تحقيق: عبدالله بن ظافر الاسمري
التوكل على الله، ذلك المصطلح وتلك العقيدة التي تربط العبد بربه وتقربه منه، وتجعل منه مؤمناً أوكل أمره الى الله لا الى البشر، بعيداً عن اسباب الشرك والاعتماد على غير الله.
وهنا يتحدث «للرسالة» نخبة من المشايخ الفضلاء عن هذه العقيدة وهذه العبادة العظيمة من العبد مع ربه.
فإلى الموضوع:
التوكل حقيقته وأهميته
يستهل الحديث فضيلة رئيس هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمحافظة النعيرية الشيخ تركي بن فهيد الشمري بتعريف للتوكل فقال فضيلته: هو عمل وأمل مع هدوء قلب وطمأنية نفس، واعتقاد جازم بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وان الله لا يضيع اجر من احسن عملا، وانه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها واجلها، فكم من عامل كادح لم يأكل ثمره وعمله وكدحه، وكم من زارع لم يحصد ما زرع.
وحقيقة التوكل: هو اعتماد القلب على الله عز وجل في جلب المصالح ودفع المفاسد.
وفي بيان لأهمية التوكل ومنزلته تحدث «للرسالة» فضيلة رئيس مركز هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحوية بمحافظة الطائف الشيخ عبدالله بن محمد الشقير حيث قال فضيلته: التوكل على الله خلق عظيم من اخلاق الاسلام وهو من اعلى مقامات اليقين واشرف احوال المقربين وهو نظام التوحيد وجماع الامر وهو مفتاح كل خير لانه اعلى مقامات التوحيد وعبادة من افضل العبادات.
وهو فريضة يجب اخلاصه لله تعالى لقوله تعالى:{..وّعّلّى اللهٌ فّتّوّكَّلٍوا إن كٍنتٍم مٍَؤًمٌنٌينّ } اي وعلى الله فتوكلوا لا على غيره. ان التوكل شرط من شروط الايمان ولازم من لوازمه ومقتضياته، فكلما قوي ايمان العبد كان توكله اكبر واذا ضعف الايمان ضعف التوكل وقال تعالى:{وّقّالّ مٍوسّى" يّا قّوًمٌ إن كٍنتٍمً آمّنتٍم بٌاللَّهٌ فّعّلّيًهٌ تّوّكَّلٍوا إن كٍنتٍم مٍَسًلٌمٌينّ } فجعل دليل صحة الاسلام التوكل. والتوكل مقام جليل القدر عظيم الاثر جعله الله سبباً لنيل محبته قال تعالى:{..إنَّ اللّهّ يٍحٌبٍَ المٍتّوّكٌَلٌينّ } .
وجمع الله بينه وبين الهداية والحق والدعاء. والتوكل اصل من اصول العبادة التي لا يتم توحيد العبد الا به جاء الامر به في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: {..فّاعًبٍدًهٍ وّتّوّكَّلً عّلّيًهٌ..} وقوله عز وجل:{وّتّوّكَّلً عّلّىالحّيٌَ الذٌي لا يّمٍوتٍ..}، وهو من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى:{إنَّمّا المٍؤًمٌنٍونّ الذٌينّ إذّا ذٍكٌرّ اللّهٍ وّجٌلّتً قٍلٍوبٍهٍمً وّإذّا تٍلٌيّتً عّلّيًهٌمً آيّاتٍهٍ زّادّتًهٍمً إيمّانْا وّعّلّى" رّبٌَهٌمً يّتّوّكَّلٍونّ } ومن فضل التوكل في القرآن ان الله امر فيه رسوله بالتوكل في تسع آيات وكذلك امر المؤمنين عامة بالتوكل وورد فضل التوكل في السنة فعن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :«اللهم لك اسلمت وبك آمنت وعليك توكلت واليك انبت وبك خاصمت اعوذ بعزتك لا اله الا انت الحي الذي لا يموت والجن والانس يموتون» وعن انس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:«اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته واستهداك فهديته واستغفرك فغفرت له».
الأدلة من الكتاب والسنة
بعد ذلك يعود الحديث للشيخ تركي الشمري حيث يورد فضيلته الادلة من الكتاب والسنة والتي تدلل على هذا المعنى فقال فضيلته: لقد جمع الله في كتابه بين التوكل والعبادة وبين التوكل والايمان والتوكل والتقوى والتوكل والاسلام والتوكل والهداية كما يدل بوضوح ان التوكل اصل لجميع مقامات الايمان والاحسان ولجميع اعمال الاسلام، قال الله تعالى:{.. وّمّن يّتّوّكَّلً عّلّى اللهٌ فّهٍوّ حّسًبٍهٍ ..} وقال سبحانه:{وّتّوّكَّلً عّلّى الحّيٌَ الذٌي لا يّمٍوتٍ وّسّبٌَحً بٌحّمًدٌهٌ وّكّفّى" بٌهٌ بٌذٍنٍوبٌ عٌبّادٌهٌ خّبٌيرْا} وقال سبحانه: {..وّعّلّى اللّهٌ فّتّوّكَّلٍوا إن كٍنتٍم مٍَؤًمٌنٌينّ} وقال سبحانه {إنَّمّا المٍؤًمٌنٍونّ الّذٌينّ إذّا ذٍكٌرّ اللهٍ وّجٌلّتً قٍلٍوبٍهٍمً وّإذّا تٍلٌيّتً عّلّيًهٌمً آيّاتٍهٍ زّادّتًهٍمً إيمّانْا وّعّلّى" رّبٌَهٌمً يّتّوّكَّلٍونّ } وقال سبحانه: {..فّإذّا عّزّمًتّ فّتّوّكَّلً عّلّى اللّهٌ إنَّ اللّهّ يٍحٌبٍَ المٍتّوّكٌَلٌينّ }.
اما من السنة فيكفي ما قاله الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه انه يدخل الجنة من امته سبعون الفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب ثم قال «هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون»، واذا خرج المسلم من بيته وقال:« بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة الا بالله، يقال له كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان» زاد ابو داود «فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي».
صور وعبر
وفي حديث مهم لاستعراض نماذج لمن سلف في صدقهم وتوكلهم على الله سبحانه وتعالى، يتحدث للرسالة فضيلة مدير ادارة التوعية والتوجيه بفرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة نجران الشيخ عبدالله بن سعد القحطاني حيث ذكر فضيلته ذلك بقوله: هذا ابراهيم عليه السلام حينما القي في النار اتاه جبريل عليه السلام في ساعة يحتاج الانسان فيها الى المساعدة وقال له ألك الي حاجة. قال (حسبي الله ونعم الوكيل)، ومن توكل على الله حفظه وتلك هاجر عليها السلام عندما وضعها ابراهيم عليه السلام بوادي غير ذي زرع قالت له عندما قفل راجعا: يا ابراهيم لمن تكلنا يا ابراهيم لمن تكلنا يا ابراهيم؟ ويرد عليها ولكنها قالت: يا ابراهيم: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم، قالت؟ فاذهب فإن الله لا يضيعنا، انه التوكل. قال سالم بن ابي الجعد، حدثت ان عيسى عليه السلام كان يقول: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم واياكم وفضول الدنيا فان فضول الدنيا عند الله رجز، هذه طير السماء تغدو وتروح ليس معها من ارزاقها شيء لا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها فان قلتم: ان بطونكم اعظم من بطون الطير فهذه الوحوش من البقر والحمير وغيرها تغدو وتروح ليس معها من ارزاقها شيء لا تحرث ولا تحصد الله يرزقها.
اذن: الناس مع التوكل على ثلاثة أنواع: الاول: من تواكل وقعد عن العمل ولم يأخذ بالاسباب فهذا مخالف لسنة الله عز وجل في الكون. الثاني: من قام بالاسباب وترك التوكل وهؤلاء الماديون واتباعهم. الثالث: اهل الحق من قاموا بالاسباب وتوكلوا على الله عز وجل وهذا هو طريق الرسل والانبياء ومن تبعهم باحسان فهم يعملون للجنة ويتوكلون على الله ويعملون في مصالحهم ويتوكلون على الله تعالى.
التوكل والعمل بالاسباب
وفي جانب آخر مهم من جوانب هذا الموضوع يشير الشيخ الشمري ايضاً الى قضية غاية في الاهمية، الا وهي العمل بالاسباب مع التوكل على الله فيقول فضيلته: قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله «فالالتفات الى الاسباب واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الاسباب ان تكون اسباباً نقص في العقل او الاعراض عن الاسباب المأمور بها قدح في الشرع»» ولقد ارشد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الاعرابي الى ذلك عندما جاءه يسأله عن ناقته فقال اعقلها وتوكل، فأمره ان يأخذ بالاسباب ويتوكل على الله وفي الصحيحين عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما انزل الله داء الا انزل له شفاء»، ولا ينافي ابداً بين التوكل على الله وبذل الاسباب، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا».
درجات واقسام
ويلتقط الحديث هنا مرة اخرى فضيلة الشيخ عبدالله الشقير حيث اورد فضيلته قول ابن عباس في التوكل بأنه هو الثقة بالله. وصدق التوكل ان تثق في الله وفيما عند الله فانه اعظم وابقى مما لديك في دنياك، قال الحسن: ان من توكل العبد ان يكون الله هو ثقته وقال الامام احمد: هو قطع الاستشراف بالاياس من الخلق، وقال: وجملة التوكل تفويض الامر على الله جل ثناؤه والثقة به.
بعدها بين الشيخ الشقير درجات التوكل واقسامه ومراتبه فقال فضيلته: اما درجات التوكل من كلام ابن القيم في مدارج السالكين: الاولى: معرفة الرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الامور الى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته واليقين بكفاية وكيله وان غيره لا يقوم مقامه في ذلك. والثانية: اثبات الاسباب ورعايتها والاخذ بها. والثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد. والرابعة:اعتماد القلب على الله واستناده اليه وسكونه اليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش، وطمأنينة بالله والثقة بتدبيره. والخامسة: حسن الظن بالله عز وجل. والسادسة: استسلام القلب لله . والسابعة: التفويض: هو القاء العبد اموره كلها الى الله، وانزالها به طلباً واختياراً، لا كرهاً واضطراراً والتفويض هو روح التوكل ولبه وحقيقته. والثامنة: الرضا.
واما بالنسبة للاقسام فان اقسام التوكل «مجاله ومتعلقاته» مراتب: تبدأ من توكل العبد على الله في استقامة نفسه وكذلك في اقامة دين الله في الارض ونصره وازالة الضلال عن عبيده وهدايتهم والسعي في مصالحه ودفع فساد المفسدين ورفعه والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وايضاً توكل على الله في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية كالرزق والزواج والذرية والعافية والانتصار على العدو الظالم او دفع مكروهاته.
العلاقة والعوائق
ويشير الشيخ الشقير بعد ذلك الى العوائق التي تعيق العبد عن توكله على ربه، فقال فضيلته: اما عوائق التوكل فهي عديدة اولها: الجهل بمقام الله من ربوبية وألوهية وأسماء وصفات وثانيها الغرور والاعجاب بالنفس وثالثها الركون للخلق والاعتماد عليهم في قضاء الحاجات ورابعها حب الدنيا والاغترار بها مما يحول بين العبد والتوكل لانها عبادة لا تصح مع جعل العبد نفسه عبداً للدنيا.
كما ان هناك عدد الاشياء التي تنافي اصل التوكل كالتعلق بسبب لا تأثير له كالاموات والغالبين والطواغيت فيما لا يقدر عليه الا الله واعتقاد ان السبب سواء المشروع او المحرم فاعل بنفسه دون الله فذلك شرك اكبر. ومما ينافي كمال التوكل الواجب هو التوكل في الاسباب الظاهرة العادية على اي شخص قادر حي فيما يقدر عليه والاعتماد على امر ليس سبباً شرعاً مع اعتقاد ان الضر والنفع بيد الله وحده كالتطير والتمائم والتولة وهناك الوكالة الجائزة وهي: توكيل الانسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه لكن ليس له ان يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه بل يتوكل على الله في تيسير امره الذي يطلبه بنفسه او نائبه..
والتطير قادح في التوكل، وذلك ان المتوكل على الله يعلم ان ما اصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه قال تعالى:{قٍل لَّن يٍصٌيبّنّا إلاَّ مّا كّتّبّ اللّهٍ لّنّا هٍوّ مّوًلانّا ّعّلّى الله فّلًيّتّوّكَّلٌ المٍؤًمٌنٍونّ} واما المتطير فهو في خوف وفزع دائم الاضطراب والقلق من امور مخلوقة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً.
وفي استعراض للعلاقة بين التوكل والاسباب ومواقف الناس من الاسباب، يذكر الشيخ الشقير ذلك بقوله: ان مواقف الناس من الاسباب على اربعة اقسام: اولها: الالتفات الى الاسباب بالكلية واعتماد القلب والجوارح عليها من غير نظر لمسببها: كنظرة الماديين والعقلانيين.
وكذلك الإعراض عن الاسباب بالكلية: كنظر غالب الصوفية للتوكل، فهم لا يرون تحقيق التوكل الا في ترك الاسباب بالكلية فتركوا التكسب والعمل والاحتراز والاحتياط والتزود في السفر والطعام ويرون ذلك كله منافياً للتوكل وهذا قول باطل.
والثالث نفي تأثير الاسباب بالكلية: وصف العلماء هذا القول بأنه «نقص في العقل» وهو قول القدرية الجبرية، وهم يرون ان الله لم يخلق شيئاً سبباً ولا جعل في الاسباب قوى وطبائع تؤثر.
وغرضهم الرد على القدرية النقاة ولكنهم ردوا باطلاً بباطل. وهذا الموقف فاسد باطل مخالف للكتاب والسنة والاجماع. اما الرابع فهو قيام الجوارح بالاسباب واعتماد القلب على مسبب الاسباب سبحانه وتعالى: هذا مذهب اهل السنة والجماعة وهو الحق الذي دل عليه الشرع والعقل وهو الوسط.
اما التواكل فهو: ترك الكسب والطمع في المخلوقين والاعتماد عليهم بالتخلي عن الاسباب التي وضعها الله عز وجل والانقطاع عن السعي والتقاعد عن العمل وانتظار النتائج من الخلق ولقد حارب الاسلام التواكل وحذر منه، وهو حرام ليس من الشرع اصلاً وهو مخالف للنصوص.
الثمار والنتائج
وفي نهاية حديثه يشير الشيخ الشقير الى ثمار التوكل على الله سبحانه وتعالى فيقول ان للتوكل على الله ثماراً ابرزها: تحقيق الايمان: قال تعالى: {..وّعّلّى اللهٌ فّتّوّكَّلٍوا إن كٍنتٍم مٍَؤًمٌنٌينّ }. وطمأنينة النفس وارتياح القلب وسكونه وكفاية الله المتوكل جميع شؤونه: قال ابن القيم: اي كافيه ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره الا بأذى لابد منه: كالحر والبرد والجوع والعطش واما ان يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون ابدا وهذا اعظم جزاء ان جعل الله تعالى نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته، فلو توكل العبد على الله حق توكله وانه خالق السماوات والارض ومن فيهن لجعل الله له مخرجا وكفاه ورزقه ونصره، ولحديث: اذا خرج الرجل من باب بيته كان معه ملكان موكلان به فاذا قال: بسم الله قالا: هديت فاذا قال: لاحول ولا قوة الا بالله قالا: وقيت فاذا قال: توكلت على الله قالا: كفيت قال: فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي. قال ابن عباس «حسبنا الله ونعم الوكيل» قالها ابراهيم عليه الصلاة والسلام حين القي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {..إنَّ النَّاسّ قّدً جّمّعٍوا لّكٍمً } اما قوله: {..وّنٌعًمّ الوّكٌيلٍ ..} اي نعم الموكول اليه كما قال تعالى: {.وّاعًتّصٌمٍوا بٌاللَّهٌ هٍوّ مّوًلاكٍمً فّنٌعًمّ المّوًلّى" وّنٌعًمّ النَّصٌيرٍ } قال ابن القيم رحمه الله: هو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ اليه وهو الذي يؤمن الخائف ويجير المستجير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته اليه، تولاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه واتقاه، أمنه مما يخاف ويحذر وجلب اليه ما يحتاج اليه من المنافع.
|