مر المسرح المجري بثلاث مراحل هامة في حياته حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من تطور، ورقي، وجماهير ترتبط ارتباطا كبيرا بالحياة اليومية المسرحية.
المرحلة الأولى:
تعود إلى زمن قديم، حينما انتشرت فنون القاء الشعر وفن التمثيل في القرن السابع عشر الميلادي. حكم في هذه المرحلة تياران مسرحيان اولهما اعتنى بالثقافة المسرحية الرفيعة وخدم التيار، الثاني، فن تمثيل المواطنين ودرامات الطبقة الوسطى. جرى التمثيل في التيارين باللغة اللاتينية، تماماً. كما كانت تمثل الفرق المدرسية بمجموعة من الهواة. وكان من الصعوبة بمكان أن تجد اللغة المجرية مكانا لها على خشبة المسرح وحتى المدارس الدينية الكاثوليكية التي كانت تقدم نشاطا مسرحيا، فانها كانت تحشر الموسيقى والرقص في عروضها.
جرى تمثيل درامات الثقافة الرفيعة في قصور الاغنياء كما في بلاد أوربية أخرى. في المجر كان مسرح مارتون ومسرح استرهازي يعرضان اعمال الموسيقي جوزيف هايدن وبعض الاوبرات. لكن الدراما المجرية الخالصة لم تر النور على هذه المسارح الراقية ابدا الا ان نهاية القرن ال «17» الميلادي احدثت تغييرا هاما في الحركة المسرحية، عندما اتجهت الدرامات إلى لغة وحاجات الجماهير العقلية ومتطلباتها الثقافية والوجدانية لاشباع احاسيسها بالجماليات وفنون المسرح والتمثيل. فالى جانب بعض درامات الفرنسي موليير، ظهرت الدرامات المجرية التربوية والاخلاقية لتدور احداثها في وسط المجتمع المجري (درامات دوجونتش اندراش، إللائي يانوش).
كما انبثقت في نفس الفترة الدرامات المدرسية التاريخية على يد «بنياك بيرانت، فالورى فرانس، كراشكيني آدم».
وحققت هذه الجهود وتلك فرصة الاهتمام من ناحية درامات المواطنين والشعبيين.
المرحلة الثانية (الوسطى):
تبدأ المرحلة بميلاد فن احتراف التمثيل مستلهمة نظام الاحتراف من مسارح النبلاء وفرقها التمثيلية الثابتة والمستقرة خاصة في ألمانيا. ولعل أهم نقلة للمسرح المجري في القرن ال «19» الميلادي هي خطة بناء الدور المسرحية لتعمل عليها فرق التمثيل المسرحي.
فبُنَي مسرح في مدينة سوبرون SOPRON، ومسرح رونديلا RONDELLA في بست PEST، وآخر في بوزوني POZSONY، ومسرح في بودا BUDA بناء على أوامر القيصر يوجاف الثاني، ثم مسرح آخر في براسو BRASSO، وفي ناجي سزابان NAGYSZABAN، ثم في كاسا KASSA، ثم مسرح في مدينة جِيُر GYOR على الحدود المجرية النمساوية.
وفي عام 1812 بُنِيَّ مسرح كبير يتسع لثلاثة آلاف متفرج في بست (العاصمة اليوم بودابست تنقسم إلى قسمين.. بودا المرتفعات الجبلية والصخرية، بست القسم المسطح منها).
بعد موجة بناء دور المسرح، تتكون أول غرفة مسرحية حكومية تعمل يوميا بطريقة مستمرة. وتتعود الجماهير على ارتياد المسرح، الذي لم تهتم به كثيرا من قبل. ولا يخفى ما لهذه الاستمرارية من نجاح على نشر الثقافة المسرحية (دعوتُ الاقطار العربية الناشئة في حياة المسرح أن تبدأ بالاستمرارية، ولو ليومي الخميس والجمعة فقط- لبدء تكوين جماهير مسرحية بها). يدير الفرقة الحكومية الاولى «كلمن لاسلو» أحد كبار الممثلين المجريين. وسرعان ما انتشرت في الريف المجري الفرق المسرحية.
انتبهت المجر إلى الفن المسرحي القومي، فانشأت المسرح القومي المجري (الذي تعلمت أنا شخصيا فيه لخمس سنوات كاملة). وافتتح ابوابه للمرة الأولى مساء يوم 22 اغسطس عام 1837م، عارضا الدرامات المجرية باقلام كتاب المجر الأولين سيجليجاتي أدا، كيش فالوري، طيريش مارتي ميهاي). ولد المسرح القومي قويا. فأعماله وعروضه لم تكن بأقل مستوى من درامات وعروض مسارح وارسو، زغرب، براغ، صوفيا، هلسنكي وبلجراد. ولم يصل هذا المسرح القومي إلى هذا المستوى الاوروبي الرفيع فجأة. ان تاريخ المسرح المجري يسجل مناقشات وحوارات وخططاً استمرت خمسين عاما قبل حفل الافتتاح الاول.
وكلها دارت حول حل المشكلات، واختيار الدرامات، وتجهيز المخرجين الذين يقع على عاتقهم بالدرجة الاولى تحديد فنيات المسرح ومستوياته.. فكريا وفنيا وثقافيا.
عاصرت الرومانتيكية المرحلة الثانية، ليس في حياة مسرح المجر، لكن ايضا في حياة المسرح الاوروبي.
وقدم المسرح المجري مؤلفين وفنانين رومانتيكيين- بما يتناسب مع العصر من ناحية، ومع الآداب الرومانتيكية الاوروبية من ناحية اخرى (درامات نوج اجناتس، اتشاتو بال، جراي يانوش، جال يوجاف).
وكان لابد من ميلاد الاوبرا المجرية اسوة بدور الاوبرا في ايطاليا والمانيا والنمسا خاصة. بعدها ولد فن الاوبريت، الذي لاقى نجاحا جماهيريا واسعا (تُكتَب الأوبريت باللغة الدارجة وتحوي الموسيقى والغناء والرقص، وما هو ترفيه وجزء يسير من الثقافة عموما).
إلى جانب هذه الاشعاعات المسرحية، كان لابد من الانتباه إلى نشر المسرح في الريف المجري. فانشئت مسارح في الاحياء الريفية الكبرى تبعت وزارة الداخلية محليا واسند الاشراف الفني فيها للفنانين المديرين والمخرجين.
ونظرا للثقافة المتواضعة في الارياف- كما في العالم اجمع- فقد تحددت البرامج بمسرحيات كوميدية، وخفيفة، وشعبية، واوبريتات من واقع البيئة المحلية. على الاقل في البداية لاستقطاب الجماهير واشعال فكرة المسرح في البداية ومع ذلك- وبعد وقت قصير- تحولت بعض مسارح الريف الكبرى إلى الأدب العالمي، فقدمت درامات «شكسبير، إبسن، هوبتمان، موداتش).
وقاد الاوبرا الحكومية الثانية اركل فرانس (لا تزال الاوبرا الثانية تعمل باسم اوبرا اركل حتى اليوم، في العاصمة بودابست، وتعداد سكانها لا يزيد عن مليوني نسمة.
وامام اقبال الجماهير على المسرح يُفتَتَح مسرح الشعب ليتخصص في عرض الدرامات المجرية بابطاله وبطلاته بلوها لويزا- احدى كبار فناناته وهناك محطة مترو باسمها في العاصمة، توماشي يوجاف، وكوشي يانو.
كما تنشئ المجر (المسرح الجوال) وهو مسرح متنقل يجوب مناطق الريف الصغيرة المحرومة من دور للمسرح (انشأ الزميل عبدالغفار عوده زميل دراستي بالمجر المسرح الجوال المصري على نفس النمط، لكن الظروف اجهزت على المسرح بعد نجاح دام عدة سنوات، حتى تم اغلاقه).
وكان من الطبيعي ان ينتعش الادب الدرامي المجري، وان يترك المعضلات والمشكلات، متقدما على الطريق الصحيح. وكان من أثر هذا الانتعاش ميلاد حركة نقدية مسرحية واعية، توفر دراسات مسرحية عن العروض، ونشر لثقافة المسرح المجري بين الجماهير.
المرحلة الثالثة (المعاصرة):
لعلها انضج المراحل. اذ اقترب المسرح فيها، متغلغلا في عقل الجماهير.. خاصة الريفية والبسيطة منها. فتشهد مدن الريف المجري: بوجوني، تاتا، كتشكميت، نوجفارود، كولوجثار، بيتش، قاسبريم ونوجكانيجا افتتاح المسارح في مدينة فأخرى . بل تفتتح اوبراته في بعض مدن الارياف ارتقاء بمستوى الجماهير بالموسيقى.
تعطل الحرب العالمية الاولى في القرن العشرين من اشعاعات المسرح والاوبرا. وبعد الحرب بخمس سنوات تعود الامور الثقافية الى مجاريها. فتنشئ المجر فرقا لفن الباليه برعاية ومساعدة الايطاليين.
وتقوى شوكة الفنانين المجريين في حقل المسرح والدراما.
وتعرض مسارحهم امهات الدرامات المجرية جنبا إلى جنب الدرامات الاوروبية العالمية (اعمال الاغريقي الكلاسيكي سوفوكليس، الانجليزي شكسبير، وأعمال الفرنسيين موليير، وأرموند روستان، البلجيكي موريس ماترلنك، والايرلندي جورج برناردشو) كل هذه إلى جنب هذه الآداب الدرامية المجرية لبرودي شاندور، بيرو لايوش، سومورى داجو، مولنار فرانس، موريتس جيجموند، هاقاشي شاندور.
كما ينشط المسرح الخاص- لكن ليس على الطريقة العربية- فقد كان مسرحا له صاحب او مدير يشرف ويصرف عليه، لكنه ملتزم بآداب المسرح وبالثقافة الوطنية وبتطوير الجماهير علميا وشعبيا. قدم المسرح الخاص درامات إبسن، هاوبتمان، وغيرها من درامات الاخلاقيات النافعة للناس.
ثم.. كان للزيارات الاجنبية نصيب كبير في تطوير المسرح المجري، والانفتاح على مسارح اوروبا (زار المخرج النسماوي ماكس راينهاردت M.REinhardt اكبر مخرجي القرن العشرين عالميا.. زار المجر مقدما عروضه سنويا من عام 1903 حتى عام 1916).
ساعدت هذه النقلة النوعية في المرحلة الثالثة على افتتاح مسرح اوبريت العاصمة عام 1922، وعلى صدور عدة مجلات تُعنَى بالفن المسرحي (مجلة المسرح المستقل. كما ظهر أول مسرح مجري للعرائس منذ عام 1941). وتلقيدا لمسرح سالسبورج الذي انشأه ماكس راينهاردت في 1920م يقام مسرح مماثل له في الهواء الطلق في مدينة سجد المجرية امام كائدراتية هناك، يتسع لعشرين الف متفرج.
وتدخل المجر في تيار الاشتراكية، فتقدم بعض المسرحيات السياسية لفترة طويلة. لكن المسرح المعاصر سرعان ما يعود إلى الخط المسرحي الاوروبي الغربي على يد درامية المعاصرين نوج بيتر، سيكاي جيرج، كولتائي توماش، مجر بالينت، مولنار جال بيتر، أو نجفاري توماش، سانتو يوريت.
وكلهم من الدراميين الحاصلين على درجة دكتوراه الفلسفة في الآداب الدرامية. بما يؤكد أن علوم المسرح كانت- وستظل- هي المعيار الحقيقي- والذهبي- لترقية المسرح، خاصة في جوانبه العملية.
ولست اعجب حقا، اذا علمت ان العاصمة بودابست- وتعدادها مليونا نسمة- تحوي خمسة وعشرين مسرحا ما بين كلاسيكي وقومي وترفيهي
وكوميدي تعمل بصفة يومية منتظمة لمدة عشرة شهور في السنة.
|