«لأن حزام أورثني ذاكرته - ذاكرة القرية، لذا كان عليَّ ان اعثر على ذاكرة تحمله وتحملني، اخترتها ذاكرة امرأة، خلافا لوصايا حزام وتعاليمه، وحين علم سألني ان كانت ذكرة امي. قلت: روحها ابنتي وزوجتي. صافحني وبارك هذه الذاكرة» (الرواية، ص 14).
تبدو الكتابة عن رواية «الحزام» لأحمد ابو دهمان ذات حدين، الأول منهما: ان الرواية - كما هو معروف - نالت شهرة كبيرة، بحيث تصبح هذه الشهرة عاملا حاسما في توجيه اية قراءة نحو الاعجاب بهذه الرواية على وجه الضرورة، حتى لا يقال عن ناقد ما ينهج نهجا مغايرا، هو ناقد غيور حسود مثلا وفي هذا السياق نجد بعض الروايات التي قد لا تقل اهمية عن رواية الحزام في احتفائها بفلكلورية القرية «او الحي الشعبي في المدينة» وما يجري فيها من تداعيات تشبه الخرافات والاساطير، اذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر روايات: «صالحة» لعبد العزيز المشري، و«الغجرية والثعبان» لابراهيم الناصر، و«فيضة الرعد» لعبد الحفيظ الشمري.. الخ. لكنها لم تلاق ما لاقته «الحزام».
والثاني ان هذه الرواية كتبت للقارىء الغربي في الدرجة الاولى، عندما ترجمها مؤلفها الى اللغة العربية لابد انه وكما سمعت من بعض الزملاء العارفين بالفرنسية - مارس الرقابة العربية الكامنة داخله على نصه العربي المترجم، او ان شئت المؤلف، مما يعني اننا سنتوقف مع نص يبدو انه مختلف الى حد ما عن النص الاصل، او هذا ما يفترض ان يكون!! وعلى هذا الاساس تفترض اية قراءة - بعد ان كتب او ترجم ابو دهمان نصه - اننا امام نص يمتلك خصوصية عربية تفصله عن النص الذي اشتهر في اللغة الاخرى، وفي هذا السياق كان من المفروض الا ينخدع قراء النص العربي بما حققه النص الفرنسي من شهرة!!
في ضوء ما سبق تبدو «الرواية» «الحزام» مجموعة من القصص القصيرة او من المشاهد السردية الفلكلورية التي يلتف بعضها على بعض في سياق ذاكرة الراوي (حزام) القرية بوصف الراوي ينتمي الى المؤلف نفسه الذي يدمج في نصوص او نصه بين السيرة الذاتية والسيرة الجمعية القروية العامة، كما تبدو من خلال العلاقة الحميمة بين اجزاء الذات في بنية الاسرة الممتدة او القبيلة الكلية التي تحرص على مبدأ: «من يحفظ نسبه يرفع صوته» «ص 13»، وبين الراوي الذي يبدأ روايته بهذا النسب الممتد «بابن وابن.. الخ»، وهنا تبدو تجليات «حزام» في بيئة القرية التقليدية الفلكلورية، بوصفها صفة ممتدة بطريقة او بأخرى على مستوى القرى في العالم كله، كما يتصور الراوي «ابو دهمان»، وبصور مختلفة نسبيا بين مكان وآخر في الوقت نفسه لكن الامتداد هو مبعث الكتابة في هذه الرواية التي اهديت «لبلادي، لكل القرى في العالم» «ص7» على اساس ان هذا الاهداء الذكي الى حد ما، هو العمق الانساني الذي جعل «بلادي» من وجهة نظر السارد، مهما كانت درجة خصوصيتها تبقى من ضمن القرى في هذا العالم، او في زمن العولمة ومع ذلك تبقى في الاهداء خصوصية، وهي انه لم يكن على سبيل المثال: لكل البلاد في العالم فباريس - على وجه التمثيل - رغم ما فيها من معالم تاريخية واثرية، نشأت فيها او اختلست من انحاء مختلفة في العالم، تبقى مكانا مختلفا عن القرية، او مضادا لها، من هنا وجد الراوي «احمد ابو دهمان» نفسه «متحزما» بفلكلورية ذاكرة قريته وجها للبيئة التي بدأت تنقرض في عالم المدينة الحديثة، وهو يؤكد على هذه الناحية في قوله: «في باريس احتميت بقريتي، احملها كنار لا تنطفىء، أُلقي السلام بصوت مرتفع كما كنا نفعل، وعندما اكتشفت انهم لا يسمعون، القيت السلام على السلام بصوت خفيض «ص 11»، فكانت هذه الرواية صوتا خفيضا يلقي السلام على السلام، هكذا يجب ان نتصورها عندما نتحدث عن ذاكرة القرية الحميمة في كيان الروائي المعاصر الذي يعيش المدنية في اشكالها كلها، لكنه من الناحية الروحية يتغنى بذاكرة الحياة في الماضي في مواجهة الموت الذي يتجلى في الحاضر، في مرض حزام، ثم موته، وفي مرض الأم والاب ثم موتهما، وفي الخوف من الموت الآتي على الانسان مهما طال عمره، لذلك كانت الرواية تخليدا لذاكرة لا تموت لانها ستستمر في روح الزوجة والابنة، ومن جيل الى جيل، وهو ما يباركه حزام، كما يتضح في المقطع المقتطف في بداية هذه المقاربة.
أليست هذه الذاكرة الحميمة تجاه القرية هي الباعث المحوري لبناء خصوصيات الذات في عالم الغربة والاغتراب في مدينة باريس التي تشعر القروي بازدواجية العلاقة بين ماضيه وحاضره، ولابد في النهاية من انتصار ذاكرة الماضي، حيث تتجلى من خلال الكتابة/ الرواية، التي تحتفل بذاكرة القرية المحكومة بسلطة الرجل السكينية: «كله سكين: نظراته، افعاله، اقواله، حتى نومه يجب ان يكون حادا كالسكين، سكين الرجل هي قلبه وعقله، حياته وموته «ص 17». وكذلك المرأة التي تفقد زوجها «حقيقة او مجازا» في القرية فهي «تصبح رجلا» لمواجهة الوحوش واطماعهم، ولكي تحمي اطفالها وارث زوجها «ص 23»، وهذا ما وجدناه في شخصية «صالحة» في رواية صالحة لعبد العزيز المشري، وفي شخصية «غزالة» في رواية «فيضة الرعد» لعبد الحفيظ الشمري.
لم يكتب احمد ابو دهمان صورة القرية المألوفة العادية فقط، انما كتب عن القرية المألوفة العادية في صورة من صور «اسطرة» القرية في اجوائها وعلاقاتها وحكاياتها وتقاليدها..
فبدت الصياغة اللغوية عنده صياغة فلكلورية متقنة في اثارة عالم الغرائبي، او عالم الفلكلور الشعبي وهو في حالات الرقي الى الخرافة او الاسطورة ومن ذلك، ما تقوله الام عن قريتها:
قالت انه في قريتها وفي قديم الزمان، كان عدد الجن يفوق مئة مرة عدد الانس، وانهم في كل مكان. والناس يرددون دائما هذا التحذير: «تحت القدم مئة قدم» كانوا يتحولون الى اشجار وصخور وثعابين وازهار ومياه وطيور وحيوانات، كانوا اذن في كل مكان، حيثما وجهت نظرك او سمعك، او حيثما مشيت، او احببت، او تكلمت او لبست او اكلت، وسلاحهم الفتاك الجنون وما زال «ص 117».
هناك كثير من الفقرات التي يمكن احالتها الى العالم العجائبي، كأن تكون القبيلة في تلك القرية هي القبيلة الوحيدة التي هبطت من السماء لأن السماء جزء من الجبال، حيث لا يسقط المطر كالعادة من فوق الى اسفل، وانما يصعد - في هذه القرية فقط - من اسفل الى اعلى، بل يُرى الماء وهو ينساب في حنجرة اي قوس قزح.. وايضا اينما يحفر الناس يجدوا الماء.. وعلى هذا النحو تغدو الرواية في مجملها خطابا فلكلوريا مجازيا.
من خلال هذه الغرائبية تشدك الرواية من بدايتها الى نهايتها، لانها تعرف كيف تنتقي مؤثراتها السردية، فتشعرك انها ضد الحشو، والركاكة، والتنافر، والتقريرية، والبساطة.. فهي تكثيف لغوي، وحبك متماسك، وتكامل في بناء الصورة الكلية، وصياغة من صياغات السهل الممتنع، ورؤية عميقة للاشياء، وشفافية تكشف عن دلالات عميقة، وايجاز يفضي من خلال شعريته الى مساحات التأويل والاختلاف، وهذا كله جاء في سياق المدرسة الواقعية السحرية التي تجعل الواقع جزءا من المخيال والخرافة والاسطورة العلامات التي تصف ذاكرة القرية الفلكلورية وصفا احيائيا، يشدك اليه رغم انفك.
لنتأمل هذه الحكاية عن حزام وثوره عندما وجدا بئر الماء خالياً من الماء، مما هدد تلف المزورعات يقول الراوي:
«كان هذا قبل موسم الحصاد بقليل، وهي السقيا الاخيرة اذن، الا ان البئر خانتهما في اللحظات الاخيرة، ما رأيت حزام جافا وبائسا مثلما كان عليه في ذلك اليوم، وبدا يحثو التراب على جسده الذي يشبه نبتة عراها العطش، واتجه الى الله متضرعا.. يا الهي اسقني. كررها ثلاثا، ثم عاد الى جانب ثوره، وظل يهمس في اذنه، الى ان اتى المطر من كل مكان» (ص93).
على هذا المنوال السردي تتألف اللغة السردية، وهنا بكل تأكيد تشعر ان ابو دهمان وظف حكايات الف ليلة وليلة والحكايات الشعبية والسندباديات من اجل ان يصل اعماق الذات المتلقية، التي تُستلَبُ بمثل هذه الاثارة دون الاسفاف والتكلف.
تتكون الرواية من اربع عشرة لوحة، او حكاية، توحي عناوينها بعلاقة حميمة كما ذكرنا مع عالم القرية الفلكلوري، مثل: تراحيب، وزوجة زوجته، والولي، واسبوع المدينة، وقوس قزح، وذاكرة الماء، ومدينة السحاب، وزمن الجن، والخروف والكاتب، والتضحية..
ونجد مجموعة من الشخصيات المحورية المفعلة للاحداث في اطار العلاقات الممتدة والمتداخلة في القرية، مع تركيز خاص على الراوي ووالده، وامه، واخته، وحزام «بطل الرواية» وقوس قزح «الحبيبة».. الخ وفي هذا السياق تتشكل العلاقات بين الشخصيات من منظور الراوي، الذي يشكل بنية الرواية من منظور الرؤية السيرية المسكونة بالغرائبي او العجائبي كما ذكر.
ولعل مقصدية التعرف الى عناصر السرد وجمالياته توحي بأن الرواية مليئة بالاشكاليات العميقة في مستويات اللغة، والشخصية، و«الزمكانية»، والدلالات، والرؤى والحدث، والاصوات، والحوارية، والحبكة، وطرق العرض.. بحيث تبدو صفحات الرواية المئة والستون حالة من الدمج بين الشعري والسردي، دون ان يطغى احدهما على الآخر.
ومن خلال هذا التوازن تتحقق جمالية الرواية بوصفها بنية حكائية في لغة شاعرية، فيتأثر المتلقي بايقاعات سردية تجعل من الكتابة الجديدة حالة امتزاجية بالروح المتلقية لهذا النص، وهذا هو مكمن نجاح هذه الرواية في اللغة الفرنسية اولا، على حد توقعي، وايضا نجاحها على مستوى فاعلية اللغة العربية بمفهوم شاعرية اللغة الوسطى الشائعة في الوسط الثقافي الواضح اجتماعيا من خلال وسائل الاعلام المختلفة، فيجيء السرد محتفلا برغبات المتلقي ومحققا اندماجيته في النص دون تكلف او حشو او غموض، ومن ذلك - للتمثيل - ان نتأمل سلاسة الفقرة التالية:
«كان عيد الفطر يقترب، وقد اعدت القرية عشرة من أبنائها للختان في سن الخامسة عشرة تقريبا، والختان هو الاختيار الاقسى للشجاعة والصبر، انه اختيار لارادة الآباء والاجداد وشجاعتهم المتوارثة، وهو في الدرجة الاولى اختيار حاسم لصلابة الخال واصالته، لان حكمة في القرية تقول: «الخال في اقصى الرحم»، هناك حيث يساهم في صياغة الجنين منذ اللحظات الاولى، هذا ما قاله لي خالي الذي يحبني مثل روحه، وكانت امي توحي لي دائما بأنه ابي الثاني «25».
فهذه الفقرة القصيرة بامكانها ان توحي من خلال هذه السلاسة والوضوح بمعان كثيرة عن العلاقات داخل القرية في سياق الاخوال والاعمام، الآباء والامهات، الذكور والاناث، العادات والتقاليد، الوصايا والحكم.
وفي النهاية كان هدف هذه المقارنة الكشف عن بعض العوامل التي ساهمت في نجاح هذه الرواية في الثقافة الاخرى، من خلال التفاعل مع النص العربي، بحيث من المتوقع ان تكون هذه الرواية «بيضة الديك» بالنسبة لأحمد ابو دهمان، وان اية كتابة اخرى سيكتبها ستكون ظلالا باهتة غير مؤثرة على طريقة الطيب صالح الذي لم يعرف في غير روايته «موسم الهجرة الى الشمال».
|