الذوق موهبة تستشعر الحسن والقبح المفضيان الى القبول أو الرفض، ولا يكون التردد بينهما إلا عندما يوجد البديل المنافس، وعادة لا يطول هذا التردد إلا عند التماثل الذي لا يكون تاما في العادة.
ولكن متى يتبدل هذا الذوق؟ ومتى يتحول من شيء إلى شيء آخر؟ وما أسباب ذلك؟
أن يكون ذلك نتيجة ظهور بديل أفضل فأمر طبيعي، أما أن يتحول عن المستحسن أو المستكره من غير أن يكون ذلك نتيجة ظهور بديل، فذلك ما يجب النظر إليه ومحاولة تفسيره، أهو مرتبط بالتحولات الناتجة عن التغيرات بسبب تعاقب مراحل عمر الإنسان أم لا؟
أن يرتبط هذا بالمراحل الأولى من العمر أي من سن الطفولة إلى ما بعد سن المراهقة فأمر طبيعي لكونه في هذه الحال ناتج عن اكتمال قدرات الإنسان الجسمية والذهنية والعقلية والعاطفية وغيرها من القوى الجسمية والنفسية، أما أن يحدث ذلك فيما بعد الخامسة والعشرين من العمر، فذلك ما يحتاج إلى شيء من نظر وشيء من تفسير.
إن العلماء النفسيين كما يحلو لهم أن يسموا أنفسهم بذلك لم يقدموا في ذلك تفسيراً مقنعاً.
لقد اهتم هؤلاء بالتغيرات النفسية كالاكتئاب مثلا، أما التغيرات التي تحدث للأسوياء فلم أقرأ لهم فيها شيئا ذا بال.
يقال إن شيئا من هذا ما هو إلا من باب الترف العلمي فليكن، ألم تقدم بحوث ودراسات في الترف المادي! فلماذا لا يكون للترف العلمي شيء من هذا الاهتمام؟
ثم إن في مثل هذه الدراسات ما يُعين على التعرف على النفس البشرية،وهذا مما يُعين الأطباء النفسيين على فهم نفسيات مرضاهم. أفلا يكون هذا مسوغاً لاجراء مثل هذه البحوث إلى كونه معينا للأصحاء على فهم واقع التغيرات التي تحدث لهم عبر أطوار أعمارهم، وربما حدثت في طور واحد.
قد تقول كيف يكون ذلك؟
وأقول لك فتش فيما حولك من شؤونك وسوف تجد دليل ما أحدثك فيه.
أنا لا أدعوك إلى النظر في الأشياء الثابتة في حياتك، فهذه ربما زاد حسنها طول استصحابها حسنا كالكتب مثلا.
ولكني أدعوك إلى النظر فيما كنت تستحسنه من ألوان وأصوات وأشكال هندسية وما أشبه ذلك مما كنت تستحسنه، ثم انصرف عنه ذوقك من غير أن يملي ذلك تبدل في المستحسن نفسه.
ونعود، فنعيد السؤال الذي منه انطلق حديثنا وهو: لماذا يحدث هذا التحول في الذوق؟ وهل للسن دخل في هذا؟ أم أن ذلك وقف على ظهور المستجدات؟
أما أنا فمن منطلق تجربتي فإني أرى أن أهم شيء في هذا هو السن، وبخاصة ما يكون للعقل دخل في استحسانه أو عدمه.
قد يقول قائل ما دخل العقل في مثل هذه الأشياء لكون هذه متصلة بمواهب ليس سلطان للعقل عليها.
وأقول إن الأمر على غير ما يتصوره هذا القائل إن وجد ذلك أن العقل هو المرجع لكل تفكير عند الإنسان، وما الاستحسان إلا شيء من إيحاءات العقل لأن جميع قوى الإنسان لا تقصد إلى شيء إلا من بعد استشارة العقل. وقد تخالفه ولكن الأكثر انها تنقاد لما يشير إليه، وأحسب هذا هو سر جميع التغيرات التي تطرأ على الإنسان حينما تتقدم به السن حيث تتخلف العاطفة ويتمكن العقل في جميع التصرفات ومنها الذوق.
بل إن الإنسان قد يتخلى عن كثير من الأشياء التي كان يحبها نتيجة لتحكم العقل في المعايير الأخلاقية وغير الأخلاقية كالذوقية والعاطفية، فما الذي يعنيه هذا؟
أهي التجارب؟ أم التغيرات (الفسيولوجية) كما يسمونها أم أن ذلك خليط من هذا وذاك؟ ربما.
ولكن المؤكد ان هذا التغير حادث، فهل يستطيع النفسيون كما يسمونهم أن يفسروا لنا ذلك تفسيراً مقنعا غير ما قرأناه في كتبهم؟
أظن أن كبار السن منهم أحرى بتقديم شيء من هذا لكونهم يصدرون فيما يقدمونه عن تجربة وحصيلة معرفية تساعدهم على تفسير بعض الظواهر السلوكية.
وأقول بعض الظواهر لأن هناك أشياء قد لا يكون في مقدورهم الوصول إلى تفسيرها إلا من طريق الملاحظة لتغيرات أراد الله أن تكون كذلك، فأرشد إليها عقل الإنسان.
وهذه التغيرات مثل ما تكون للمسلم، تكون أيضا عند غير المسلم إلا أن استفادة المسلم منها أعظم نفعا إذا ما اتصلت بأمور الدين.
أما الأخلاق والتصرفات العامة فمثل ما يكون للمسلم منها حظه يكون لغيره أيضا نصيبه منها في الغالب.
على أن نصيب المسلم أكبر وأوفر في الصالح منها على أية حال، وكل ذلك مشهود في الأحياء من البشر.
نعود إذن فنقول إن هذه التغيرات إما أن تكون فيما يتصل بالقضايا الدينية، وإما أن يكون اتصاله بأمور عادية كمثل الذوق.
فما كان متصلا بالقضايا الدينية متجها إلى الأصلح، فمنّة من الله على عبده.
أما ما كان فيما هو متصل بطبائع البشر فمرجعه العقل خلا قضية الذوق العام، فذلك ما لم أتبين مصدره، لأن التحول من لون إلى لون، ومن صوت إلى صوت مثلا مما لا دخل فيه للعقل، وإنما هو نتيجة تغيرات نفسية (فيسيولوجية) كما يعبرون، نحتاج في تفسيرها الى معرفة أخرى، فما هي أيها النفسيون؟ أفتونا مأجورين!
على أننا نؤمن بأن كل ما في الكون من حسي ومعنوي خاضع لإرادة مبدع هذا الوجود {سٍبًحّانّهٍ وّتّعّالّى" عّمَّا يّقٍولٍونّ عٍلٍوَْا كّبٌيرْا}، وهذا ما يجب أن يعتقده كل مسلم بل كل من له عقل {سٍنَّةّ اللهٌ الّتٌي قّدً خّلّتً مٌن قّبًلٍ وّلّن تّجٌدّ لٌسٍنَّةٌ اللهٌ تّبًدٌيلاْ}، {وّلّن تّجٌدّ لٌسٍنَّتٌ اللهٌ تّحًوٌيلاْ}، {فٌطًرّتّ اللهٌ التٌي فّطّرّ النَّاسّ عّلّيًهّا لا تّبًدٌيلّ لٌخّلًقٌ اللهٌ ذّلٌكّ الدٌَينٍ القّيٌَمٍ}.
|