أصبحت إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يصل سكانها إلى 200 في المائة وليس مائة في المائة كما هو الحال في جميع دول العالم، وهذه الحقيقة تؤكدها استطلاعات الرأي التي توضح أن هناك أغلبيتين في نفس الوقت إحداها تحب السلام والأخرى تؤيد التطرف القومي الإسرائيلي ويصل مجموع نسب كل معسكر في استطلاعات الرأي إلى 200 في المائة وليس مائة في المائة.
وأي شخص يؤيد شارون يجب أن يكون ضمن معسكر اليمين المتطرف، ولكن أي استطلاع للرأي العام يؤكد أن هناك أغلبية توافق على الانسحاب من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة تقريبا وإزالة جميع المستوطنات تقريبا ويقبلون إقامة دولة فلسطينية مقابل السلام، فكيف يمكن ذلك؟
هل يمكن أن يوجد في دولة ما سكان بنسبة تزيد عن مائة في المائة؟، إذا كان الأمر كذلك فإن إسرائيل تصبح دولة من نوع خاص، وهذا الموقف الغريب لم يكن وليد الأمس وإنما يعود إلى عهد بعيد، اتذكر استطلاعات الرأي العام منذ أكثر من عشرين عاما والتي كانت تكشف عن وجود أغلبيتين في نفس الوقت، الأغلبية الأولى تؤيد طرد جميع العرب من الضفة الغربية والثانية تؤيد الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، وبجمع نسبة مؤيدي الطرد ومؤيدي الانسحاب تصل إلى نسبة 200 في المائة، وعندما راجع خبراء الاحصاء والاجتماع هذه النتائج وشحذوا زناد فكرهم بحثا عن تفسير رفعوا أيديهم وقالوا أنه شعب مجنون، لايعرف ماذا يريد، ومشوش، ومصاب بانفصام في الشخصية، ولكن خبراء استطلاعات الرأي لم يعرفوا كيف يقرأون نتائج استطلاعاتهم، فما يريد الشعب الإسرائيلي قوله هو إذا كانت هناك إمكانية لطرد جميع العرب فإن هذا سيكون أمرا جيدا، أما إذا كان ذلك مستحيلا فدعنا نرحل بعيدا عنهم، لماذا؟ لسبب بسيط هو أن الشيء الوحيد الذي يوحد اليهود هو الحلم بالحياة في دولة لليهود فقط، فإن كان يمكن تحقيق ذلك على كامل الأراضي الفلسطينية من البحر المتوسط إلى نهر الأردن فَلِمَ لا، أما إذا لم يكن ذلك ممكنا فلنترك الأراضي المحتلة، إذن هو ليس انسحابا بهدف مقايضة الأرض مقابل السلام ولكنه انسحابا يهدف إلى المحافظة على النقاء العرقي للدولة اليهودية، إذن هذه هي الأغلبية التي تظهر في استطلاعات الرأي وهي أغلبية واحدة يطلق عليها البعض أغلبية «عنصرية» ويطلق عليها البعض الآخر «وطنية» ويقول البعض أن هذا فصل عنصري.
ولكن هذا الاتجاه مترسخ على مدى آلاف السنين في عقل اليهود الذين يعيشون في تجمعات دينية منعزلة في أي مكان بالعالم ويعانون من نظرة الشك وبخاصة في العالم المسيحي، لقد طور اليهود عقلية «الغيتو» أو العزلة. هم يريدون الحياة بين بعضهم فقط منفصلين عن الآخرين يحيط بهم سور عال. حاولت الصهيونية تحقيق ذلك من خلال إقامة دولة يعيش فيها اليهود. وحتى وجود أقلية كبيرة نسبيا من العرب في إسرائيل يخلق ضغطا عقليا حادا على اليهود، بالنسبة لأغلب الإسرائيليين فإن الحل الأمثل هو وجود دولة لايوجد بها مواطن واحد غير يهودي، «لا يمثل وجود عمال أجانب أي مشكلة لأي إسرائيلي لأن وجودهم مؤقت كما أنهم لا يتمتعون بأي حقوق».
وقد بدأت فكرة ترحيل العرب من إسرائيل إلى قرى بالضفة الغربية حيث ستقوم الدولة الفلسطينية في المستقبل.
للأسف فالمجرم الأساسي في هذه القصة هو رئيس الوزراء السابق إيهود باراك الذي حاول تغطية فشله كصانع للسلام فصنع كذبة كبرى تقول اننا قدمنا للفلسطينيين كل شيء لكنهم رفضوا كل شيء، هذه الكذبة التاريخية هي الرابط حاليا بين التناقض الواضح في الأغلبيتين اللتين تظهران في استطلاعات الرأي، أغلبية مستعدة لدفع ثمن السلام ولكنها لا تؤمن بإمكانية تحقيق هذا السلام لذلك تؤيد شارون.
إذن فالأمر ليس لغزا وإسرائيل ليست بقرة مجنونة ولكنها بقرة اصابها بالجنون.
يوري أفنيري / معاريف |