Thursday 1st August,200210899العددالخميس 22 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

الذاكرة النسوية الذاكرة النسوية
قراءة في رواية «الفردوس اليباب»
حسين المناصرة

تختزل جملة: «أليس عذاباً أن تكوني امرأة»، بوصفها صادرة من أعماق صوت بطلة الرواية المعذبة، المنظور النسوي الفاعل الذي يهيمن على رواية ليلى الجهني «الفردوس اليباب»، حيث يختزل عنوان الرواية، أيضاً آفاق الدلالة المباشرة المتمثلة في إشكالية المعاناة العميقة التي تعانيها المرأة عندما تبني فردوساً يبابا أو وهمياً من خلال علاقتها الواهمة بالرجل، ثم لا بد أن يتحول هذا الفردوس «الوهم» على يدي الرجل الغادر كما يظهر في الرواية إلى أرض يباب قاحلة، سرابية..، وتكون فيها المرأة وحدها كبش الفداء الذي يعاني من الضياع وجلد الذات إلى حد الانتحار في نهاية المطاف!!.
تبدو حكاية الرواية عادية، ممكنة الوقوع في الواقع المألوف، وجوهرها أن تتحول العلاقة العاطفية المحمومة بين «صبا» و«عامر» إلى علاقة حميمية، ومن ثم إلي علاقة محرمة، لتغدو بعد ذلك تنذر بالفضيحة في أية لحظة..
وعلى المستوى الفني، تتشكل بنية الرواية من خلال استرجاع عالم هذه العلاقة، في سياقين متناقضين، أولهما أن تبدو هذه العلاقة مولدة للأشياء الفردوسية المليئة بالحب والحميمية بين صبا وعامر اللذين تخلصا من الأطر الاجتماعية الأخلاقية كلها، فتصير الكتابة الإبداعية المعبرة عن هذا السياق الجمالي متحررة من القيود خالصة للحياة الوهمية التي تصير من وجهة نظرهما في غمار هذه العلاقة حياة حقيقية، أو هذا على الأقل من وجهة نظر صبا، ثم تتحول هذه الحياة الواهمة بعد الاصطدام بالواقع إلى مجرد قشرة تخفي الأسن والضياع، وهنا يجيء السياق الآخر المؤلم، الذي يخفي داخل المرأة عقد الذنب كلها الناتجة عن علاقة محرمة كان يجب ألا تكون مهما تكن ظروفها وإغراءاتها، لأنها على وجهة التحديد علاقة غير إنسانية، وغير أخلاقية من بدايتها إلى نهايتها، لذلك نجدها تتحول إلى مأساة كبيرة في حياة المرأة فقط، بوصفها الأكثر عرضة من الرجل للفضيحة، وهذا ما يحدث فعلياً بعد أن يسعى «عامر» إلى التنصل من هذه العلاقة والتخلي عن «صبا» التي تغدو كبش الفداء بحق، فتتخيل كيف ستلعب بها سكاكين رياح الفضيحة الاجتماعية المنتظرة، والشاهد أنها غوت فحملت في أحشائها جنينا غير شرعي، وهنا لا يتأثر عامر بما يحدث لها، بل إنه يقسو عليها ويطالبها ساخرا أن تبحث عن أب لابنها على أساس أنه يتلاعب بها فيشكك في أخلاقها، ويحذرها من أن تقف في طريقه لأنه يريد أن يستمر في حياته الاجتماعية النظيفة مع امرأة نظيفة، رغم أنه غدا مثل «ديك المزابل» من وجهة نظر صبا، لكن ذكورته تجعله قادراً على أن يعيش حياته طولاً وعرضاً في منأى عن العار والفضيحة!! بل تصل درجة وقاحته إلى أن يخطب «خالدة» صديقة «صبا»، مستفيداً من كون هذه الأخيرة لا تعرف شيئاً عما بينه وبين صبا من علاقة محرمة!!واللافت للنظر في هذه الرواية أنها جاءت على شكل رسالة من «صبا» المفضوحة موجهة إلى رفيقتها«خالدة» المغدورة، حيث تكشف صبا في رسالتها الطويلة عن العلاقة المحرمة بينها وبين «عامر»، محذرة صديقتها من إمكانية أن تغدو فريسة أخرى في حياة «ديك المزابل».
***
ارتبطت المرأتان «صبا وخالدة» بعلاقة صداقة خلال الدراسة الجامعية، وقد تمكن «عامر» قريب» خالدة من استغلال العلاقة بينهما، فخدع «صبا» وانتهك عرضها برضاها، ورفض أن يتزوجها بعد أن أصبحت حاملا بابنهما غير الشرعي، ثم خطب خالدة لتكون زوجته، متخلياً عن ستر المرأة «صبا» التي غرر بها من منطلق الحب والأمل، لذلك أوقعها في جوف الفضيحة القابلة للانفجار في أية لحظة.. كتبت «صبا» الرواية/ الرسالة تصف حكايتها مع عامر/ ديك المزابل، ثم بعثتها قبيل أن تتوج حياتها بالانتحار إلى «خالدة»، فكانت هذه الرسالة صرخة تتفجر في داخل خالدة التي غدت بدورها تئن موجوعة على صاحبتها، وبودها لو تنتقم لها فتعلق عامرا على حبال المشنقة.. ولكن أنى يتأتى لها هذا؟!
تكشف الرواية عن العلاقة بين الظاهر والمخفي، الظاهر من خلال لحظات الفرح المتمثلة في حفلة خطبةعامر لخالدة، والمخفي المخنوق متمثلاً في الفضيحة بين عامر وصبا التي كانت بين جموع النساء في الحفلة.تبدأ صبا الرسالة من هذه اللحظة القابلة للتفجر على طريقة «شر البلية ما يضحك» أو ما يجعلك تغني، تقول لصديقتها مصورة حالة البداية: «وإذ رأيته واقفاً بجوارك ليلتها أردت أن أغني. أجل، كان الغناء هو كل ما تواثب إلى الذهن وذراعه تلتف حول ذراعك مثل أفعى، أردت أن أصرخ: «خالدة، لا». وقفت الكلمات خلف الشفاه، وبدا أن العالم صاخب إلى حد ألا تسمعيني. ولكن، ماذا أغني في تلك اللحظة وأنا أرى عامراً الرجل الذي قال لي: «أحبك»، بكل طريقة ممكنة، قالها صارخاً، ضاحكاً مستلقياً، سابحاً هاما، حزينا محبطاً، ماذا أغني وأنا أراه وهو يلبسك ياصديقتي التي لا تعرف شيئاً خاتم الخطبة»(ص5).
بعد هذه اللقطة المأساوية من حياة بطلة الرواية، يشكل صوتاً صبا وخالدة فصول الرواية الستة، إذ تروي رسالة صبا أربعة فصول، وتكمل خالدة الرواية بفصلين آخرين، حيث يقتسمان الرواية بينهما على النحو التالي:
صوت صبا: الهواء يموت مخنوقاً/ تفاصيل اللوعة/ قارة ثامنة تغور/ سقوط الوردة.
صوت خالدة: لن تبكي الحساسين على الشرفات/ اختزال الروح.
أما صوت عامر «صوت الرجل» فهو صوت مهمش ، يحضر من خلال رواية بعض العبارات التي تدينه، وتكشف عن شخصيته المتمثلة في شخصية «ديك المزابل» على وجه التحديد، وهو بالتالي يمثل الدور الحاسم في تفعيل مأساة صوتي المرأتين، لأنه السبب المباشر في مصيبتهما المتمثلتين في الفضيحة لصبا والغدر لخالدة، وبالتالي فهو نموذج للرجل السلبي الانتهازي في اضطهاده للمرأة التي تغدو من وجهة نظره مجرد شيء.. في حين نرى مأساة المرأة بسبب هذا الرجل عميقة إلى حد الموت، كما يتضح من عناوين الفصول السالفة الذكر.والملاحظة المبدئية التي نسجلها لهذه الرواية هي قدرة الكاتبة على تفعيل بناء لغة شعرية متماسكة، لا تكسر فاعلية حبكة السرد الهرمية، حيث نجد توازناً ممتعاً بين الشعري والسردي في هذه الرواية. ومن هذه الناحية تغيب عن الرواية اللغة المجانية، أو اللغة الحشو أو المجانية في بناء الشخصيات، والزمكانية، والعلاقات، والمعاني..وبما أننا سنركز على المنظور النسوي في هذه الرواية، فهذا يعني أن نشتغل في مقاربتنا على مسألة محورية، وهي استيضاح ذاكرة المأساة التي تتجسد في رؤية المرأة المنكوبة بطلة الرواية في حياة الرجل «عامر»، بوصفه نموذجاً فاعلاً في بناء مأساة المرأة التي يجعلها الرجل في الواقع كبش الفداء كما أسلفت لغسل نزواته الذكورية على الأقل من وجهة نظر الكتابة النسوية!!
***
كيف انطلقت ليلى الجهني من منظور الكتابة النسوية؟ كان هذا عن طريق وضع المرأة في دائرة الضحية الضعيفة التي يغرر بها، فتصير كبش الفداء، فكانت صبا ضحية لعامر، وأيضاً خالدة هي الأخرى ضحية تكسرت آمالها عندما عرفت الحقيقة البشعة، صحيح أن لدى المرأتين إحساساً بأنهما تحملان بعض الذنب مما حدث لهما، لكنهما لم تتخليا عن عقدة أنهما ضحية من ضحايا الرجل الشهواني الساكن داخل عامر، أي أن الفكرة الكامنة داخل الفعل السردي هو إدانة الرجل، ووصفه بأقبح الأوصاف، لأنه ماكر وانتهازي ولا يوجد في قلبه رحمة، من هنا كانت البنية السردية، بوصفها منظوراً نسوياً، واعية للطريقة التي تستل من خلالها الحقد على الذكور من خلال رمزهم «عامر» الخالي من أية مشاعر إنسانية، فكل مشاعره تختزل في مشاعر «ديك المزابل» الذي يحمل دلالات اجتماعية سلبية لدرجة كبيرة، وخاصة من خلال تحولها من الوصف الفردي إلى الوصف الجماعي الذكوري.علينا أن نتعامل مع رواية «الفردوس اليباب» من منظور التخيل، لا الواقع، لأن واقع الحكاية يبدو هامشياً، إذ يصعب تعميم هذا النموذج بين النساء والرجال معاً، وخاصة في ظل هذا الانفتاح الثقافي العام، من هنا يبدو التخيل، في تصورنا حالة نسوية إسقاطية، تسعى إلى استلاب الرجل من إنسانيته، في ظل مفهوم القيم المستقرة والثابتة في وعي المرأة تجاه العلاقة بالآخر الذي يشكل الذكورة تشيكلاً سلبياً في منظور الكتابة النسوية.
جاءت الحلول المطروحة في سياق تخلص صبا من الفضيحة حلولا رومانسية، لا تشف عن وعي بمواجهة المشكلة، خاصة أن الكاتبة جعلت صبا مقطوعة من شجرة، حيث لا نجد في حياتها غير أمها، وهذا الأمر كما يبدو يصعب أن يصدق في سياق الحياة القبلية الساكنة في الأسر الممتدة. وكذلك الأمر بالنسبة لخالدة، فهي إلى حد ما لا تختلف ظروفها كثيراً عن ظروف صديقتها.
ومن ناحية أخرى، فإن الكاتبة تعرف أنها انشدت في روايتها إلى أخطر مواقع العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو موقع العلاقة المحرمة، فكانت الكتابة توليداً لثقافة ترسخت في ذهن النساء عن أن أي خطأ ناتج عن هذه العلاقة، هو بسبب الرجل الذي لا يملك قلباً وهو يفتك بشهر زاد، أو وهو يقطع مهج النساء المسالمات بسيف صدئ مثلوم. أليست صبا هي المسؤولة في الدرجة الأولى عما حدث لها، وقد لاحظنا هذا في رؤى خالدة التي استنكرت ما حدث بوصفه صادراً عن صبا، وكذلك صبا نفسها تقر بأنها كانت مسؤولة عن ضياعها، فمن هنا كان يفترض من الكاتبة أن تعمق وعي إشكالية كون المرأة هي المسؤولة، وأنها بالتالي تتحمل ما يحدث لها، لأنها كانت سهلة ولم تدافع عن وجودها في البحث عن علاقة شريفة، لذلك تستحق ما يحدث لها لأنها قبلت أن تحترق بالنار التي أشعلتها، كان عليها ألا تضحي وهي تعرف أنها الخاسر الأول في مثل هذه العلاقة المحرمة!! وبالتالي فإذا استحق عامر وصف «ديك المزابل» فإن صبا بدورها تستحق أن توصف بوصف «دجاجة المزابل» على اعتبار أن كليهما مارس العلاقة «المزبلية» المحرمة من وجهة نظر التلقي الحيادي.لا أعني من هذا الكلام أن تتعلم الكاتبة كيف تكتب، وإنما ما أردت التأكيد عليه هو أن المنظور النسوي يبدو أحياناً غير حيادي عندما يجعل الرجل «الشماعة» التي تعلق عليها مآسي النساء، وأن المرأة بالتالي هي الضحية البريئة أو كبش الفداء الوديع في الواقع الجائر. من هنا تبدو الرواية غير حيادية عندما تتخذ ذاكرة المرأة ذاكرة نسوية تنميطية في علاقتها بالرجل!!
لكننا نتفق إلى حد كبير على الأقل من الناحية الفنية على أن عامراً يستحق القتل تعزيراً، لأنه رفض أن يتزوج فتاة كان يعرف أنه غدر بها مع سبق الإصرار والتصميم، وبالتالي يستحق الجلد بعد القتل بوصفه فرداً، لا رمزاً للذكورة!!

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved