* لونارد - لندن:
مع نشأة حركة الموحدين في المغرب العربي في القرن السادس الهجري، نمت وتطورت انماط من العمارة المغربية المتميزة حيث تعد مآثرها من روائع ما خلفته العمارة في تلك المنطقة. وقد سيطر الموحدون على بلاد المغرب العربي وتشمل المغرب وتونس والجزائر والاندلس، حيث دامت دولتهم من سنة 541هـ إلى سنة 668 هـ، وقد نشطت الحركة العمرانية بشكل فائق لم يسبق له نظير، وبخاصة عمارة المساجد، وابرز ما ادخله الموحدون في نظام العمارة المسجدية كان عنصر المئذنة التي تميزت عن مثيلاتها في بقية دول العالم الاسلامي في بلاد الشام، حيث كانت المآذن الموحدية تبنى من الآجر، وشكلها برجي ذو قاعدة مربعة تعلوه شرفات، ويتلوها برج آخر أصغر حجما، وتنتهي المئذنة في اعلاها بقبة صغيرة. وأشهر وأروع الأمثلة المعمارية على هذا النمط من المآذن هي مئذنة الجيرالدا بالجامع الكبير باشبيلية بالاندلس.
وتروي كتب التاريخ المعماري ان اسم المهندس الذي قام ببناء المئذنة مجهول، بالرغم من ان الذي بنى المسجد ذاته هو أحمد بن باسة، وتتألف المئذنة من طابقين، الاول وهو الذي يشكل الجزء الاكبر من جسم المئذنة، ويتنهي بإفريز افقي، اما الجزء الثاني فهو برج اصغر حجما يعلو الجزء الاول. وتقوم المئذنة على قاعدة مربعة الشكل ضلعها 65، 13 متر، وبداخلها نواة مربعة ايضاً ضلعها 25،6 متر والتي يلتف حولها منحدر صاعد تعلوه قباب متقاطعة. اما النواة المركزية فتحوي سبع غرف ذات تخطيط مربع متراكبة واحدتها فوق الاخرى، خمس منها مسقوفة بقباب نصف كروية، ويبلغ ارتفاع هذه الغرف ما بين 9،4 متر إلى 3،6 متر. ويبين التركيب الداخلي للمئذنة على مهارة ودراية بفن العمارة مما يضفي بعداً مهماً عدا عن الوظيفية للمئذنة اذ احتوت تجويفاتها على هندسة بديعة. وليس ذلك فحسب انما نجد ان الزخارف البديعة التي تغلف المئذنة من الخارج تنم عن ذوق رفيع. اذ تزين كل وجه من اوجه الجيرالدا ثلاثة شرائط ممتدة ينفتح خلالها ازواج من النوافذ مع توازن مدروس بين الكتلة والفتحات والعلاقة بينهما، وكذلك نماذج متميزة من الزخارف المتلوية ومتعددة التشكيلات الهندسية، وقد وصفها بعض المؤرخين والرحالة: (...لا صومعة تعدلها في جميع مساجد الاندلس، وثاقة عمل، وغرابة صنعة...).
وكانت هذه المئذنة موضع اعجاب أهالي الاندلس من المسلمين والنصارى على حد سواء، حيث يثير انسجام بنائها وروعة زخارفها الفخر والإعجاب ببنيانها، وبقيت هذه المئذنة الفريدة تحت حكم المسلمين إلى ان انحسرت دولة المسلمين بالاندلس وحين سقطت اشبيلية في العام 1148 ميلادية، وكانت المدينة قد وقعت تحت الحصار منذ عامين، ولم تعد تقوى على المقاومة، فأجرى أهلها مفاوضات مع المعتدين من الصليبيين لاعطائهم الحق بالتصرف بمبانيهم قبل سقوط مدينتهم، فمنعهم القائد المهاجم الفونسو من ذلك وهددهم ان هم هدموا المئذنة بقتلهم، مما يدل على مكانة هذه المئذنة التي تحولت بعدها إلى برج كنيسة ، وهي المئذنة الوحيدة التي احتفظت دوماً بطابعها الاسلامي في بلاد الاندلس وذلك بفضل شكلها وارتفاعها، وحيث اطلق عليها اسم الجيرالدا في القرن السادس عشر. وقد لعبت الجيرالدا دورا مهما في الفكر المعماري لاحقا في الفنون المغربية والاندلسية من حيث نمط تخطيطها وتشكيلها، وكذلك فيما حوته من زخارف ونقوش تركت أثراً وتجلت في العمائر والقصور بغرناطة وايضا في مباني المدجنين الدينية. وهكذا كانت هذه المئذنة مما ترك آثاراً في العمارة الإسلامية والمسيحية مما لم يعهد من قبل في تاريخ العمارة الإسلامية.
|