الآخرين.. انها لغة القرآن.. والبيان..والإبداع التي تتعرض اليوم لمخاطر التغريب.. ولهجمة الشعر الشعبي عبر وسائل اعلامنا.. فهل نملك حماية لها.. انها التاريخ ولغة العقيدة والتراث.
هذا بعض ما اعتراني؟ أما انت ماذا عراك على حد قولك، أي ماذا اعتراك؟
«يا قمرا اودع قلبي هواك
طاب له حبك حتى رواك
أو ارتواك لا يهم.. ما دام العشق موصولاً بينك وبينه دون تعثر يخل بصياغة المناجاة..
لا أدري أأرهقنا الشاعر برحلته.. أم نحن سوياً أرهقناه بالمتاعبة التي لا تخلو من حب.. ومن عتب.. وحتى نكمل المسيرة في موعدها المحدد لابد وان نستثني من وقوفنا عدة محطات شبيهة بمحطات سبقت في مضامينها وان اختلفت في عناوينها:
«معي» و« حتى مع النحل» و«لكن» ومن احلى داخلي» وتستوقفنا بعدها علامة كتب عليها «علامات» على ماذا؟ عنوان لافت للنظر:
«اذا قامت الياء تدعو الصعاليك
اعدت لها الواو حصن الزبرجد أخضر»
أليس لدينا على أرض الواقع مسميات لحروب لم نألفها بعد، ولم نعرفها: حرب النجوم، حرب البطاطس»، حرب الموز، وقريباً حرب المياه.. شاعرنا أضاف اليها حرب الحروف .. من المنتصر؟!
«والفها الألف اذا ابدت اللام
لا ماتها الفاخرة
اذا شاءت الظاء ان تمنح الوارثين ظلاً ظليلاً..
حاولت استجماع حروف اطراف الحرب.. «يوم لظاه» ولم أعرف نهايته ولا من كسب المعركة.. أحسن.
أما «فواصل زمنه» فمجرد علامات استفهام تنشط خلايا الحيرة دون أن تضيف معلومة يمكن الركون اليها لتداخلها وتقاطعها..
لكل شيء في الحياة ثمن.. وثمن ديوانه جاء الدفع به أخيراً.. وفي النهاية.. ما قدره؟ ما مدى قدرته؟ هذا ما سوف نتعرف عليه من خلال متابعة بضاعته الشعرية المعروضة في سوق الشعر:
«قبله»
لم يعترف السوس بوجودي بعده
ضحكت من الديوان القديم..
بقي أن أودع ساعة اليد
حتى لا يحزن البطل».
ما للبطل والساعة.. هل أنه يكره الزمن.. أم انه لا يعترف به لأن عقله القديم تجمد في ثلاجة الماضي..
وتبقى «الأخيرة» الأخيرة حيث نترجل بعدها من مطية الرحلة إلى رحلة أخرى.. ربما تكون أكثر دفئاً أو أكثر صقيعاً.. تأملتها.. سحرها من طين.. وشعرها من عجين.. قصيدة مفردات منفردة وددت لوأنها متفردة لعلها احدى محاولاته المقتسرة التي خانه توفيق كلمتها.. ولم شمل بعثرتها الفكرية والعضوية.. وما أخال هذا محصلة عجز لديه.. فقد استطاع في بعض قصائده ان يحلق كشاعر. إلا أن بعضها الآخر اخفق ربما لاستعجال غير مبرر.. وربما لافتعال غير محمود..
أقول لصديقي الشاعر الشاب آل ابراهيم.. بعض قصائدك توحي بقدرتك الشعرية.. ومقدرتك الشعورية وهذا ما أحمده لك.. وهو ما يدفعني في حب أن أرجوك ألا تستعجل ميلاد قصائدك قبل اكتمال نموها وليس عيباً ان تستشير.. فما خاب من استشار.. اعد قراءة ديوانك من جديد من أجل تصويبه قبل ان تعيد طباعته.. وقبل اقدامك على طباعة أي شعر آخر.. يهمني أن أقرأ لك شعراً جيداً أسعد به ويسعد به من تستهويه قراءة الشعر..وادرك انهم قلة قلة..