مع ان ليس هناك بالغ حر عاقل بالمقياس الاسلامي للأهلية والرشد يستطيع ان يبتلع الطعم الاعلامي الذي كان يقول ببراءة الدور الأمريكي في حرب الخليج الثانية وبأنها كانت حرباً لتحرير الكويت خاصة بعد مرور عقد ونيف من الزمان دون ان ينعتق الخليج من التواجد الأمريكي في المنطقة بأشكاله المعنوية والمادية.
فالليلة - على عكس ما يقال - لا تشبه البارحة لأنها أكثر وحشة وتوجساً وإرهاباً.
فبينما بدت حرب الخليج الثانية 90/91م من أصعب الامتحانات السياسية والعسكرية التي مرت على منطقة الخليج منذ اكتشاف النفط باستثناء المعناة الاستعمارية لبعض بلدانه وبالاضافة الى نكبة 48م ونكسة 67م في الصراع العربي الاسرائيلي، فإن التهديد الأمريكي باشعال حرب ثالثة في الخليج عن طريق الهجوم العسكري على العراق يُظهر عاصفة الصحراء وكأنها كانت مقدمة تجريبية مبسطة للتراجيديا اللاحقة المتوقع حدوثها اليوم في أي لحظة من أواخر هذا العام أو أوائل العام الميلادي المقبل.
تظهر رهبة هذه الحرب المحتملة بمنطقة الخليج ليس فقط من مناظر التقتيل والترويع والقصف الوحشي الذي حدث للشعب الأفغاني كبروفة أولى من بروفات ما تسميه أمريكا بحربها على الارهاب بل أيضا في افتقاد هذه الحرب لأي مرجعية قانونية يمكن ان تبررها سياسياً أو أخلاقياً. فطبعاً للمادة «39» من ميثاق الأمم المتحدة لا يمكن اعطاء تفويض بشن الحرب إلا في حالة الاعتداء أو التهديد به.
وبهذا فلا يحق لأمريكا أو سواها شن حرب على دولة أخرى ما لم تتعرض لاعتداء أو تهديد منها ويكون للأمم المتحدة ان تقرر الاجراءات التي ينبغي اتخاذها لاقرار السلام. وهذا بالطبع لا ينطبق على الحالة العراقية أو على أي من دول الخليج في علاقتها بأمريكا.
وفيما قد تراهن الادارة الأمريكية على القرارين الدوليين رقم 1368 و1373 اللذين استصدرتهما بعد هجمات سبتمبر 2001، فانهما لا يشكلان سندا قانونيا كافياً لاقناع القوى الحرة في العالم بعدالة مثل هذه الحرب التي قد تشعل المنطقة كلها في ضوء انهما لا يخولان لأمريكا شن حرب على دولة ما إلا في حالة تعرضها لضربة ارهابية من قبل هذه الدولة. وهذا مرة أخرى لا ينطبق على العراق التي لم يثبت على الاطلاق انها على علاقة بهجمات سبتمبر.
تظهر أيضا فجيعة هذه الحرب التي لو حدثت فقد تحرق منطقة الخليج كلها في محاولة أمريكا لطرح مشروع للحرب على العراق كقدر حتمي من أقدار المنطقة مثل قدر البترول أو الجغرافيا. وهي في اطار هذا الطرح الأمريكي حرب لا مفر منها لأنظمة وشعوب المنطقة ان أرادت ان تنجو بجلدها من مخطط الحرب المفتوحة على الارهاب إلا بمزيد من الارتماء في الأحضان الأمريكية. يعلن هذا التوجه عن نفسه في مجمل الخطاب السياسي الأمريكي كما عبرت عنه مؤخرا على سبيل المثال لا الحصر كلمة الرئيس الأمريكي أمام الكلية الأكاديمية العسكرية في وست بونت حين قال:«علينا ان ننقل المعركة الى أرض العدو ونواجه التهديدات الكامنة قبل ان تخرج الي العلن».
وإذا قرأنا هذه الكلمة في سياق تحديد الرئيس نفسه لمحور الشر فلربما نستطيع ان نستدل كم هي منطقتنا كبيرة من أرض العدو المقصودة بالتهديد. ويؤكد هذا التوجه ما ذهب اليه المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الأمريكية/ البنتاجون في قوله:«ان ضرب العراق احتمال يصعب استبعاده أو التراجع عنه حتى لو قام الرئيس العراقي بالانسحاب من السلطة أو سمح بعودة المفتشين». ومما يبدد الأمل في امكانية استبعاد العزم الأمريكي على اشعال المنطقة تلك الكيفية التي تقابل بها الجهود العربية الدبلوماسية في مراجعة الموقف الأمريكي تجاه العراق وكذلك الكيفية التي استقبلت بها واشنطن الرسالة العراقية التي دعت رئيس مفتشي نزع السلاح الى زيارة العراق لمناقشة استئناف عمليات التفتيش.
ان الاصرار الأمريكي على استهداف منطقة الخليج بما يسمى حربها على الارهاب بغطاء الهجوم على العراق يطرح مجموعة من الأسئلة نكتفي لضيق الحيز بطرح ثلاثة منها:
السؤال الأول: هل حقاً ان الذرائع الأمريكية لمحاربة العراق باسم تدمير قدرته على تطوير أسلحة الدمار الشامل وباسم خطره على جيرانه وعلى الاستقرار الاقليمي والعالمي كافية لئلا ترى شعوب المنطقة المطامع من وراء هذه الحرب؟
السؤال الثاني: في ظل سيناريو التهديد بتقسيم بعض دول المنطقة دون اقامة وزن لارادة شعوبها ووحدته العضوية وفي ظل اعتبار ايران محورا من محاور الشر والتهديد بضرب مفاعلها النووي في بوشهر في هجوم وقائي كما فعلت اسرائيل عام 81م بالمفاعل النووي العراقي في محاولة لتحييد أكبر بلدين في الخليج في الحرب الأمريكية على العراق هل تصدق شعوب المنطقة ان المراد بالهجوم تخليص الشعب العراقي من مظالم نظامه ومظالم الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية التي تفرضها عليه أمريكا نفسها؟
في ظل ما ذكرناه وهو بعض من كل ألا يحق لشعوب المنطقة أن لا تستبعد السيناريو القائل بأن الهجوم على العراق إنما هو استهداف لمنطقة الخليج يتم من خلاله استبدال النظام العراقي القائم بنظام من صنع أمريكي «u.n.A made» بنفس مواصفات كرزاي أفغانستان لتطبق حلقة السيطرة الأمريكية دائرة نفوذها العسكري والاقتصادي والسياسي بأفغانستان جنوباً وتركيا شمالا واسرائيل استراتيجياً على منطقة تملك 75% من مصادر الطاقة البترولية في العالم فتضمن وجوداً متفوقاً وقريباً من أعداء الأمس روسيا والصين تحسبا لخروج مارد جديد من أي منهما قد يهدد المصالح الأمريكية؟
السؤال الثالث: هل حقاً ان اشعال حرب ثالثة في الخليج بالهجوم الأمريكي العسكري على العراق قدر حتمي لا مفر منه للمنطقة كما يقول بذلك الخطاب الأمريكي؟
وفي هذا نجتهد لنقول:
لو قررت الدول العربية مجتمعة ألا تكتفي برفض الحرب الأمريكية على العراق إعلاميا بل ذهبت الى أبعد من ذلك قليلا بمقاطعتها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا فإن حرب الخليج الثالثة التي تسوقها أمريكا كقدر لا مفر منه لن تكون كسابقتها حرب الخليج الثانية مجرد نزهة بحرية للأسطول الأمريكي ومجرد نزهة برية للجيش الأمريكي.
ففاتورة الحرب على العراق وفاتورة اقامة نظام بديل فيما لو لم تنجح أمريكا بالترهيب أو الترغيب في توريط دول المنطقة لدفعها ستكون فاتورة باهظة.
نستطيع ان نلمس التخوف الأمريكي من هذه الفاتورة من النقاش والأسئلة المحرجة التي يطرحها الكونجرس بهذا الشأن وما إذا كانت الأرباح المتوقعة من هذه الحرب توازي تكلفتها المالية.
وفي هذا يحذر المحللون والاستشاريون الاقتصاديون الادارة الأمريكية بأنه ما لم يجر ضمان دعم مالي لضرب العراق، فإن الضربة لن تؤدي إلا الى مزيد من تأزم ركود الاقتصاد الأمريكي. هذا بالاضافة الى ما سينتج عنها من تأزم بترولي عام.
أما لو قررت الدول العربية الصمت والمسايرة للتهديد الأمريكي باشعال حرب ثالثة في الخليج بالهجوم على العراق فإن احداً غير الله لا يعلم ما يمكن ان يصير اليه مصير هذه المنطقة. وحينها لن تكون الحرب الأمريكية كسابقتها حرب الخليج الثانية مجرد لوحات عالية التقنية ومشاهد غامضة عن احتراق أطفال العراق أحياء تعرضها قناة السي.إن.إن بصورة معتمة يتابعها أبناء الخليج باشفاق أو تمزق عاطفي لأن موقعهم فيها لن يكون موقع المشاهد المنيع على الضفة الأخرى من الخليج.
ليس من يأسف على ذهاب صدام ونظامه ولكن ليس على حساب شعب العراق كما حدث للشعب الأفغاني وليس على حساب اشعال منطقة الخليج بأسرها وليس بأن نقبل بموقع من يقفون مكتوفي الأيدي في انتظار البرابرة.
ان التقارير المصورة والمكتوبة من حرب الخليج الثانية لعقد ونيف من الحصار ترينا مشاهد مزلزلة لأطباء يمارسون الجراحة بدون قفازات وبدون تخدير مرضاهم، تعرض صوراً راعفة بالألم لمثقفين يبيعون لوحاتهم ومكتسباتهم ومخطوطات العراق التاريخية بثمن الرغيف على الأرصفة.
تكشف الكاميرا مناطق عراقية تولد فيها الأطفال بدون أطراف أو بعيون تقع تحت شفاههم بفعل الخلل الجيني الذي الحقته أسلحة الدمار الأمريكية بالشعب العراقي وبيئته الطبيعية.
غير انه فيما لو قامت حرب خليجية ثالثة فإننا لن ننعم برعب هذه المشاهد من مقاعدنا الوثيرة أو الرثة لأن كل أبناء الخليج وبناته قد يصبحون جزءاً متمماً لهذا المشهد الذي ابتدأته حرب الخليج الثانية وتشعر الادارة الأمريكية الحالية على ما يبدو بواجب استكماله.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|