** العتبات النصية.. التي تمكن القارئ من الولوج في عمق الواقع الروائي تختلف هنا بإشارة واعية وجملة ممكنة في إطار البحث عن معقولية الوصف الروائي وحقيقة الأحداث وواقعيتها بالرغم من ان القارئ/ الكاتب. ليس ملزماً بهكذا «توطئة» كالتي نصَّ عليها الروائي صنع الله ابراهيم في مقدمة روايته (وردة):
«بعض الأشخاص والوقائع في الصفحات التالية من صميم الواقع، والبعض الآخر من نسيج الخيال.. لهذا من الأفضل ان تقرأ على أنها... رواية!» (1)
وقد سبق هذا التقديم، الذي احتل صفحة كاملة في مقدمة الرواية - خارطة جغرافية لسلطنة عمان وأخرى لإقليمي «ظفار» و«صلاله».
وصنع الله ابراهيم، الذي يفضل ان يقرأ عمله على أنه رواية، يرهص له بهذا المهاد الجغرافي المفصل، غير المسبوق بهذه التقنية الكتابية، ويسقط بفرضيته المولدة للعمل بمواربة اعتقادية.. بما قد يند إلى الذهنية القارئة.
وربما لاستعداد الماضوي للاسقاطات التأويلية التي ربما تنال العمل. أو تربط حيثيات التلقي بمواقف سياسية أو أيدلوجية مسبقة.
والأفضلية التي يحددها الكاتب لمرونة التلقي، هو أن العمل «رواية» تجيء في سياق تجربة روائية مستقلة ومتميزة لهذا الروائي العتيد.
والرسم التشكيلي المصاحب والموازي ل «وردة» اسم الرواية، عبارة عن تشكيل واقعي لضابط عسكري، كما تشير بذلك بزته العسكرية، وقد غيبت ملامح وجهه، فلم يظهر منها سوى العينين، هذا التشكيل يوازي عنوان الرواية المكتوب باللون الأحمر الفاقع.
وهذا التوازي الممعن في مفارقته، والذي يتبين دلالة تواؤمية متلازمة، في عمق الصنيع الروائي كما سنرى.
والكاتب الذي يحدد في مقدمته الفرضية، عالمين تتشكل البنية الروائية منهما، وهما «صميم الواقع ونسيج الخيال».
ينبنيان كمسارين ممتزجين، إزاء عالمين واقعيين مشهود لواقعيتهما بجلاء ظاهر. ويتخذان بعداً زمانيا وحيزاً مكانياً مرسوماً بمهارة، وهما زمن الكتابة الروائية المعلن عنها في بداية الرواية «القاهرة- سبتمبر-92م»(2). ومسقط/يناير - 93م» (3).
وفي إطارهما ثمانية عشر فصلاً رُقما ترتيبيا على مفاصل السرد الروائي في هذا العمل.
والعالم الثاني الموازي.. هو فترة الثلاثينات إلى أواخر التسعينات، وهما سدى بنية الرواية، والذي شهد بداية الحركات التحررية والاستقلالية والثورية في العالم العربي، وما يتداخل معهما من بنى أيدلوجية محركة، وتفاصيل قيام المشاريع التكتلية في بعض البلدان العربية.
و«عُمان» هي المدخل الذي يهيئ عتبة نصية يلج منها الكاتب وعبر تفصيل تاريخي متقن إلى الحالة السياسية العربية آنذاك.
والعالم الروائي الذي يتذرع الكاتب بذرائع خيالية هو لب صنيعه الفني/الروائي الذي أتقن إلى حد البراعة في نسج عوالمه وتفاصيله.
فمن رحلة شاب عربي من القاهرة إلى مسقط في أوائل التسعينات، يبدأ في حبك رحلة الدخول إلى الماضي والولوج إلى تعاريج الحياة في هذا الجزء من منطقة الخليج العربي.
** هذا الشاب الذي يتداخل مع التاريخ المعاصر، ويكشف بنى مخزونه وتشكلاته الديمقراطية، ونسيجه البشري، وتقاليده اليومية وأعراف بنيته الاجتماعية، والغطاء الفكري المهيمن على عناصره، وينقل حيوية حياته اليومية وتفاصيلها، من خلال واقعها الفعلي والانغماس في بؤرتها المكوّنة، دونما مجادلة سجالية لكل ذلك.
إنما مبتغاه في ذلك تحديد إطار مرن، يمثله خياله الروائي، ليظل العالم الواقعي الذي انغمس في طبيعته، مادة يسهل عليه تحويل عصبها إلى المسار الزمني الذي يريده. وهو وان توخى المصداقية في توليد حركته السردية فإن التاريخ يظل متناً يشهد له.
** ففي الفصل «الرقمي» الذي جاء ثالثاً في الفصول الثمانية عشر - يبدأ مجدداً من «القاهرة 1957 - 1959م» (4) بعد العدوان الثلاثي. ليبدأ سرد الخطاب ببدايته الجديدة، والتي ستكون مهاداً لما سيلي، مرهصاً للانتقال إلى واقع الجوار العربي، والامتداد الأفقي والرأسي للواقع العربي.
مع مخاتلة إيمانية تأخذ طابعاً استطرادياً أحياناً في صياغة بينية لمماثلات هذا الواقع في منحاه الإجرائي، في باقي الأقطار العربية، والتي كانت مواطن لحركات التحرر وفي بداية تلقفها للفلسفات الاشتراكية والرأسمالية، ومع ان الخطاب التاريخي الذي تضطلع به لغة السرد، مرتهن للحدثية الزمانية والمكانية بوصفها علامة إخبارية.
إلا ان إحالات الدلالة تفرز مساحة للتصور القرائي، المكاشف لتسلسل السرد الروائي وفقاً للكاتب/ الراوي، مع استلهام دلالة الوقائعية ذاتها في العمل.
ويبرز إدراكه للرصد التوثيقي، كقيمة تنصرف إلى منحى دأب عليه صنع الله ابراهيم في روايته «ذات» (5) حيث يخترق البناء السردي تقاطعاً بفلاشات خبرية مرصودة باليوم والتاريخ إذكاء لحركة توطين الواقع المحيط في بعده الكامل في المسرح الروائي.
مثلما تؤكد وجود العالم الموازي (التاريخي) للمسار الأول في النص.
وذلك العالم.. هو الإطار الفوقي المهيمن على تبعات الدلالة السردية بعامة.
واعتباره هنا يأتي محفزاً للعقلية القارئة على استيعاب بنى هذه المعالم المحركة لواقعه، وهو في «وردة» يأتي متنامياً لا متقاطعاً - كما في «ذات» - مع مسار الأحداث التي يكتشفها شاب عربي في رحلته لعُمان في الخليج العربي.
** ويبدو هذا التناغم والتمازج، بين التاريخ كحقائق مجردة، وبين سرد تتعالى خطوطه وتتجه صوب بؤرها الدلالية، عبر بداية جديدة، تستعيد انبثاقها من التاريخ المعلن/ المسجل في أول الصفحة، تتجلى فيه رؤية صنع الله ابراهيم، كشاهد على مراحل معينة، عايش فيها حركات المد القومي العربي في فترة بداياته مستلهماً منها الإحساس الذاتي بمبررات وإفرازات الواقع المعاصر.
وهو ما أدى به إلى الافتنان بهذه التقنية حيث البداية من التسعينات، رجوعاً إلى الثلاثينات باعتبارها مكوناً أولياً للواقع الذي يعايشه، ويبني من خلاله مسرحه الروائي.
والقارئ النابه لمثل هذا الواقع، يجد تفاصيل النسيج الداخلي للمجتمعات العربية في الخليج، ونمط تفكيرها، وإذ يتنقل الراوي.. بالمسار السردي لأكثر من حاضرة عربية يجد التصنيف الثنائي، والحوار التبادلي الذي يشتغل عليه الكاتب بعناية، مصوراً تداخل النمط المعيشي بمستويات التفكير وبناء الشخصية في «الخليج» وقناعاتها إزاء الأجناس العربية الأخرى.
ومدى حرص الكاتب على إخفاء الدور البطولي للعربي، خارج الخليج، حيث يعتني بتقديم مبررات الذهنية بقناعاتها الفكرية والمفاهيمية وتميزها وطليعيتها، إزاء شخصية أخرى ليس لها مقدار نسبي من هذا المستوى.
** وبالرغم من الارتباط السببي بين الشخصية والمكان، والتي تعطي لوجودها الموضوعي أفقاً تطرح فيه مثلها ومفاهيمها، وتقدم عبر سلوكياتها ترجمة صادقة لمحتوى ذلك الأفق، في بناءات إنسانية حركية منغمسة في محيطها المكّون، وتواقة لاستعادة أدوارها المحققة لصورة الذات وتجليها.
ولعل تسجيل مراحل واقع تاريخي حافل بالمتغيرات، والتحولات وفي مراحل زمنية حرجة هي الأخرى كانت إرهاصاً لذلك المتغير، في خطاب إبداعي يرتبط عضوياً «بمخيلة الذاكرة» التي تناجز خطابها برؤية قد تكون منطقية وهو ما أبدع فيه صنع الله ابراهيم.
** إذ سار الحدث الأول وبدايته «الخيالية» في أفق مرن قابل للتحول والتشكيل.
ومن ثم كانت البداية الثانية زاخرة بعلامات السرد، الدالة على خط بياني جديد، يتدخل التاريخ ويستظهر محفوظة، ليعيد تفصيل الواقع الجديد من خلاله. وبنفس الرؤية الإبداعية المنبثقة من الواقع ذاته والمسايرة لعوالمه.
ف «ظفار» تنبثق في النص من عام 1968م(6)، ويبدأ منها عالم الأحداث، والنضال والحرب. مشتغلاً على صيغة سياسية وحضارية تحررية، تتبدى فيها سيماء الذات أو الذات الشخصية، في مسالك واقع النضال، ويتدرج الحدث التاريخي موازياً للروائي في تراكماته ونتائجه وجغرافيته التي نالت من الدقة الوصفية ما يجعلها حقائق تاريخية مجردة، ذات صيغة إبداعية وتسلسل حكائي متقن، تحسب للظرف العربي وتحركاته، ما يجعله يسقط عليها إضافات ومعطيات، توجه ذلك التسلسل ويؤثر بها ويؤثر فيها.
مثلما تكوّن «وردة» عالمها «الخاص» المندغم في حركة النضال وأجواء الحرب والمحقق في الآن ذاته تجليات «الأنثى» وقد اختارت هذا الطريق في مساقات حميمية، تناوئ مصيرها بمواجهة القدر، وتحرير الذات من قيود «الذكورة» إلى مجاهل المصير. و«وردة» بامتيازها الذاتي والحركي تمثل مرتكزاً تتحرك باقي الشخصيات من خلاله. فهي محور حركة الفعل ومنظمة المسار، والعقل التنظيمي الذي يصل باقي الشخصيات، بالحدث الرئيسي ويوجهها، مثلما ان فعلها «الأنثوي» يأتي بادئاً لتلقي ردود فعل الآخرين، ومقيماً لمستوى تأثير ذلك الفعل.
ومجيراً لها باتجاه إرادة (البطلة)، التي أخذت زمام التحرك باتجاهات مستقبلية لفعل تصحيحي، يعبر عنه السرد، ببنى جمالية من الحوارات والأحداث، في مجاهل «ظفار» وجبالها وغاباتها التي تطل مسرحاً للفعل السردي ومساحاته.
وتتقاطع في هذا المسرح فلاشات تاريخية، رتبت توالياً بحيث يتدرج الحدث، في بؤر متوترة ومحشورة، في نظام تتابعي حركي، يفرز في هوامشه شخصيات أخرى، تعبر عن صيغة مجتمعية في مزاجها وفكرها. ووجود بطلة بمميزات «وردة» تحظى بهذه الرؤية القيادية، والاختلاف الأجناسي الذي تتجه له الرواية في فضاء زماني ومكاني استثنائي، «ظفار» وفي حقبة تاريخية ماضوية، يتيح لها أفقاً شكلانياً ملازماً ورافداً لأهمية وجودها المحرك والمغير في المسرح الروائي.
ويأتي تدليل الكاتب على عنصر الزمن والمكان، لافتاً استثنائياً في مسار التجربة الروائية العربية. حيث يحظى هذا المكان للمرة الأولى بهذه القراءة الروائية التفصيلية، لمخزونه وجغرافيته المكانية، والحركية والواقعية المتغيرة، وبحسب أمينة رشيد «فلكل رواية علاقة خاصة تربط بين الزمان والمكان من ناحية، والزمان والشخصية من ناحية أخرى، أي بين الشخصية وماضيها، وتتسم هاتان العلاقتان بمجموعة من القيم الجمالية، والاجتماعية التي تشكل فضاء الرواية»(7).
** ويتأتي معطى العلاقة التي تحددها أمينة رشيد، في أهمية الفعل الروائي التاريخي الذي تضطلع به «وردة» حيث يتنامى الفعل وتفاصيله ومؤثراته في إطار مكاني «حسبما يعبر» باخثين» مرتهن لظرفه وأحداثه. بينما يتوالد البناء الجمالي والاجتماعي، الذي تراه الناقدة أمينة رشيد من طبيعة ذلك الظرف والأحداث. ويأتي تركيز صنع الله ابراهيم على إيجاد سند واقعي لحركة التاريخ، وواقعية الأحداث، من دقة العناية بتدوين التاريخ التفصيلي للوقائع.
والاشكال المتعاظم هنا هو تداخل الزمن التاريخي المنصوص عليه وثائقياً، وبين الزمن الروائي الذي يشكل في دلالته إشارة بعدية تستلهم الواقع في حيزه المكاني والزماني لتعيد خلقه على النحو الفني والمزاج الإبداعي، الذي يوالد وينسج تفاصيل إضافية، تجتهد في التعبير عن ذلك الواقع وإضاءة تفاصيله. وتكمن براعة صنع الله ابراهيم، في معالجة هذه الأشكال في صدقية ودقة نقله لتاريخ منطقة في الخليج العربي، برؤية روائية، لاتفقدها فنيتها بعدها الواقعي، بقدر ما تضيف إلى صدقية الواقع فنيات الناقل ومهارته للحد الذي تتوالى فيها معالم الخارطة السردية وإلمامها بمناخ المكان. في الانتقال إلى «صلاله» حيث يكمن ثمة فصل آخر حدد في «ديسمبر 1992م»(8).
** و«صلاله» كما تنص الخارطة الجغرافية المثبتة في الرواية، سهل صحراوي في شمال «السلطنة» حيث يتجزأ السرد إلى مسار دلالي جديد، يقفز إلى الحاضر حسبما تحدده علامته التاريخية ويمثل قراءة لحركة النضال في «ظفار».
(فظفار) الماضي.. و(صلاله) الحاضر.. بينما يصل التاريخ بوقائعه وأسراره، مشكلاً حقلاً دلالياً يتوزع المكان وينظم علاقته بالتاريخ.
فالمحفوظ التاريخي في (ظفار)، ويسترجع وثائقياً في (صلاله) ويستعاد نسيجه في تكثيف لا يتجاوز صفحات في الرواية، على ان يعاود التشكيل بشرطه التاريخي، وبوجوده في تراتب الأحداث في البنية الداخلية للرواية في بقية الصفحات. والايقاع الروائي المتناغم، يفاصل بين بؤره المكانية بحيث لا يتخطى اللاحق/ الماضي. حيث يحكم الشرط التاريخي نظامه التتابعي التسلسلي (الكرونولوجي)مسار الأحداث والتي لم يفرض التاريخ الواقعي إسقاطه عليها، بقدر ما كان مواتياً لترتيب انطلاقها وتراكمها، وتفاقم مراحل توترها.
|