روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال «ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه» سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم.. ذهبت تلك الأيام بكل آلامها وآمالها وذهب ذلك الزمن البعيد بكل ما يحمله من ذكريات سعيدة ومؤلمة.
بعد أن كنت شاباً يتوقد طموحاً وكبرياء وأنظر للمستقبل نظرة اعتزاز وفخر وأمل بعد أن كنت أبني أحلاماً جميلة وتطلعات أجمل.. بعد أن كنت مؤملاً في درجات عليا ومكانة مرموقة.. وبعد أن كانت لي أحلامي وأيامي التي بلا حدود أو قيود..
كنت أحس بأنني كلما حققت شيئاً منها ستظهر لي أشياء أخرى كثيرة ولكن بعزيمتي واصراري وإرادتي التي تفل الحديد ودأبي المتواصل سوف أحقق كل ما أصبو إليه.. بعد أن كنت شاباً يمتلئ حيوية ونشاطاً وهمة عالية أريد كل شيء وأسعى وراء نسمة هبت عالية وتحطمت طموحاتي وتكسرت جميع المجاديف التي كانت تحملني بكل عزيمة وقوة إلى بر الأمان في يوم ما.. هل هو الركود اللامتناهي والملل الدائم والسير على وتيرة واحدة طول تلك السنين الماضية وخصوصاً بعد التخرج والحصول على الوظيفة؟ والرضا بمبدأ مكانك سر.. أم أن روح الشباب وقوته وعنفوانه في تلك السن قد انطفأت ولم تعد تتوهج كما كانت عليه سابقاً؟
وهل لتقدم العمر دور في ذلك؟
هل كان الحماس في ذلك الوقت كفيلا بأن يصنع المعجزات ويحقق المستحيل؟
وهل الآن انطفأ ذلك الحماس بكل معانيه وبالتالي خمدت نار القدوم إلى الحياة بكل قوة وماتت الرغبة فيها؟
وهل حققت كل ما أريد وهذا طبعاً مستحيل.. ولكني بالتأكيد قد حققت بعضاً منه، وبعد ذلك لم أعد أفكر في شيء أي شيء خصوصاً إذا كان يفوق قدراتي وامكاناتي وتطلعاتي حتى لو كان بمرحلة بسيطة.. ففاقد الشيء لا يعطيه غالباً.. هل الإمكانات التي كانت كفيلة بأن توصلني إلى ما أريد ..ذهبت هي الأخرى إلى غير رجعة؟
هذا بالتأكيد نعم.. وبالتالي سقط في يدي كل شيء وداخلني اليأس ولم أعد أريد من الحياة سوى الحياة نفسها فقط.. هل هناك أسباب أخرى دفعتني إلى هذا اليأس وفقدان الأمل في أن أحقق أي شيء يذكر بعد هذه السن؟ وأنا الآن قابع خلف كرسي الوظيفة التي سأتركها بعد فترة قصيرة جداً هي أيضاً.
يا سادة الروتين صعب وممل ولكن إذا لم تتمش معه فسوف تجد نفسك على رصيف العمر وبين الأزقة منبوذاً لا أحد يقدم لك المساعدة ولا أحد يريدك وبالتالي سوف تفقد كل شيء حتى لقمة العيش إذا أردتها لا بد وأن تتبع نمطاً معيناً في الحياة حتى وإن كنت لا ترغبه أو تحبذه وحتى وإن كانوا هم يريدونه لك وليس أنت.. لتشبع نفسك ناهيك إذا كنت من الأشخاص الذين يتولون مسؤولية ورعاية أناس آخرين عندها لن تعيش لنفسك فقط.. ولكن يجب أيضاً أن تعيش لهم.. المهم هم وأنت لا.. هنا قد لا تحقق الكثير من أحلامك أنت أو أمانيك وتطلعاتك في سبيل تحقيق الكثير من أحلامهم ورغباتهم وتوفير سبل الراحة لهم.
وبالرغم من ذلك وفي أحيان كثيرة لا تجد جزاءً ولا شكورا.. بل ربما إذا قصرت يوماً اكيلت لك الاتهامات والشتائم واتهمت بالإهمال واللامبالاة وعدم المسؤولية وأصبحت في موقف لا تحسد عليه وكل ذلك لأنك عجزت يوماً.. ولأي سبب من الأسباب قد يكون خارجاً عن ارادتك وفوق كل إمكاناتك أن تحقق رغبة أو حاجة لأحدهم بالرغم من أنك طوال سني عمرك وأنت تكد وتكدح وتتعب وتسعى من أجلهم.. ولكن في النهاية لا للتقصير ولا للتعذر ولا للتعب.. المال هم والمهم والهم في هذا الزمن فما دمت تأتي به فأنت منهم وفيهم وما عدا ذلك فأنت الملوم والمقصر وليس لنا أن نعذرك..
تصوروا يا سادتي المادة أصبحت هي الفيصل في الحكم على كل الأشياء.. عجباً لزمن كهذا يتساوى فيه المقصر وغير المقصر والغث والسمين والصالح والطالح، وفي النهاية تبقى المادة هي الحكم.. فما دمت تخدم المصالح وتدر الأرباح وتحقق أحلام غيرك أياً كانت هذه الأحلام فأنت رجل حتى وإن كنت لا تحمل من الأخلاق إلا مسماها فقط..
عجباً لزمان كهذا فهو يختلف كثيراً عن الماضي في كل شيء بدون استثناء في ناسه وخيره وشره وطبيعته وخيراته، صحيح أن كل ماضٍ يحمل آلاماً كثيرة ولكنه أيضاً يحمل آمالاً وذكريات جميلة وطيبة رائعة وتواضعاً أكثر وأناساً أيضاً طيبين لم تغيرهم حوادث الزمن ولم تعكر حياتهم المادة ولكن هيهات أن يعود ذلك الزمن وتلك الأيام وذلك الماضي الجميل بكل ما يحويه من ايجابيات وحتى سلبياته كنا راضين عنها تمام الرضا لأنها كانت كزبد البحر لا تبقى في النفوس الا للحظات ومن ثم تزول ويرجع كل شيء إلى سجيته الأولى..
ولن يعود ذلك الماضي لن يعود ولن نستطيع نحن أن نرجعه وإن حاولنا وليس لنا إلا أن نحيا حياتنا كما يريدها من حولنا وليس كما نريدها نحن شئنا أم أبينا.. ولكن المهم أن يتمسك الانسان بمبادئه وقيمته الإسلامية لأنها هي التي ستبقى وغيرها إلى زوال لا شك في ذلك وهذا هو عزاؤنا الوحيد.
|