في ليلة شتاء باردة حزينة يحتلها الشحوب، في ليلة شتاء بدت في أولها هادئة سماؤها صافية، ذهبت إلى فراشي لأخلد إلى النوم بعد يوم شاق مجهد، ولكن كما هي العادة أين النوم؟ فمنذ مجيئي إلى هذه الديار نشبت عداوة ضارية بين الليل وأجفان القلق..
أسندت رأسي المتعب إلى وسادتي صديقة الوحدة وليل الذكريات، آه يا هذه الوسادة كم استمعت إلى أسرار وأسرار فلو أنها نطقت يوما لقالت عجباً من الأخبار أهوال، كم ارتوت من دموع صب كبير فارق الأمل والأحزان، ودع صبا نجد والأوطان. قبلتها يكفي منها أنها استمعت إلى شكايتي ولم تبح يوما قط بسري وألمي، قبلتها لأبدأ مشواراً جديداً من الحديث معها لأنشر هموم القلب بين يديها وفجأة وأنا في غمرة الهدوء والارتياح لما أنا فيه من البوح والوجد أقلق هدوء أركاني عويل الرياح الذي بدأ يضرب نافذتي وكأن صارخاً حزيناً يستنجد بي ويستنهضني انقلب السكون في أرجاء غرفتي إلى ضجيج من أصوات الريح الشديدة وقد بدأ المطر ينهمر - بقوة - استويت جالسة في فراشي حثني الفضول لأرى الجو خارجاً، نزلت من على سريري واتجهت نحو النافذة، قمت بقتحها فإذا السماء ملبدة بالغيوم السوداء، أيقظ هذا الجو الحزين في نفسي جراحات غافية، ها هي الأمطار تشتد انهماراً ويشتد معها القلب الحزين انكساراً تحملني زخات المطر إلى ذكرى صباي في نجد فأتيه مع أوراق الشجر تتلاعب بها الريح فوق أرصفة الشوارع أضيع، وأضيع كلما ازداد الدمع انحدارا يشتد ظلام الليل ظلاما وتزداد حسرة العمر عذابا، تتناهى إلى سمعي أصوات المزاريب تصب الماء من فوق المباني صبا، وتنحني الأشجار ولهى أمام ناظري لا أدري أطربا أم صراخاً هاهو فصل الشتاء الشتاء أقضيه وحدي تتساقط فيه أوراق عمري شاحبة كئيبة قد خطت اليأس عنواناً، قد خطت من الألم طريقاً أغبر المعالم أسود الألوان. أغلق شباك نافذتي وأغلق معه سيل الذكريات الذي انهدر بلا رحمة. أجر خطوات العمر التائه إلى سريري أحاول النوم فكل ما حولي يثير الشجون في نفسي وينشر الحزن بأطرافي، ولكن هيهات النوم صرير الأبواب يقظ مضجعي، يوقظ هذا الحنين الساكن في أعماقي يتردد في العراء؟ لا بيت لنا يأوينا لا فراش لا غطاء؟ لماذا نحن هكذا نتشرد ونتوه، تتناثر أسئلة الغد المظلم المجهول فوق الشفاه، بين مخيمات قد هجرتها مقومات الحياة. بيوت تهاوت فوق دعائمها خنق ركام الحجارة صيحات أطفالها قتلت استغاثات نسائها الثكالى، وسؤال الغد المجهول إلى متى يستمر بهم هذا الحال؟ هناك في صورة أخرى خطوات حائرة تسير إلى غير هدى وسط قرية قد بدت خاوية على عروشها، ترى الموت متخفياً داخل أوكارها، آهات منتشرة هنا وهناك. نساء تركن القرار في البيوت تركن الراحة والدعة، خرجن في طابور منظم، ينتظرن دورهن لأخذ نصيبهن من التوزيع الغذائي، يتسلمن أطناناً ثقيلة من الدقيق والأغطية بأيدٍ شكت قسوة الحياة، وعيون تجهل الغد ماذا سيكون! أنى اتجهت في تلك الأراضي المضطهدة تجد قسوة السؤال ماذا يخبيء الغد المظلم المجهول؟! تساؤلات دعوات تتصعد في ليل مظلم غاب فيه الحق ورقدت في سبات عميق ضمائر الأمم.. أسبلت جفني وقد ضمت دموع انسابت بحرارة همست بألم: أولئك بالفعل هم الذين تجهل معهم الغد المظلم، ولا تجزم أبداً بما سيكون.
آه يا ريح بالفعل إن يكن هناك حاجزاً قوياً بيني وبينك يصد أعاصير غضبك عن وجهي، فهناك الملايين من المشردين في العراء تلفحين فيها وجه البراءة بغضب والسماء تمطر قاذفات العدو بغضب. إن تكن أصابعي اليوم والحمدلله.. قادرة على إمساك القلم وترجمة عذابات الأسى والحنين فهناك الملايين من البشر لا يستطيعون ذلك، ولا يستطيع الفرد منهم أن يقول أنا مظلوم أنصفوني. وأنا أستطيع أن أؤدي عباداتي بحرية دون خوف وصورة ذلك الشيخ الجليل ذي اللحية البيضاء وقد منع قهراً من دخول المسجد الأقصى تقرأ في نظرات عينيه القهر وقلة الحيلة لن تختفي من ناظري أغلقت الصحيفة واستيقظت بقلبي هموم إسلامي، لقد هدأت الريح خارجاً وهدأ تيار الحزن داخلي قليلاً ولكن تلك المشاهد أوقدت بقلبي نيران الغضب. استلقيت في فراشي وظل السؤال يتردد في خاطري: هل تبقى تلك الجموع أبد العمر هكذا أم ماذا؟!! سؤال يلح.. يضرب على جدران الحقيقة والساعة تدق أجراسها تعلن رحيل الليل، وقرب طلوع الفجر، وأي غد مظلم مجهول من ذلك الغد الذي تعيشه تلك القلوب الحزينة؟!
|