Thursday 4th July,200210871العددالخميس 23 ,ربيع الثاني 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مِنْ شَرْطِ الشِّعرَّيَةِ انزياحُ المعْنىَ.. وَلَكنْ.. مِنْ شَرْطِ الشِّعرَّيَةِ انزياحُ المعْنىَ.. وَلَكنْ..
نظرات في قصيدة «أنت الوسام» لعبد الله بن ثاني ( 1ـ 2)
محمد العُمري

تأسيس نظري:
الذي أريد قوله الآن: إن من صفة العقل الجمالي أن ينطوي على إمكان لحظته المجازية التي تؤول إلى نموذج لغوي ينطوي هو الآخر على ميزة التزاحم الذي هو فني بالضرورة بين صفة اللغة في طبيعتها المجازية وصفة اللغة في خاصيتها الدلالية، أي اننا بازاء صياغة ذات وجهين اثنين تقرأ في أحدهما صفة المجاز وفي الآخر صفة المعنى، ربما يقودنا هذا إلى السؤال عن وجه الاختلاف بين مفهومي المجاز والمعنى، ولكني لن أقف عند هذه المسألة الآن، إنما اللغة في حال ما نسميه تزاحماً فنياً تتحول إلى لغة متعددة الحد، انها طيف، والتعبير الأدبي في مثل هذه الحالة الفريدة يكون قوس قزح ذهنياً لغوياً ذا فرادة وعلو، إذن فإن السؤال الجمالي الضخم هو الذي يحاول أن يستقرئ ويعلل ويصف ذلك التركيب الذي يُشِعّ صفتين في نفس الآن، صفة المجاز وصفة الدلالة، هذه في حقيقة الأمر متحارجة لا يمكن تجاوزها بغير ما كنت أسميه «المملكة المجازية اللغوية للعقل».. هذه صفة ذهنية ليس من بُدّ أن تؤول إلى معادلها الجمالي..، والذي يلاحظه في نص عبد الله بن ثاني هومعادل جمالي محض ذو صفتين متزاحمتين احداهما مجازية والأخرى دلالية، وربما كان ذلك مدعاة إلى التركيز على فكرة: إن الشعر في جوهره مُسْبقات معرفية ذهنية تأخذ هي الأخرى صفة الطبيعة الجمالية للغة مثل ما تأخذ صفة الطبيعة الدلالية لها..، هكذا إذن يمكن أن نلاحظ التعالق بين صفة العقل وصفة اللغة في مستوى العقل ذاته وفي مستوى النص..، هل يكون في وسعنا أن نقول إن النص هو ظرف العقل في مجزوء زمني هو الذي كنت أسميه «البُرهة الشعرية»..، إننا هكذا نجعل النص مجزوءاً هو مجزوء الإمكان الجمالي المخبوء..، هذا الإمكان الجمالي مطلق ما يمكن أن يبلغه عقل الشاعر من نموذج جمالي لغوي خلال تجربته الشعرية التي يستغرقها صوته الشعري أوالأدبي بتعبير أشمل..، ومن الموافقات المدهشة أنني قرأت هذا الشاعر ناشراً متميزاً في كتاباته في «الجزيرة» في عدد من المقالات، ومن ذلك سعينا أن نتساءل عما أعده حداً معرفياً فاصلاً بين الملكة وتفعيل الملكة، أو بين المتن الذهني المعرفي والأداة التي تفعِّل ذلك المتن الذهني المعرفي.لقد كنت أشير من قبل إلى الافتراق بين نطاقين ذهنيين، أحدهما المتن الذهني اللغوي والآخر المتن الذهني الجمالي..، وربما كان ملائماً الآن أن أذكر بكون مما نسميه متناً ذهنياً لغوياً قائماً في مقام المادة المعرفية بما هي طرف من إمكان العقل الكلي.، وما أسميه عقلاً كلياً يعني انطواء العقل على كل صفة معرفية هي من إمكانه..، إنه جمالي ولغوي وتحليلي ورياضي ومشترك في نفس الآن.
فإذا انزاح إلى كونه جمالياً كان في مقابل ذلك تعالق المتن الذهني اللغوي والملكة المجازية ثم المعادل الجمالي أوالشعر على وجه التحديد، وأنا أعتقد أن الشعر ذروة جمالية ينصرف إليها في حسابي مفهوم ما أسميه معادلاً جمالياً، على أيِّ حال: وإذا انزاح إلى كونه لغوياً كان في مقابل ذلك قانون اللغة نحواً وصرفاً وإذا انزاح إلى كونه تحليليّاً كان في مقابل ذلك المقال المتميّز في رؤيته الفكرية ابتداعاً وتقييماً، وهكذا لن يكون في وسعنا أن نجد الصفة اللغوية بمعزل عن الصفة الجمالية أو التحليلية أو الرياضية، أريد أن أقول إن هنا ترابطاً بين الحقل المعرفي باطلاق وبين امكان العقل باطلاق، إن تفرُّد ذلك الامكان يجعل العقل ذا مجسٍّ معرفي يوقع المعرفة في أعلى مراتب الاصابة والمطابقة مع الحق أو الواقع أو القانون الطبيعي في حال المعرفة العلمية.
إنما أرجو أن نعود الآن إلى السؤال عما يجعل اللغة تُشِعُّ مجازاً أو دلالة في نفس الآن؟ أو في نفس اللحظة وفي نفس التركيب اللغوي أو النظم «بحسب الجرجاني»!
إذا نحن استطعنا التقيد لصفة النموذج الذي ينطوي على الصفتين فذلك الذي نأمله، وهو ما تطمح اليه هذه النظرات، غير أنه ينبني على ذلك أن ننظر في الفرق بين مفهومي المجاز أو الدلالة، وقد أشرت إلى هذه المسألة في بداية هذا الجزء، ما هو الفرق بينهما؟ إذا نحن وقفنا عند تعريفات البلاغيين فإننا سنلاحظ فكرة تُعَدُّ قاسماً مشتركاً في نظرة البلاغة العربية لمفهوم المجاز، تلك هي الفكرة التي تقول بأن الكلمة تُجُوِّز بها إلى غير ما وضعت له في أصل الوضع، أي أنها حادت أو أنها في حال انزياح لمعناها..
إن المخبوء الدلالي للمفردة قد هُمِّش، فلم تعد المفردة تعني مخبوءها الدِّلالي، أي أننا بإزاء ما أسمِّيه «الإحلال أو الإبدال» الدِّلالي، وهذه في واقع الأمر فكرة «الصورة الشعريّة»، إنها حركة في بوتقة منزاحة عن نظام العقل الدلالي إلى نظام العقل المجازي أو الجمالي، وبتبع ذلك أظن البلاغة أوقعت مفهوم المجاز في قيد معرفي غير مُبرَّر، لأن الذي أظنه: أن المجاز اختلاط مفاهيمي تسوِّغُه قرائن معرفية، هي التي تمكن تسميتها قرائن مجازيّة.
لماذا قال المتنبي.. مثلاً: «فَلَمْ أرَ بدراً ضاحكاً مثل وجهها»
هل في وسعنا أن نكتفي بالقول إن مفردة مثل «بدراً» قد تُجوِّز بها عن معناها الذي وضعت له في أصل الوضع، ؟؟ ربما أنظر في هذه الجزئية لاحقاً، إنما أرجو أن نركز الآن على الجزئية التالية: متن اللغة كونها المفرداتي، إنه كيان من الوحدات الأولية أو المفردات، هذا المتن يقابله مخبوء معنوي أو دلالي..، الآن كل مفردة تنطوي على دلالة، هل يسعنا إذن أن نضع يدنا على مفهوم الدلالة..؟ إنها كل معنى مستقر في مقابل مفردة سابحة في فضاء اللغة، وهي كل معنى مستقر في مقابل مفردة قائمة بذاتها لم تندرج في كيان من النظم أو النَّسج، فإذا اندرجت في نظم كان ممكناً أن ينزاح مخبوءها الدلالي، وربما لا يكون لمخبوئها الدلالي انزياح، ولذلك قال الجرجاني: إن المجاز لا يكون في المفردة على وجه الاستقلال وهي لمحة بارعة، وإنني أعُدُّ معناها: ان المجاز ابتداع دلالي، إنه تحول الدلالات على وجه التحديد، لا على سبيل الاعتساف ولكن على سبيل القرائن المجازية بشرط الإمكان الجمالي للغة الذي قلت إنه نظام..،
وإذن، الدلالة: المعنى المخبوء حال كون المفردة حُرَّةً في غير نظم وحال كونها واقعةً في نظم، إلاّ أن ذلك المعنى المخبوء قد ينزاح فلا يكون كما هو إذا تعالقت المفردة مع غيرها في تركيب لغوي ما، وتكون القرينة عندئذ قرينة سياق، لن أعُدَّ هذا التعريف من البدهيات لأن الدلالة في واقع الأمر، كما أرى: أصل المجاز، وكل مجاز دلالة متحوِّلة وليس كل دلالة مجازاً،
هذه نقطة أولى، المجاز دلالة إنما هي دلالة مقيَّدة بشرط التركيب اللغوي فهي دلالة في قيدها الجمالي بسنده المعرفي الذهني الجمالي، ويبنى على ذلك أن نستشِف الفرق بين المفهومين: المجاز والدلالة..،
نقول: إن المجاز ظرف ذهني جمالي يوقع اللغة في صفة من الخلط المعرفي ويصنع دلالتها المتحوّلة، إنه يوقع المفردات في حال من التوتر المعرفي، وما أسمّيه «قوة الرابط» بين الدلالة المستقرة والدلالة المتحوِّلة أو رابط المجاز هو الذي يجعل اللغة بلورة تَشِفُّ عن المجاز وأصله في نفس الآن، ألم نقل إن الدلالة أصل المجاز في بداية هذه الكتابة..،
لكن الدلالة أيضاً نظام اللغة المشترك المستقر الذي لا يتحول إلا بقرينة أسلوبية.
هذه مسألة تسوقنا إلى القول بكون المجاز: نظام العقل الجمالي الفرد بصفته هو التي تنافي صفة الاشتراك، هكذا التعريفان الى جوار بعضهما.
الدِّلالة: نظام اللغة المشترك المستقر في العقل العام.
والمجاز: نظام العقل الجمالي الفرد المتحول بحسب لحظته المجازية أو برهته الشعرية، إذا نحن نظرنا في البيت الشهير:
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسَقَتْ
ورْدَاً وعَضَّتْ على العُنَّاب بالبرد
تبيَّن لنا كيف تنزاح الدلالة في التركيب، لكنه انزياح بلاغي أو جمالي، إنه انزياح بقرينة وهو ما تتأسس عليه المفاهيم البلاغية جميعها من تشبيه واستعارة وكناية ، وجميعها تحولات مجازية، باعتبارها تابعة لكل ظرف عقلي فرد تعالقت لغته بادراكه الجمالي أو ملكته المجازية، إن مفردة مثل «لؤلؤا» أو «نرجس» تقابل مخبوءاً دلالياً إلا أن ذلك المخبوء الدلالي ينزاح أو يتحول، وهو لم يتحول إلا حين وقعت المفردات في سياق لغوي أو تركيب لغوي، أو تجاوز، هذه دلالة أو معنى في حال انزياح،
وهذا الانزياح في واقع الأمر لا يعدو كونه اضطراباً أو موراناً لنظام اللغة في كونٍ لغوي مفارق هو الذي قلت عنه من قبل انه النظام الدلالي المبتدع، إن هذه واقعة لغوية جمالية تقابلها في الطبيعة واقعة طبيعية متحولة، اذا كنا نعُدَّ تهيُّج الذرة في الفيزياء باكتسابها طاقة اضافية واقعة طبيعية فإن تحول اللغة إلى نظامها المجازي يعد تحولاً وتهيُجاً هو الآخر لحساسية العقل أو نظام العقل بازاء الواقع، على أي حال: اللؤلؤ والنرجس اشارتان مأسورتان أو مقيدتان بنظام جديد هو نظام العقل الجمالي الفرد أو نظام المجاز، وهذه صناعة دلالية في بوتقة الامكان المجازي للعقل الجمالي، اللؤلؤ الآن هو قطرات الدمع والنرجس هو العين ذاتها، لو أني أعدت البيت أو صياغته ليكون على النحو التالي:
وأمطرت دمعها من عينها وسقت
خَدَّاً وعَضَّتْ شفاه الورْد بالبَرَد
ما الذي يكون عليه الفرق؟ انني تعمدت فقط ابقاء مفردتين على مخبوئهما الدلالي ولم استعض عنهما بشيء، انما أي نظم هو امتع وأكثر ادهاشاً ووهجاً، ان يكن جمالياً وإن يكن بلاغياً في مستوى المماثلة أو التشبيه؟ لا أشك في كونه نظم البيت كما تناقلته كتب البلاغة العربية، ولكننا سنقع الآن في مأزق معرفي ذي صلة بتقديرنا لحجم الأثر الجمالي الذي تحدثه خاصية الانزياح هذه، بمعنى أنه هل كل انزياح يعني بلوغ التركيب خاصيته المجازية؟ أي أنه هل كل انزياح يؤول بالنظم إلى مرتبته الجمالية؟ وهل كل انزياح مجاز بالضرورة؟
وما مرتبة المجاز بعد ذلك في سلم القيمة الجمالية؟ هذه التساؤلات ملحة، ولذلك نحن نقول كما هو عنوان هذه النظرات، «من شرط الشعرية انزياح المعنى..
ولكن»، لكن هذه بحاجة إلى تبرير وايضاح ما.. وجه الاستدراك على ما يظنه المتأدبون اليوم اطلاقاً بغير شرط، أفضى إلى حُسْبان كل نظم متحوِّلٍ موافقاً للشرط الجمالي.
وللحديث صلة إن شاء الله

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved