تظل العولمة الموضوع الأكثر حضوراً على الساحة الفكرية العالمية، وتظل كذلك الأكثر إثارة للجدل ولا يعود هذا إلى كون العولمة ظاهرة معقدة، ومتناقضة الأوجه تراوغ محاولات تعريفها وتحديد حدودها، بل لأنها وبشهادة المؤرخين ستكون العامل أو الفاعل الذي سيوجه مسار وآفاق الحضارة الإنسانية في الألفية الثالثة.
إن الافتراض القائل إن هناك خطاباً واحدا ومفهوما ً واحداً للعولمة يدور تحديدا حول هيمنة غربية متصاعدة، زاحفة على العالم الثالث لا محالة، إنما هو تسطيح للواقع ولسياق هذه الظاهرة أيضاً. فالنظرة الحصيفة إلى المشهد العالمي تبين أن الحديث عن عولمات عدة بدلاً من عولمة واحدة هو الأصوب والأقرب إلى الواقع الملموس. كما تبين أن هذه العولمات ليست كلها شراً مطلقاً،كذلك، ليست خيرا مطلقاً.
يقول د. محمد الرميحي: وكما يوجد قانون بإيقاع الحياة، هناك جدلية تتحكم بصيغ العولمة وموجاتها واستقبال الإنسانية لها وهذه الجدلية تظهر من خلالها العولمات بتجليات مختلفة تتناقض فيما بينها. ولعل أهم منظور لفهم العولمات وتطورها المستقبلي هو الكيفية التي يناقض بها منطق العولمات منطقاً قوياً هو منطق التدويل الذي بدوره كان مناهضاً لمنطق الدولة الوطنية.
لا يختلف اثنان اليوم على أن العولمة حقيقة وإن كانت الظواهر تبدو وكأن أحداً لا يعرف معرفة يقينية ما الذي يجعلها حقيقة.
هكذا، بينما لا يوجد اتفاق حول ما هية العولمة فإن جميع المناقشات الدائرة حولها تقوم على اتفاق قوي على أن العولمة موجودة فعلاً.
وفيما وراء المساجلات المربكة الدائرة حالياً حول أسبابها الأولية ونتائجها النهائية، فإننا نستطيع أن نتبين أن ثمة قبولاً ضمنياً واسعاً لفكرة أن العولمة حقيقة بصفتها عملية تغيير تحدث حولنا، ولكن ما الذي يحدث هنا فيما بيننا في النقاش الدائر حول العولمة؟!
يقو لجنز بارتلسون أستاذ العلوم السياسية في جامعة استوكهولم: في رأيي أن قبول العولمة كحقيقة هو في حد ذاته حقيقة ا جتماعية جديرة بالبحث خاصة أن بعض المحللين قد يرى أن هذه الحقيقة هي أحد المكونات الأساسية لما تدور حوله العولمة.
وبينا يوجد كثير من العروض العامة التي كتبت أخيراً عن الجدل الدائر حول العولمة، فإن معظم ما كتب ينبع مما ورد في نظرية العولمة ذاتها، ولم يلتفت كثيرا لوجهات النظر الأخرى، حول مفهوم العولمة إلا نادراً.
لذا، يرى فيرجسون أن مفهوم العولمة بالكاد يتعدى كونه تعبيراً عن أيديولوجية رأسمالية.
إن الانطباع الأول عن العولمة والأكثر تفهماً هو أنها عملية مكثفة لانتقال أو تبادل للأشياء بين وحدات قائمة سلفاً، سواء كانت هذه الوحدات سياسية أم اقتصادية أم ثقافية حضارية وبهذا المفهوم، فإن العولمة تعني عملية تغيير تنبع عند مستوى الوحدة، مع الأخذ في الاعتبار النتائج غير المقصودة للتفاعل بين الوحدات.
هكذا، تتضمن العولمة انتقال عمليات تبادل عبر الحدود القائمة بين الوحدات وكذلك بين الوحدات والنظام، ولكنها تظل تتمسك بافتراض أن هذا النظام وهذه الوحدات تظل محتفظة بهويتها في أثناء عملية العولمة.
إذا كانت العولمة في المفهوم السابق هي عملية تفاعل ونقل وانتقال فيما بين وحدات قائمة سلفاً، فإن مفهوماً آخر يقدم كثيرا من الحجج لمناقضة هذه الصورة.
بمعنى أن العولمة في هذا المفهوم هي عملية تحول، تحدث على مستوى النظام ككل، وأن للعلومة تأثيراتها على هذه المنظومة بمثل ما تؤثر في هوية الوحدات.
ختاماً أقول لا ينبغي النظر إلى العولمة باعتبارها نبتاً شيطانياً يهدد كل محاصيل البشرية وحقولها المثمرة ولا النظر إلى العولمة كظاهرة تسلطية، فقد استطاعت الإنسانية عبر تاريخها، التكيف مع ثورات تقنية عديدة وتعايشت مع تحولات اجتماعية كثيرة وبقي الإنسان هو الإنسان، يبحث ويجرب ويطور العلوم ويكتشف المزيد من القوانين والسنن ويلجأ إلى الأدب والثقافة، كلما شعر برغبة في التعبير عن الذات.
|