منذ نشأ الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وهو يحمل هموم الأمة في أمور دينها ودنياها، الأمة على المستوى المحلّي والعقديّ والعالميّ.. لأن طموحاته سبقت تفكير من حوله، ونظرته شمولية للقضايا المحيطة به.
فبالنسبة للمستوى القريب، فكان يرى أبناء الجزيرة العربية، تحكمهم الأعراف القبلية، والنزعات المتباينة، فساءته الفرقة، واهتم بتوحيد الشّمل، ولمّ الشعث.. ومع صدقه وإخلاصه، أعانه الله فتحقق ما يصبو إليه.
وأما النواحي العقديّة:
فإن الإسلام هو الهدف عنده على جميع المستويات: اعتقاداً وعملاً، ومتابعة للتّطبيق، وحملاً للواء الدعوة، بعد أن هيأ الله له حماية الحرمين، وتذليل ما يعترض المسلمين في أداء ما افترض الله عليهم: تيسيراً وأمناً وتوسعة وإصلاحات.
أما الاهتمام العالميّ فيشمل العربيّ والإسلاميّ، فقد كان نعم النصير لكل قضية، ونعم المعين والمجير، للمناضلين العرب، والمسلمين ضدّ الاستعمار، والأعداء المتسلطين عليهم، علاوة على نصرته لدين الله، واهتمامه بالمسلمين ومشاركتهم ما يؤرقهم: بالرأي والمشورة والدفاع والمساعدة..
وكانت قضيّة فلسطين عندما قامت في عام 1358ه، الآراء بتوطين اليهود في فلسطين، وإجلاء العرب منها، لأي مكان، فغضب من ذلك الملك عبدالعزيز، وحميت اتّصالاته مع المسؤولين البريطانيين والأمريكان، حيث تبادل مع الرئيس الأمريكي المراسلات، وتم في عام 1363ه، لقاؤه مع روزفلت الرئيس الأمريكي، والمستر تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، في مصر. الأمريكي قابله على ظهر سفينة، وتشرشل البريطاني في الفيوم.
ويوضح رأي الملك عبدالعزيز الشجاع: عندما سأله الرئيس روزفلت في ذلك الاجتماع: عن نصيحته فيما يراه بخصوص قضية هجرة اليهود الذين أجلوا من أوطانهم في أوروبا، فردّ جلالته بقوله: من رأيي أن يعود اليهود المقصون عن بلاهدم، ليعيشوا في البلدان التي أخرجوا منها.. وردّ جلالته على روزفلت علي اقتراح آخر قائلاً: إن العرب واليهود لا يمكن أن يتعاون بعضهم مع بعض لا في فلسطين ولا أي بلد آخر، وإن استمرار هجرة اليهود، وشراءهم الأراضي العربية، مما يزيد تفاقم الأزمة، وتهديد حياة العرب.
ورغم أن موارد الدولة كانت شحيحة ذلك الوقت، إلاّ أن الملك عبدالعزيز، بذل كل ما يستطيع لمساعدة المناضلين الفلسطينين وشاركت المملكة في الحملة العسكرية، وجمعت التبرعات الشعبية من أنحاء المملكة بتوجيه من جلالته والتهب الحماس في كل قلب، واحتلّت قضية فلسطين مكاناً بارزاً في عقليّة الملك عبدالعزيز، ومازالت معه حتى توفى عام 1373هـ رحمه الله.
ثم توارث هذا الأمر أبناؤه، بعده جهداً وعملاً، وحماسة وبذلاً: سعود وفيصل وخالد رحمهم الله، حتى تقلد الأمور خادم الحرمين الشريفين، فبانت معالم السياسة السعودية في قضيّة فلسطين، حيث ترسم أبناء الملك عبدالعزيز خطى والدهم الثابتة، ونظرته بعيدة المرمى.. في حلّ القضية.. ومدّ يد العون لأبناء فلسطين، لإعانتهم سياسياً، ومالياً في الثبات، ومواصلة المسيرة لاسترجاع حقّهم المغتصب، وقيام دولتهم المستقلّة على تراب أرضهم.
فكان كلما عُقد مؤتمر أو طرحت مبادرة، تبرز الحماسة السعودية، والتأييد لما فيه مصلحة ومنفعة أبناء فلسطين، وتضميد جراحهم، مع كل بطش يقوم به اليهود.. تلك الأمة.. الذين لا وفاء عندهم بالعهود، ولا رحمة بالضعفاء المشرّدين..
فكان من حماسة خادم الحرمين الشريفين وتفاعله مع القضية الفلسطينية، التي حوّلها شارون إلى دمار وخراب، بعد أن فقد أعصابه بوحشية ليبيد الشعب الفلسطيني في مخيّماتهم: تهديماً وتقتيلاً، يقتل الصغير قبل الكبير، ولا يفرق بين النساء والضعفاء، حيث اعترف كل من زار مخيم جنين، بفظاعة الكوارث، ووحشية الأعمال، والحقد الدفين الذي أشعله شارون وبطانته في قلوب جنودهم ليفتكوا ويدمروا بلا هوادة، وليس في جنين وحدها بل في كل فلسطين.
علاوة على الأساليب الهمجيّة الحاقدة من اليهود، على عرب فلسطين، في محاولة للتصفية الكاملة، والتهجير بالقوّة.. فتحرّكت أريحية القيادة السعودية، لإعانة الشعب الفلسطيني بقنوات متعدّدة، علاوة على القناة السياسية، فأمر خادم الحرمين الشريفين، بحملة شعبيّة، تسابق فيها الجميع: أطفالاً ونساء، وعجائز، وغيرهم، ليمدّوا إخوانهم بما يستطيعون من تبرعات.. فتح بابها خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي العهد الأمير عبدالله، وسمو النائب الثاني الأمير سلطان.. بعشرات الملايين، وازداد التّباري، والتّأسّي بالقيادة الرشيدة، حيث بلغت مئات الملايين، هدية متواضعة، تضمّد جراح إخوانهم في فلسطين وتعينهم في محنتهم.. من باب الاهتمام بأمور المسلمين التي حثّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق ذلك مشروع قدّمه سمو ولي العهد باسم صندوق القدس، في اجتماع كبير بين الزعماء العرب، افتتحه سموه بمساهمات كبيرة تحمّلتها المملكة لصالح المسجد الثالث بعد الحرمين الشريفين، كما هي عادة المملكة بالمبادرة والجود لصالح الشعب الفلسطيني، بنفس راضية، وأريحيّة مطمئنة.
وتبع هذا أول إرسالية إغاثيّة بالطعام والدواء لضحايا مخيّم جنين، حيث أمر خادم الحرمين الشريفين ببعث أكثر من تسعين شاحنة ضخمة، وذهابها إلى هناك، ورغم ما حاوله العدوّ الغاصب، بإعاقة هذه الإغاثة الإنسانية القادمة من السعودية، إلاّ أن السياسة الحكيمة، والمتابعة الهادئة، حققت النتائج، فتهلّلت الوجوه بشراً بذلك، لأنها وصلت في وقت أحوج ما يكون الفلسطينيون إليه بعد ما سدّت المنافذ دونهم، وحاول العدوّ الغاصب أن يميتهم جوعاً وعطشاً، فوق خرائب بيوتهم المدمّرة، وعلى أشلاء بني جلدتهم الضحايا لغدر اليهود، وسياسة شارون الحمقاء مع الغطرسة.
وتبع ذلك جهود متتابعة من سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس الحرس الوطني.. في ملاحقة قضية فلسطين ومناقشة الحق الشرعي، للشعب الفلسطيني، بإقامة دولته المستقلّة في فلسطين، وعاصمتها القدس، ومع الإلحاح المتواصل، اقتنعت الزعامات الدولية، في كثير من دول العالم، بالمشروع الذي قدّمه سموه للزعماء العرب، في مؤتمر القمة ببيروت.. الذي تألّم منه شارون ومن يؤيده في سياسته وكبريائه.
ظهر هذا الأثر، أثناء زيارة سمو الأمير عبدالله لأمريكا، ومحادثاته مع بوش الابن الرئيس الأمريكي، والرؤساء قبله وزيارات لسموه لهم، مما حقّق نتائج مرضية لصالح الشعب الفلسطيني، ووعد بإقامة دولتهم بضمان الخمسة الكبار في مجلس الأمن.. ولا يضيع حقّ خلفه مطالب.
خليفة بين يدي قاض:
عدالة الإسلام في أحكامه وشرائعه، تكفل الحق للضعيف والأرملة وتنصر المظلوم من الظالم، لأن الله لا يردّ دعوة المظلوم، لذا يتواضع الحكّام، لينصفوا أنفسهم، ممن يدّعي عليهم. فقد ذكر ابن عبدربه في العقد الفريد: ان العتبيّ قال: إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبدالملك، إذْ أقبل إبراهيم بن محمد بن طلحة وصاحب حرس هشام حتى قعدا بين يديه، فقال الحرسي: إن أمير المؤمنين، جرّاني في خصومة بينه وبين إبراهيم.
فقال القاضي: شاهديك على الجراية. قال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل؟ وليس بيني وبينه إلا هذه السترة.. قال: لا، ولكنه لا يثبت الحقّ لك، ولا عليك إلا ببيّنة.
فقام الحرسي ودخل على هشام فأخبره.. فلم نلبث إلا أن قعقعت الأبواب، وخرج الحرسي، فقال: هذا أمير المؤمنين. فقام القاضي، فأشار إلى هشام فقعد، وبسط له مصلّى فقعد عليه هو وإبراهيم، وكنا حيث نسمع بعض كلامهما، ويخفي علينا بعضه.. فتكلّما وأحضرا البينّة، فقضى القاضي على هشام ، فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخُرْق، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك.
فقال هشام: لقد هممت أن أضرب عنقك، ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك، قال له: أما والله لئن فعلت لفعلته بشيخ كبير السنّ، قريب القرابة، واجب الحقّ.
فقال هشام: استرها عليّ يا ابراهيم، قال: لا ستر الله عليّ ذنبي يوم القيامة، إن سترتها.
قال هشام: فإني معطيك عليها، مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتها عليه طول حياته، ثمناً لما أخذت منه، وأذعتها بعد مماته، تزييناً له: ذكر هذا الموقف النبيل ابن عبد ربه، في كتابه العقد الفريد.
|