بينما كان منا ليلة أمس الأول من يقبع في دعة مدعاة أو في استسلام لمرحلة اليأس السياسي يشاهد فيلماً «أمريكياً» أو مسلسلات عربية معادة أو يتابع برامج سياسية تتلجلج بنصف الكلام فجأة أُطفئت الأضواء واشتعلت العتمة فصار بامكان المشاهد العربي أن يرى صورته «يتيماً عارياً حافياً» معممة على شاشات العالم.
وبينما كان وزراء الخارجية العرب لا يزالون يمطروننا في جميع نشرات الأخبار لذلك المساء بالتطمينات الأمريكية للالتماسات وعرض الحال الذي قدموه طوعاً وكرهاً بين يدي سيد البيت الأبيض سقط ما كان قد تبقى من نصيف عن جسد هذه الأمة حين قطعت بعض الفضائيات حبل أوهامنا لتبث جريمة اسرائيلية جديدة حية على الهواء.
فهل حقاً فاجأتنا مجزرة حي الدرج بغزة أم أن المجازر صارت الدليل المادي الوحيد لاعدائنا قبل أصدقائنا أن بين غالبية الموتى منا أقلية أحياء ينتزعون شرف الحياة بأرواحهم؟
هل حقاً اننا تفاجأنا حين لاح يوم الثلاثاء 23/يوليو / يحمل فجراً أم أننا تعودنا الحلكة حتى صرنا نخشى أن ينقشع الظلام فنكتشف زيف سلام مشروط بانحناء الحياة إلى ما تحت الركب؟
هل حقاً لم يعد لنا من خيار كما يقول لنا خبراء قيافة السراب إلا أن نتخلى عن أبسط أشكال المقاومة ونستعد لقبول المجزرة تلو المجزرة من خان يونس إلى كفر قاسم ومن صبرا وشاتيلا إلى قبيه وقانا ومن جنين إلى حي الدرج لنثبت للعالم أن ضحايا هذه المجازر من المدنيين الأبرياء وان فصائل دمهم الطاهرة من نفس فصائل قتلى مبنى التجارة العالمي لئلا تستكثر عليهم أمريكا الحق في لجنة لتقصي حقائق المحارق النازية التي تضرمها اسرائيل عليهم في بيوتهم وهم أحياء.
لقطات مريعة لمدنيين قضّ القصف الإسرائيلي أمنهم النفسي والجسدي والوطني، نساء مرعوبات بقمصان النوم، أطفال بالشورتات والبيجامات تقطر عيونهم هلعاً، رجال بالملابس الداخلية والفانيلات الحمالي يرعفون غضباً وقهراً، وبنين من كل الأعمار يجرون أمام الكاميرات في غير اتجاه وقد غطاهم تراب واسمنت المجمع السكني الذي اسقطته اسرائيل بالقذائف الأمريكية على رؤوسهم وهم نيام.
يحاول الناجون منهم أن ينتشلوا الجرحى والجثث من بين الأنقاض ويحفر الرعب ملامح وجوههم وهم يعثرون على أشلاء آدمية مغموسة بالدم لا يمكن التعرف على هويتها فيما إذا كانت تلك الشظايا البشرية بقايا حوض امرأة حامل أو قفص صدري لشاب كان يستعد للعرس هذا الصيف.
مشاهد لا تنقلها الكاميرا ولا تجترحها الكتابة دون ارتكاب الخيانة في حق فداحة الكارثة.
مشاهد يقشعر لها البدن دفعت وزراء في دولة العدو الإسرائيلي إلى الاستقالة ان لم يكن تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني فعلى الأقل تسجيلاً لموقف أمام الرأي العام العالمي نظراً لبشاعة وعمدية المجزرة وصعوبة الدفاع عنها بغطاء أمني أو سياسي.
هذا فيما ساسة عرب عجزوا عن صياغة جملة مفيدة واحدة تعبِّر عن موقف واضح ولو من باب الخجل من شعوبهم أو احترازاً من غضبهم، وعوضاً عن ذلك راحوا ينتظرون بشغف واشفاق ما سيصدر عن الادارة الأمريكية في شأن المجزرة ليحددوا في ضوئه لهجة تصريحاتهم.
لاشك أن عدداً من الأنظمة العربية قد تنفس الصعداء ان لم يكن قد سعد سعادة بالغة بتصريحات الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض آري فليستشر الذي عبَّر عن امتعاض وليس ادانة البيت الأبيض لمجزرة حي الدرج، على أن مصدر الغبطة المبالغ فيها قد لا يعود بالضرورة لتفاؤل ببداية تغيير في الموقف الأمريكي من اسرائيل بقدر ما يعود لأهميته في تقليل حرجهم أمام شعوبهم وربما أمام انفسهم لما يولونه أمريكا من ثقة لا يبدو أنها في محلها.
على أن مما يزيد الشكوك في قدرة أمريكا على المضي في تصريحها الأخير نحو خطوات عملية ما لم يثبت العكس بمعجزة ما هو الرد الإسرائيلي على ذلك التصريح بما جاء على لسان سفيرها في واشنطن مارك ريجف بلهجة لا تخلو من سخرية حين قال: نحن كالأمريكيين نأسف لسقوط ضحايا مدنيين ولكن تصرفنا كتصرف امريكا في حربها على الارهاب هو دفاع عن النفس «النيويورك تايمز 23/7/2002م».
فهل هذا الجو المشحون برعب تكرار ارتكاب المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني على مرأى من الرأي العالمي العام دون وجود قوى مراقبة دولية ودون وجود لجان لتقصي الحقائق ورفع الوقائع الدامية لمحكمة الجنايات الدولية يسمح بالحديث عن السلام خاصة في ظل تحوّل حرب امريكا على الارهاب الى مثال يحتذى في الاعتداء على حرمة المدنيين لهدف السيطرة والتوسع باسم الدفاع عن النفس.
في ظننا والله أعلم أن مسلسل المجازر الإسرائيلية مرشح للاستمرار والتصاعد ولن تكبحه تصريحات واشنطن أو الاتحاد الأوربي «الممتعضة» ما لم تقدم القيادات العربية مع مبادرات السلام بعض أوراق الضغط وأهمها خيار المقاومة الشعبية على الأراضي الفلسطينية، هذا بالاضافة إلى تطوير آليات العمل الجمعي في الأنظمة العربية بحيث يكتسب مطلب السلام ثقلاً شعبياً ويبنى على شروط أقل اجحافاً مما يصعب الاستخفاف به كما يحدث اليوم..
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|