«قالت أم تغريد: جاء مولود من سنوات ليخطب ابنتي.. واجهنا اصرارا من تغريد على الزواج به، وبعد زواجه عانت من تناقضاته.. وتبدل سلوكه.. ومن عيشها في الريف.. وفقدها للكثير من مقومات الحياة كالسكن النظيف.. والحياة المدنية»
(الرواية، ص116)
أول ما يلفت الانتباه في رواية «أنثى تشطر القبيلة» لابراهيم شحبي، هو عنوانها الذي يبدو من الناحية الايحائية اشكاليا إلى حد كبير في سياق علاقات الشطر داخل القبيلة رمز البناء الذكوري «السكيني» كما وصفه أحمد أبو دهمان في روايته «الحزام» والشطر هنا غرائبي لانه يجيء من المرأة «تغريد» التي قررت أن تغرد- من خلال دلالات اسمها- خارج سرب اعراف القبيلة وعاداتها. كيف حدث هذا؟ حدث عندما قررت أن تتزوج شخصا من خارج قبيلتها، فكان زواجها من «مولود» ابن القبيلة الاخرى.
من خلال هذا الزواج تتكئ رواية ابراهيم شحبي على ذاكرة الجنون والشعوذة، وهي ذاكرة تنتج العلاقات الواقعية بوصفها علاقات غرائبية في سياق الجنون الذي يحيل تصرفات الانسان إلى نوع من انواع المس، فيتيح هذا الوعي بآلية الجنون الفنية المجال واسعا أمام الكاتب لتشكيل بنيته السردية مهما يكن شأنها في دائرة عدم المسؤولية تجاه كل ما يقال فيها، وذلك انطلاقاً من أن هذا الذي يقال بواقعيته أو غرائبيته يبقى جزءاً من جنون الفن أو الابداع الذي تظهر فاعليته من الناحية النفسية غير الشعورية على الاقل في التوغل داخل تجاويف الشخصيات النفسية، وخاصة من خلال العلاقة الحميمة بالأحلام وانفصام الشخصية، وشعوذة المس.
يجب أن نعترف بداية بأن رواية «أنثى تشطر القبيلة» تبدو رواية فضفاضة، لأنها بالإمكان أن تكون في مئة وعشرين صفحة، لا مئتين وعشرين، فتغدو وهي مختزلة على الافتراض افضل بكثير مما هي عليه الآن لكننا سنتعامل معها في حجمها الحالي، إذ بعد نشرها «سبق السيف العذل» كما أنها من ناحية أخرى رواية تلجأ إلى حد ما إلى المبالغة غير المبررة في أحيانٍ كثيرة، إذ من خلال هذه المبالغة جلد شحبي ابطاله جلدا غرائبيا لا هوادة فيه، واحيانا يكون الجلد بطريقة فانتازية طوباوية، لا يتيح للاحداث أن تتطور من داخلها بشكل منطقي، وربما يعود السبب في هيمنة مثل هذا الجلد الفانتازي إلى أن شحبي نفسه في كتابته يدمج بين الجنون واحلام اليقظة العنيفة، من أجل ذلك شكل بنية سردية تراجيدية، تتولد من ذاكرة السارد غير البريئة- على أية حال- في رؤيتها أو منظورها للعالم من حولها، من هنا كانت افكاره الثقافية المسبقة عاملا حاسما في جر شخصيات الرواية على وجه العموم، إلى مصائر تراجيدية عنيفة، تعلي من شأن الموت، والجنون، والعجز، في شكل من أشكال العنف المتعمد أو الاسقاطي إن شئت!!
ولأن هذه القراءة تتكئ اساسا على ذاكرة الجنون، فإن الرواية من بدايتها إلى نهايتها تتخذ هذا الفعل الجنوني «غير الارادي» اساساً شبه وحيد في سير حركية الشخصيات وعلاقاتها بعضها مع بعض، حيث تبدو حركيتا شخصيتي تغريد ومولود بطلي الرواية على وجه التحديد خارجتين عن الاطار الواقعي، بل إننا نجد بعض شخصيات الجن نفسها- مثل شخصية «صهبان» قرين مولود- تتحرك في الواقع بين الناس، وتظهر أمام الآخرين بالأشكال التي تراها مناسبة.. وهذه الحالة الغرائبية اللافتة للنظر نجدها في أعمال سردية محلية، كثيرة، ونشير تحديدا إلى رواية «الغجرية والثعبان» لابراهيم الناصر!!
* * *
تبدأ الرواية من مآسي عائلة مولود القروية، حيث الفقر، ومرض الوالد الذي أصبح فاقدا لقدراته الذكورية، مما سبب المعاناة التي جعلت مرحلة طفولة مولود وشبابه على طول ثلاثين عاما مكتنزة بالآلام التي لا توصف، وخاصة من جهة والديه، حيث «تغلغلت مشاعر الحزن في تجاويفه، كلما زادت الايام ركضا زادت الخنجر توغلا» (ص 15).
ثم جاء زواجه بعد الثلاثين من عمره مأساة لا تعادلها أية مأساة، إذ لعبت توصية «شهوان» الخبيثة له في أن يتزوج تغريد دورا حاسما في توليد مآسيه الكثيرة بعد هذا الزواج المأساوي بسبب هذه المرأة التي شطرت القبيلة، فكيف والحال رجل واحد (زوجها) في مواجهتها. كان قصد شهوان من وراء التوصية أن يدفع مولوداً إلى دائرة الجنون والسخرية، وأن يجعله يعيش مع امرأة غريبة الاطوار، وحينها سيضحك كثيرا، لأنه لن يكون بوسع مولود أن يروضها. وهذا ما يحدث فعلا، حيث يكتشف مولود أنه عاجز إلى حد كبير عن القيام بواجباته الذكورية، مما يجعل حياته الزوجية مع هذه المرأة التي أحبها كارثة كبيرة ألمت به، فهي «في الليل تتحول إلى ما يشبه القطة المتوحشة، تمزق باظافرها الحادة جسد مولود، حتى أصبح متندر الزملاء، حين يظهر تارة ممزق الوجه، وتارة متورم الرقبة» (ص 27).
تسهب الرواية في وصف حالة الجنون الغريبة التي تعيشها تغريد ليل نهار، بحيث تصبح علاقتها بزوجها مستحيلة، ورغم ذلك، نجد زوجها (مولود) المدرس المثقف الشاعر متعلقا بها إلى حد الجنون، فيصير غير قادر على العيش بدونها ولا يجد قدرة على أن ينساها رغم الانقطاع الذي يحدث بينهما والذي قد يصل إلى سنوات، ومن ذلك أنه يتهم بقتلها عندما تختفي، فيسجن تسع سنوات دون أن تسأل عنه مرة واحدة خلال هذه السنوات الطويلة، ونستغرب عندما يخرج من السجن أن يسعى إلى البحث عنها، لا لينتقم منها، وإنما لأنه يحبها، ويريد أن يتأكد من أنها لم تمت، ورغبة منه في اعادة العلاقة معها إن كانت على قيد الحياة.
اتقن شحبي تحت عنوان «ارتداء الكوابيس» تصوير حالة الجنون التي عاشتها تغريد في بيت مولود القروي، وهي حالة نعرف فيما بعد أنها لم تتجاوز التمثيل، حيث تعترف تغريد بذلك من نفسها، لكن من يقرأ هذا الفصل لا يصدق بتاتا أنه كان لعبة تقصد الخداع، وهنا تكمن قدرة شحبي- أحيانا- على تبرير اجواء المبالغة الجمالية، وخاصة في مجال الجنون الغرائبي، وهو الجنون الذي يجعل الشخص مستلبا وهو يمارس التصرفات غير الواقعية أو المألوفة. والغريب في الأمر أن تغريد في سياق ما تمارسه من جنون مقصود، فإنها بخبثها تحيل الجنون أمام أعين الآخرين إلى أنه صادر من مولود، وعلى هذا الأساس يظهر مولود للعيان أنه ممسوس يعاني أمراضا نفسية وجنونا مركبا حتى عند الطبيب النفسي الذي يزوره من أجل عرض تغريد عليه، وفي نهاية المطاف-كما أسلفنا- تتسبب هذه المرأة في سجنه، وتشريده، ليعيش «حياة الارصفة» الكئيبة، ثم يموت أمام بوابة بيت أهلها خلال بحثه عنها.
بعد موت مولود تتحول حياة تغريد إلى حياة الجنون الحقيقي، فتفقد العلاقة بزوجها (ابن خالتها، أو ابن عمتها، أو ابن خالها. وكلها ذكرت في الرواية خطأ من الكاتب) الذي تزوجته على شروط القبيلة بعيد سجن مولود وحصولها على الطلاق منه في القضاء، وتفقد ايضا العلاقة بابنيها، وكذلك العلاقة بكل من حولها، لتصبح سجينة غرفتها في بيت أهلها تتحاور مع الجن، وخاصة مع «صهبان» القوي قرين مولود.
يمثل فصل «العهد الزائف» نقلة نوعية في بنية الرواية، لأنه يكشف من خلال تداعيات تغريد بعد موت مولود أنها كانت تمثل عليه الجنون، لغاية أن تجعله يهرب منها، ويمتنع عن حبها، بعد أن فشل في أن يكون زوجا حقيقيا يوفر لها حياة حقيقية توازي حالة التمرد على القبيلة. وكان هذا التوجه عندها- على وجه الخصوص- بعد أن اكتشفت أنها اخطأت خطأ جسيما عندما تمردت على قبيلتها، فشطرتها من أجل أن تتزوج مولودا الذي بدا لها لا يستحق هو وظروفه هذه التضحية الكبيرة منها، لأنه في نهاية المطاف لم يمثل لها أي شيء مما كانت تطمح إليه، وخاصة في مجال العلاقة الزوجية التي بدت من وجهة نظرها مأساوية، يمكن اختزالها في قولها التالي :«في الليلة الأولى لزواجنا كنت متذمرا مما دفعني إلى تذكر نصائح صديقتي وداد، بأن لا اضعف أمامك ابدا.. جعلت اتمرد عليك وانت تضعف.. تنهار.. وحينا تتأفف، حتى انتهت سنوات الزواج دون أن تمسني..» (ص 120).
كان من المفروض أن تنتهي الرواية عند ص (164)، حيث تكون نهايتها ما قالته تغريد في نهاية تداعياتها مخاطبة مولودا الميت : «(وانك رجل تحت الصفر) لقد حولتني إلى اجزاء لغواية مكسورة.. تركتني مقهورة.. ضائعة كذرة غبار.. احرقت عمري كفراشة اكلتها النار..»، وذلك لأن الفصلين الاخيرين (العمر المقلوب) و (حصن منشي) لا يتجاوزان حالة استحلام خرافية لمولود القوي من خلال قرينه الجني «صهبان» الذي يعمل المعجزات انتقاما من الآخرين الذين عذبوا غادة ومولودا، أو للمكان المناقض لسقيفة القرية، وهو «حصن منشي» القصر الرهيب الجني، يسكنه الجن، وقد غدت تقيم فيه تغريد، وتعرف من فضائياته كل ما حولها، ومن ضمنه حياة طفليها عند والدهما.
بدت الرواية في هذين الفصلين حالة اسقاطية واعية، تحول فيها الروائي شحبي إلى ناقد أدبي واجتماعي، فشرّح الواقع بطريقة غير مبررة فنيا، لأن الرواية- كما ذكرت سابقا- تعاني من توسع بنيتها الفضفاضة من غير مبرر فني، ومع ذلك يجب أن نسجل لهذه الرواية: أنها تغري بقراءتها من البداية إلى النهاية، حيث تثير لدى المتلقي شهوة متابعة فاعلية الجنون التي حولت الشخصيات إلى مجرد دمى يتلاعب بها الغرائبي في تصرفاتها، فتكون النهاية الغريبة من وجهة نظر الناس مختزلة في نهاية الرواية :«فتاة من الطائف تتزوج من جني.. خرجت معه، وتركت أهلها، فماتت أمها حزنا، وجن اخوها، فظل يهيم في الشوارع حتى مات.. وتمزقت القبيلة التي حاولت منعها من الخروج معه» (ص 219)، على أساس أن هذه النهاية هي المتوقعة منذ بداية الرواية، فيبدو الجنون الحقيقي في تصرف الفرد من خلال الخروج عن أعراف القبائل وتقاليدها، وخاصة من جهة الفتيات!!
* * *
هل يمكن وصف رواية «أنثى تشطر القبيلة» بأنها تجعل «من الحبة قبة؟» يبدو هذا ما حدث فعلا، لأن اشكالية الرواية الواقعية لا تصل إلى هذا الحد من الكم الورقي، فالزواج كما بدا من بدايته كان زواجا فاشلا، حتى الانثى / تغريد لم تكن على درجة من الجمال، بل نجدها فتاة أقل من العادية :«لم تشده بالقدر الذي قد رسمه في مخيلته لفتاة تعيش في المدينة.. لم تظهر في الوهلة الأولى جميلة.. كانت صغيرة الجسم.. سمراء اللون» (ص19).
ونستغرب كيف جعل الروائي هذه الفتاة وهي بهذه المواصفات المتواضعة تتعرض لمحاولات كثيرة من الغواية والتحرش بها (شهوان، والشاب الجزائري، وشاب الملحقية، واليمني، وبائع الاقمشة، والخياط...)، ونستغرب ايضاً أن يحارب عبسي بشراسة زواجها من مولود، لأنه يريدها زوجه لأخيه الذي يتزوجها بعد أن تطلق من مولود، فتشعر كمتلق أن كل ما حدث في هذه الرواية لمولود وتغريد هو بسبب عبسي الذي تجاوزت مؤامراته الإنس إلى التعاون مع الجان، خاصة أن «عبسي» من أفراد القبيلة، اضافة إلى أنه زوج أخت تغريد الكبرى، ونستغرب أن تلعب عقدة تغريد الداخلية المتكونة بسبب فشلها في حبها الأول دورا فاعلا في الانتقام من مولود، والتلذذ بعذابه، واسقاط كرهها للرجال عليه وحده. ونستغرب أخيرا أن تغدو صفات تغريد مناقضة للوصف السابق، حيث تصير في إعلان الجريدة :«فتاة متوسطة الطولة.. نحيلة الجسم، بيضاء البشرة جميلة الوجه، لها عينان حادتان تشوبهما زرقة» (ص191).
ومع هذه الاستغرابية اعتقد أن شحبي استطاع أن يقدم رواية عرفت كيف تسير من بدايتها إلى نهايتها، مستغلة اشكالية ذاكرة الجنون التي اتقنت إلى درجة كبيرة، وهنا نسجل لهذه الرواية أنها اثمرت من خلال تعبيرها عن ثقافة شعبية عميقة الجذور، عاشت وما زالت تعيش في القاع الاجتماعي لانساننا العربي المعاصر.
|