* القاهرة - مكتب الجزيرة - فتحي عامر:
تحتل القراءة دوراً مركزياً في الثقافة العربية والعالمية، فالقراءة فعل تنوير وتغيير واعادة صياغة للعقل والوجدان معاً، والفعل «اقرأ» هو الكلمة الاولى التي جاء بها الذكر الحكيم، ومنذ القدم عرف العرب الكتابة والنسخ ودكاكين الوراقين، وخلفوا وراءهم مئات الآلاف من المخطوطات المتناثرة في العالم حاملة ثقافتهم وهويتهم، وفي مراحل ازدهار الحضارة العربية كان الخليفة يدفع للمترجم مثقالاً من الذهب للكتاب الذي يترجمه عن الثقافات الاخرى، وحديثاً نبهنا الشاعر العربي الى ان «خير جليس في الزمان كتاب».
والقراءة هي محور هذا الكتاب الهام للمفكر والناقد الالماني «فولفجانج ايسر»، الذي اختار له مترجمه الدكتور عبدالوهاب علوب عنوان «فعل القراءة». وصدر مؤخراً عن المشروع القومي للترجمة، لكن المؤلف اختار دراسة «فعل القراءة» للنصوص الجمالية اي النصوص الادبية باشكالها المختلفة، وتوقف بشكل خاص عند النصوص الروائية، مستنتجاً من ذلك كله نظرية في «الاستجابة الجمالية» عند قراءة هذه النصوص، وعلى هذا فان فعل القراءة يقوم على محورين اساسيين هما: النص الادبي، والقارئ. ويشير المؤلف في البداية الى انه لما كان النص الادبي لا يؤدي الى اية استجابة الا حين تتم قراءته، فمن المستحيل وصف هذه الاستجابة دون تحليل عملية القراءة.
وبما ان القراءة هي محور هذه الدراسة فانها تحرك سلسلة كاملة من الانشطة تعتمد على كل من النص وعلى ممارسة بعض الملكات الانسانية الاساسية وعلى هذا فان اي وصف لعملية القراءة لابد ان يلقي الضوء على الانفعالات الاولية التي يثيرها النص في نفس القارئ. ويقصد المؤلف بالاستجابة الجمالية بين النص والقارئ علاقات التأثير والتأثر والتفاعل المتبادل بينهما فالاستجابة الجمالية تثير قوى التخيل والادراك لدى القارئ، مع انها تنبع من النص. ويقول فولفجانج لابد من النظر الى العمل الادبي لا بوصفه وثيقة تسجل شيئاً له وجود فعلي، بل بوصفه اعادة صياغة واقع مصوغ بالفعل مما يؤدي الى ابتكار شيء».
ومن المؤكد ان المؤلف يحلل عملية القراءة، ومن ثم الاستجابة الجمالية لتلك النصوص التي تتوافر فيها شروط الادب وغاياته باعتباره (اي الادب) فناً لغوياً مهمته ابتكار صورة المعنى وليس المعنى في ذاته، ومن ثم فإن صورة المعنى التي يبتكرها الاديب شعراً او رواية او ملحمة او حتى ادباً شعبياً تنتج دلالات عديدة عند كل متلق لها وتنتج ايضاً دلالات متعددة مع تعاقب العصور والازمان يتم استظهارها من خلال فعل القراءة، والنص الادبي بصفته حاملاً لرسالة وبصفته ناتج بنية ثقافية واجتماعية وتاريخية يتجاوز ذاته ويفرز فيضاً من الدلالات التي تتمايز عن بعضها عند كل قراءة وعلى تراخي الزمن.
ولكن هل يمكن ان تصل عملية تأويل النص الى جوهره، او لبه الكامن في بطن الشاعر كما يقول تراثنا العربي؟ يجيب فولفانج بانه اذا اسند التأويل لنفسه مهمة توصيل معنى نص من النصوص الادبية فمن الواضح ان النص نفسه لا يمكن ان يكون قد صاغ هذا المعنى، فكيف يمكن لو كان ماثلاً بالفعل في انتظار تفسير مرجعي يكشف عنه؟ وبنشأة المعنى من عملية التحويل الى واقع، يصبح على المؤول ان يولي اهتماماً للعملية ذاتها يفوق ما يوليه لما ينتج عنها، ومن ثم ينبغي ألا يكون هدفه تفسير عمل ادبي ما، بل الكشف عن الظروف التي تؤدي الى تأثيراته الممكنة العديدة، فاذا ما اوضح امكانات النص فلن يتعرض للسقوط في شرك السعي الى فرض معنى واحد على قارئه وكأنه التأويل الصحيح او افضل التأويلات على الأقل. ويقول ت.س. اليوت: إن الناقد لا ينبغي ان يلجأ الى القهر، ولا يجب ان يصدر احكاماً بالسلب او بالايجاب، بل عليه ان يوضح ان القارئ سيصدر الحكم الصحيح بنفسه».
ويصل فولفجانج الى ان العمل الادبي له قطبان، يمكن ان نطلق على احدهما القطب الفني والآخر الجمالي، والقطب الفني هو نص المؤلف، والقطب الجمالي هو عملية الادراك التي يقوم بها القارئ وبسبب هذه القطبية فإن العمل نفسه لا يمكن أن يتطابق مع النص او مع عملية التحويل الى شيء تدركه الحواس، بل لابد ان يقع في مكان ما بينهما ولابد ان يكون عملياً في طابعه، في حين انه لا يمكن التدني به الى واقع النص او ذاتية القارئ، ومن هذ السمة العملية يستقي «ديناميتيه»، وبمرور القارئ عبر هذه الرؤى المتباينة التي يعرضها النص وربط مختلف الآراء والانماط ببعضها البعض فانه يبدأ في تفعيل العمل وبالتالي في تفعيل ذاته ايضاً.
ويعترض فولفجانج على مفهوم «القارئ المثالي» ذلك القارى الذي يفترض فيه الاحاطة النهائية بجوهر النص ولب معناه ولو كان الامر كذلك فكيف يتسنى لشخص واحد ان يحيط بكل المعاني الكامنة بضربة واحدة؟ فهناك معاني مختلفة تظهر للنص الواحد في عصور مختلفة، والنص نفسه اذا قرئ مرة اخرى من نفس القارئ يترك تأثيراً مختلفاً عن تأثيره في المرة الاولى.
اذن فلابد للقارئ المثالي ان يدرك المعنى الكامن للنص بمعزل عن موقفه التاريخي، بل ان يفعل ذلك مرات ومرات والنتيجة استهلاك تام للنص، وهو ما يعد في حد ذاته مدمراً للادب. الا ان هناك نصوصاً يمكن ان تستهلك بهذه الطريقة كما يتضح من اكوام النصوص الادبية الخفيفة التي تتدفق دون انقطاع على آلات طبع الورق.
وبهذا الايضاح المهم يفرق فولفجانج بين النصوص الادبية الحقيقية التي تبتكر صورها واخيلتها ورموزها وتنتج دلالاتها في كل حين ولا تبين الشخوص فيها الا من وراء غلالة الفن الشفافة، وبين تلك النصوص التافهة التي تقذف بها المطابع يومياً وتحسب زوراً على الادب بينما هي خاوية من الفن فارغة من الدلالة. اما النصوص الحقيقية فانها تحقق علاقة ثرية بين الاديب والقارئ، فالاديب والقارئ - كما يقول فولفجانج - ينبغي ان يشتركا في لعبة الخيال، والحقيقة ان اللعبة لا تصلح اذا زاد النص على كونه مجموعة من القواعد الحاكمة، وتبدأ متعة القارئ حين يصبح هو نفسه منتجاً، اي حين يسمح له النص باظهار قدراته، وهناك بالطبع حدود لاستعداد القارئ للمشاركة.
|