Thursday 4th July,200210871العددالخميس 23 ,ربيع الثاني 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

إحالات إحالات
ذاكرة الريشة في مهب الريح!!
حسين المناصرة

قراءة في رواية «خطوات على جبال اليمن» لسلطان القحطاني:
يكاد العنوان الذي وضعنا لهذه المقاربة «ذاكرة الريشة في مهب الريح»، يختزل العالم السردي الذي اتكأت عليه رواية «خطوات على جبال اليمن» لسلطان القحطاني، وهو عنوان مستل من نص الرواية، وتحديداً من كلام بطلها «محمد شرف الدين» الذي يقول في سياق تصويره لحياته: «إنني ريشة في مهب الريح تتقاذفها النسمات الصباحية الهادئة أحياناً، وتعصف بها الرياح العاتية أحياناً أخرى» «ص54»، فالريشة كما يتضح تعيش دوامة التقاذف والعصف سواء أكانت الريح هادئة أم عاصفة، بغض النظر عن قناعة المتلقي أو اتفاقه مع هذا الايقاع السيري المشكل لبنية الرواية.. إلا ان هذا التفسير المرضي أو غير العادي أو الاغترابي «الريشة في مهب الريح» في حياة هذا البطل يعود في ظننا إلى سببين مباشرين، ساهما في توليد هذا البعد من الأزمة التي ولدت أو انبثقت منها هذه المقاربة:
الأول: ان بطل الرواية يفقد ذاكرته، مما يجعله عاجزاً عن الامتداد إلى ماضيه، وبذلك غدا جذعاً مقطوعاً من شجرة أو ريشة مقطوعة من جناح طائر، وعليه (أي بطل الرواية) ان يزرع نفسه بطريقة أو بأخرى في تربة الأرض، أو في جناح العقاب مثلاً، ليقول لنا بالتالي: إنني موجود بتصرفاتي وعلاقاتي وهذياناتي. والآخر يعود في ظني مهما حاول القحطاني ان يتنكر لهذا البعد إلى ان القحطاني نفسه من الناحية السيرية يحمل كما أظن نسب اخواله لسبب أو لآخر لا يعني القراءة هنا، ومن هنا جاءت هذه الرواية تعبيراً عميقاً عن دواخل القحطاني ومعرفته أو خبرته أو خطواته على جبال اليمن عندما عمل مدرساً في هذا المكان الحميمي إلى نفسه. وقد قصّ القحطاني أيضاً فيما بيننا انبثاق روايته هذه من قصة واقعية في حياة رجل حقيقي عرفه، فبنى من خلاله هذه البنية السردية السيرية على وجه التحديد، وقص أيضاً حالة الاعتكاف التي عاشها، وقد تجاوزت خمسين يوماً كما أظن وهو يكتب مسودة روايته، وفي الوقت نفسه يشعر من خلال وعيه النقدي ان تجربته الروائية الأولى في روايتيه السابقتين كما تهيأ له لم تكن موفقة كما يجب، لذلك حسن بنية هذه الرواية الجمالية، فجاءت في تصورنا تجربة متقدمة جمالياً تستحق الاهتمام، لأنها تأتي في سياق ما نسميه طفرة الرواية العربية السعودية ابتداء من مطلع التسعينيات إلى اليوم.
***
روى صديقنا «الشاعر سعيد عاشور» في أمسية ناقشنا فيها رواية للصديق «أحمد الدويحي» فقال: «صديقك لا تناسبه، ولا تكتب عنه»، من هنا تصبح الكتابة عن رواية الصديق الدكتور سلطان القحطاني ذات مخالب وأنامل معاً، وفي الحالتين لا بد من الاختلاف إما مع المبدع أو مع المتلقين، فعندما تكتب عن صديقك كلاماً نقدياً ناعماً، تجد من يقول لك: «جاملته»!! وعندما تكتب كلاماً «خلافياً»، يأتي من يقول لك: «ماذا يوجد بينك وبينه؟»!! وفي الحالتين تشعر بأنك تخسر على المستوى الذاتي؟
عندما نوقشت الرواية في أحد ملتقيات نادي القصة في جمعية الثقافة والفنون، وقدمت بعض الأوراق والآراء، أشرت على عجل إلى ان الرواية «فضفاضة» لأنها تدخل في تفصيلات يمكن الاستغناء عنها، وقلت أيضاً: ركز الروائي على العالم الخارجي في بناء شخصياته، وكان جديراً به ان يتغلغل داخل الشخصيات ليكشف لنا مخبأَها بوصفه يقدم سيرة ذاتية لبطل رواية شبه وحيد في بنية السرد، ثم أشرت، كما تصورت آنذاك، إلى تراتيبية السرد على الطريقة التقليدية، وقرأت النص التالي الذي كتبته على هامش الرواية: «تصور الرواية حركية محمد شرف الدين من الشمال إلى الجنوب في صياغة السيرة الذاتية التي تجعل حركية البطل العادية، البسيطة حالة إثارة نسبية، مع تعرف تفاصيل المكان، التي تهمش حركية الشخصيات وملامحها الأخرى، وهي بنية سردية تكاد تكون مألوفة في سياق الشعبي السائد». ومن ناحية أخرى أشرت إلى اننا نجد ميزات الرواية في اختيار العنوان، وأسطرة المكان، وتجليات البحث عن الذات، وجدلية العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتية، وضنك الحياة الواقعية في سياق البحث عن الرزق قبل الطفرة، ونقد الواقع وخاصة في مجال الشعوذة والدجل بخصوص العلاقة بين الإنس والجن!!.
تتكون الرواية من عشرين وحدة أو لوحة أو فصلاً، موضوعها الرئيس محمد شرف الدين الذي وقع ضحية القنابل أو بيض الغراب الذي ألقته الطائرة على السيارة التي كان يركبها مع آخرين، تسير على جبال اليمن غير آمنة من العواصف أو من الغربان (الطائرات)، فالطائرات، في أحداث الخمسينيات والستينيات في اليمن، تشبه الغربان، لكنها غربان بيضاء تبيض بيضاً أسود، فكانت الصورة التالية في ذهن محمد شرف الدين وهو على سرير المشفى بعد الحادث الرهيب الذي تعرضت له السيارة المذكورة بعد قصفها من الطائرة: «الحصان الأبيض تحول إلى طائرة مقاتلة تطارد ثلاثة شبان، لتقتل اثنين وتصيب الثالث، ثم تعود على شكل غراب أبيض كبير في السن يبيض بيضة سوداء، ما لامست الأرض حتى انفجرت وخرج فرخها على شكل رماد أبيض أحرق سيارة قديمة تحمل ثلاثة شبان، مات منهم اثنان، والآخر قذفه هواء البيضة مسافة بعيدة لم تدركه النار، وقام يمشي بلا رأس، وما ان رأيته بدون رأس حتى صعقت من هول المنظر، واستيقظت فإذا بالأطباء والممرضات يمسكون بي ويهدئون من روعي» «ص13».
من هنا تبدأ حكاية محمد شرف الدين الذي يفقد ذاكرته بعد هذه الحادثة ثمانية عشر عاماً، لتغدو هذه الذاكرة الحالة المرضية التي تنتج بنية الرواية في البحث الشعوري وغير الشعوري عن الاسم الحقيقي والجذور التي ينتمي إليها هذا الاسم، يقول: «من ذلك اليوم أو الساعة التي هوت القنبلة على جسم تلك السيارة العجوز تغير كل شيء، حتى اسمي الذي سمعت صوتاً يناديني به قبل ساعات قليلة، وكأن ذلك الصوت يودع اسمي، لاستدل به اسماً جديداً سيرافقني مدة ثمانية عشر عاما، تنام فيه الذاكرة نومة أهل الكهف، وسيغير هذا الاسم كل شيء في حياتي، لأكون إنسانا جديداً ليس فيه من الإنسان الأول إلا الهيكل وملامح الوراثة، والتعلق بحب الحياة والناس» «ص9».
ما قاله هنا هو اختزال لزمن طويل، بدأ من فقدان اسمه الحقيقي أبرز الأشياء التصاقاً به، وانتهى بعودة هذا الاسم إليه نافياً الاسم المستعار، فهو عندما فقد اسمه حمل اسماً مستعاراً تسمى به واحد من رفيقيه اللذين توفيا، وهو اسم محمد شرف الدين، ثم ها هو بعد ثمانية عشر عاما يلتقي باسمه الحقيقي «محمد سعد الحمد» دفعة واحدة.
بين هاتين العلامتين المميزتين من خلال التسمية، والمرتبطتين بفقدان الذاكرة وعودتها، يتشكل العالمان السرديان المتناقضان والمتكاملان في الوقت نفسه، في حياة أو في داخل هذا البطل المريض بفقدان ذاكرته، حيث عالم واقعي يتشكل في الحياة اليومية والتصرفات غير الشعورية، وهو عالم غير مقنع أو مبرر لمحمد شرف الدين نفسه وللآخرين من حوله، لأنه عالم الشك والريبة في حياة المقطوع من شجرة، أو في حياة الريشة في مهب الريح.. وهذا العالم هو عالم فقدان الذاكرة من خلال ثمانية عشر عاماً، فكانت ذاكرته الضائعة توحي له بأنه يسير على أرض هشة مهما حاول ان يقنع نفسه بالانتماء إلى الواقع الذي هو فيه، على نحو قوله: «ما اكثر الأشياء الغريبة في ذهن إنسان مثلي يسير على أرض هشة، لا يدري ماذا تطأ قدماه» «ص113». أما العالم الآخر فهو عالم منبثق من العالم الأول، وهنا يغدو مقارنة بالعالم الأول عالماً كابوسياً يهاجمه في غفواته، فيرى اناساً لم يسبق له في سياق ذاكرته الحالية ان رآهم، لأن هذا العالم المغيب عن الذاكرة هو العالم الحقيقي ما قبل فقدان ذاكرته، لكنه يصير عالماً جنونياً من وجهة نظر زوجته أو بعض من يعرفونه عن قرب، وخاصة الزوجة أقرب الناس إليه يقول: «المشكلة عندي في البيت، زوجتي بدأت تشك في سلامة قواي العقلية، فهي تنام في غرفة تغلقها تماماً، خوفاً على نفسها وابنتها» «ص203» لذلك صنف في ضوء هذا العالم على أنه ملبوس بالجن، فيكون هذا الوضع مدخلاً للقحطاني، يمارس فيه نقد الخرافي الشائع بين الناس في هذا السياق. أما بالنسبة لمحمد شرف الدين فهو يشعر ان ما يراه، له علاقة بحياته الأولى، ومن ذلك ان يرى كما يقول: «تلك المرأة التي تلبس السواد، وتتنقب ثم تأتي إليَّ فيما يرى النائم، لتقول عبارتها السخيفة «مشكلتك لن تنتهي إلا كما بدأت» «ص175». وفي النهاية لا بد من هذا الحل «السخيف» على حد تعبيره، لأن مشكلته تنتهي في صورة ما بدأت به، فهو عندما فقد ذاكرته الأولى بدأت مشكلته، وعندما بدأ يفقد ذاكرة «فقدان الذاكرة» التي عاشها خلال ثمانية عشر عاماً، بدأت مشكلته تحل من خلال العودة إلى ماضيه وعائلته، وكان هذا تحديداً عندما سقط على مؤخرة رأسه على عتبة الباب الرخامية الحادة فسال دمه من رأسه بغزارة، مما أعاد إليه ذاكرته المفقودة.
سيطول الأمر لو تتبعنا حركية هذه الشخصية في الواقع، وعيشها في عدة أماكن، وما شكلته من علاقات متشابكة مع أناس شاركهم المرض أو العمل أو السكنى أو النسب. وقد كان قصدنا من هذه المقاربة إنشاء بنية الرواية على أرضية الذاكرة بوصفها العامل الحاسم في رسم شخصية بطل الرواية وعلاقاته، وهذه بنية الحبكة السردية على وجه التحديد التي اتخذها القحطاني، خيطاً متماسكاً لبناء الجمالية الهرمية في روايته، مع التلاعب في البنية العامة وخاصة على مستوى بداية الرواية التي كانت من نهايتها الغامضة، مع التركيز على المقولة التي كان البطل يسمعها في نومه: «مشكلتك لن تنتهي إلا كما بدأت».

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved