وأني لأنوي القصد ثم يردني عن القصد ميلان الهوى فأميل.
ضاحية الهلالية «شاعرة جاهلية»
جلدي مشبع من تلك العطور الحية، يمكنك أن تقبل ألف امرأة، ولكن لا توجد واحدة بينهن، يمكنها أن تعطيك مذاق الجداول والغابة الذي أحمله في داخلي.
خوانا دي ايباربورو «شاعرة من أورجواي»
أيمم كذبي نحو السماء السعيدة فتكون القصيدة
سعدية مفرح
هل الشعر ذكوري، بمعنى لو اننا قلبنا كل كتب التراث العربي، فما نعثر عليه من شعر نسائي لا يكاد يشكل إلا موجة أو رافداً صغيراً في نهر الشعر الذكوري المتلاطم، وإذا كان البعض يلقي تبعة ذلك على الظروف الاجتماعية لحياة المرأة في العصور القديمة التي جعلتها في أحيان كثيرة تعيش على الهامش إلى حد أن يتجاهل مؤلف موسوعي مثل ابن عبدربه الأندلسي وهو «حجة الأدب» كما يصفه الفتح بن خاقان، والجامع المانع ان يذكر أسماء الشاعرات اللواتي برزن في عصره «حسانة التيمية، والجارية العجفاء، حفصة بنت حمدو الحجازية، عائشة بنت أحمد القرطبية» ويأبى ان يستشهد بأي بيت شعري من نظمهن، مكتفياً بذكر أسماء اثنتين وثلاثين شاعرة فقط من مئات ومئات الشعراء الذين احتواهم كتابه الضخم «العقد الفريد»، ولا ينطبق هذا الأمر على ابن عبدربه بل يتعداه إلى الكثيرين كما يورد الباحث إبراهيم ونوس في كتابه عن «شاعرات العرب».
وفي مختارات ادونيس من ديوان الشعر العربي بمجلداته الثلاثة لا نعثر إلا على خمس شاعرات فقط من بين أربعمائة وسبعة وثلاثين شاعراً مختارا.
ولا يقتصر الأمر على الشعر وحده بل يشمل كافة الفنون الإبداعية.
وإذا كان بعض الدارسين والباحثين يذهب إلى القاء التبعية على العوامل والظروف السياسية أو الاجتماعية في قلة الشعر النسوي المتوفر بين يدينا، فأي تبرير يمكنه ان يفسر هذا الانحسار الواضح في العصر الحديث، ولا يقتصر الأمر على الإبداع العربي بل يتعداه إلى الإبداع الغربي وفنونه الأخرى والشعر بشكل أعم.
فعلى الرغم من كل ما يشاع من التحرر والمساواة إلا اننا لا نستطيع إلا ان نعد على رؤوس أصابعنا أسماء الاديبات والشاعرات العربيات أو الأجنبيات قياساً إلى مجلدات من أسماء الأدباء والشعراء والرجال ونتاجاتهم.
بل إن الأمر ينعدم تماماً في بعض المجالات فلا نجد في تأليف كتب التفسير وجمع الأحاديث والسنن اسم مؤلفة واحدة، وكأن هذا العلم الخطير غير مسموح للنساء بالدخول فيه، وكذلك في تدوين التاريخ فنرى تاريخ الطبري واليعقوبي والمسعودي وابن كثير وابن الأثير والسيوطي والبغدادي والدمشقي، ولكننا لا نرى تاريخاً مدونا من قبل امرأة، في تأليف كتب الأدب والجمهرات والأمالي والطبقات والمختارات والرسائل والشروح والرحلات والمعاجم اللغوية وجمع الأمثال وغيرها لا نعثر على مؤلفة قامت في غفلة من عيون الرجال بتأليف كتاب واحد.
هذا الاستنتاج الخطير يحتاج من المعنيين إلى دراسة شاملة واستقصاء لكنني أسأل بالدرجة الأولى ما رأي النساء العربيات المبدعات بتلك الظاهرة، وهل يمكنهن مناقشتها معنا بهدوء وروية بعيداً عن تعليق التهم الجاهزة في أعناق الرجال لوحدهم.
من هذا الإطار القاتم يمكننا ان ندخل في رؤية أي نتاج نسوي لأن هذا الإطار الخارجي أي الاجتماع والتاريخي سرعان ما يفرش ظلاله على مساحة الصورة الداخلية أي النص وبالتالي يمكنه ان يفسر لنا ما يختفي داخل بنية النص النسوي وما يحدث من تفاعلات معلنة او غير معلنة كالانكسار والقهر والفرح والحب والهروب نحو التصوف والاغتصاب الفكري والجسدي والتحدي وغير ذلك، عنوانا مغريا يفتح لنا أكثر من مدخل للرؤية والتأمل والاستقصاء، فإذا كان العنوان يؤسس غواية النص كما يذهب إلى ذلك «كونغور» فإننا نستفيد من ذلك على مستويين:
المستوى العام أي بنى الشعر النسوي داخل إطار الشعر الذكوري وممتزج به، وعلى المستوى الخاص أي رؤية واقع الشعر النسوي ومكنوناته وبواطنه بشكل منفصل عن المستوى الأول، وهذا يدعونا إلى اكتشاف الميزات الانثوية بلسان الأنثى نفسها داخل شمولية التجربة الإنسانية وليس منفصلة عنها وما هية التراكيب الاجتماعية المهشمة التي تركتها وراءها وهي تخرج من الإطار العام باتجاهنا، هذا على صعيد التجربة، أما على صعيد الفن فلابد ان نرى مستويات الاستعارة الشعرية، والتي هي سبب كل الانزياحات كما يسميها جان كوهن، التي يمارسها الشعر بواسطة التضاد أو المنافرة، ورؤية هذه النقطة تأخذنا إلى التساؤل ثانية عن هذه القلة النوعية والكمية في النتاج النسوي مفتاحا لسؤال أكبر يبدأ من حرية المرأة إلى حرية الكتابة وانتهاء إلى صورة المرأة «المركز، داخل الرجل» المدار، أو باعتبارها مداراً لمركز الرجل، ومحاولة تهشيم المركز والصورة والانطلاق إلى هيولي الوجود.
ويمكن ان نرى صورة المدار والمركز واضحة دائماً في أغلب الكتابات النسوية ومحاولة الخروج إلى المطلق من خلال الشعر سعياً إلى كسر ثنائية الرجل والمرأة التي دار حولها الكثيرون والكثيرات، وذلك طريق اسلم للتغزل دون إثارة نقمة المجتمع الذكوري، حيث تحلق الشاعرات بقصائدها الغزلية في فضاءات ذلك المدار المطلق دون قيد أو حاجز أو نقمة، فتتلمس في الحب معناه الشمولي الذي لا يتوقف عند معنى واحد أو رجل واحد أو مدار واحد، ربما هروباً من واقع التجربة كما لدى بعض الشاعرات أو سعياً إلى شمولية الحب بمعناه الواسع الذي ارتقى بالنفري والبسطامي والشبلي مثلما ارتقى برابعة العدوية وغيرها.
(*) شاعر عراقي مقيم في السويد |