إذا كانت الوسيلة المعرفية تدخل كل بيت فإن خطرها يكون عظيماً سواء أكان إيجاباً أم سلباً.
وإن أهم هذه الوسائل الإذاعة والتلفاز، وتوشك الإذاعة أن تكون أهم هذه الوسائل، بل إنها لكذلك فعلاً، وهذا ما يجعل خطرها أكبر وتأثيرها أقوى وأبلغ سواء أكان ذلك إيجاباً أم سلباً.
لا لكونها تدخل كل بيت وحسب، بل وكل سيارة وكل مكان ينقل إليه المذياع. هذا الذي من سهولة نقله صار يمكن حمله في الجيب. وهذا يعني اتساع دائرة استعماله، ومن هذا الاتساع يعظم التأثير.
وجوانب التأثير من حيث الموضوع كثيرة قد لا يكون من الممكن الإحاطة بها وبخاصة في مثل هذا المقام. ولذا أقف حديثي هذا معك أيها القارىء والسامع والمعد والمذيع على ما كان الدافع إلى هذا الحديث.
كان البرنامج في إحدى إذاعاتنا العربية، وكان عن الأخطاء اللغوية غير أنه عندما تحدث عن تأنيث المذكر وتذكير المؤنث مثّل فيما مثّل بقول أحمد شوقي:
يا ريح أنت ابن السبي ل ما عرفت ما السكن |
وهو من قصيدة في المجلد الرابع من الشوقيات صفحة 131 مطلعها:
عصفورتان في الحجا ز حلتا على فنن |
وإذا عدنا إلى البيت (يا ريح أنت ابن السبيل) إلخ تذكرنا قولهم (لولا الحذف والتقدير لعرف النحوَ الحمير).
إن شوقياً يصوغ في ذلك تشبيها حذفت منه أداته. وهو في أصله علي هذا النحو (يا ريح أنت كابن السبيل)، فكيف ندّ هذا الفهم عن ذلك المعد الذكي، لكن كما يقولون (لكل سيف نبوة ولكل جواد كبوة).
ولولا ما يُشَنّ من حملات على أمير الشعراء في هذا الزمن ما وقفت مع المعد الفاضل هذه الوقفة العجلاء.
لا لأن الأمر يسير، ولا لأن السكوت يسعنا، ولكن لأن هذا الرجل الفاضل معد البرنامج قد أخذ على نفسه تتبع هذه الأخطاء ونقدها وإظهار وجه الصواب في ما أخطأ فيه بعضهم، بل كثيرون من المتحدثين.
فهو أعني المعد حريّ بالتقدير والتشجيع، لا بما قد يوهن عزيمته بمثل هذا التصحيح.
وأنا أيدني الله وإياك لا أنفي وجود الأخطاء النادرة عند شوقي، فقد أخذته بشيء منها في ما تحدثت فيه عنه كمثل كلمة (شباك) في قوله:
والنيرات من السحاب مطلة كالغيد من ستر ومن شُبّاك |
وهو خطأ لغوي يقع لكثيرين.
أما ما خطأه فيه المعد الفاضل فلوصح فإنه خطأ نحوي وقوع مثله من مثل شوقي كبير وغير متوقع مع أنه لم يقع.
إما إدخال لفظة غير عربية فهو وإن كان خطأ، إلا أنه أخفّ من الخطأ النحوي وإن كنت لا أجيز الأمرين معاً لقد كان يمكن معد البرنامج آخذ شوقي أسلوبيا لكونه يكتب للأطفال فكان عليه أن يقدم التشبيه كامل الأركان.
أما تشبيه المؤنث بالمذكر فجارٍ هو وعكسه في كلامهم منه تشبيه الرجل بالشمس وتشبيه الفتاة بالبدر وهكذا فلا وجه لتخطئة شوقي في هذا.
وأنا لست متابعاً لهذا البرنامج الجيد فأستدرك عليه أكثر من هذا أو أن أثني عليه وهو جدير بالثناء أو أن أقول له لو أنك نبهت على كذا أو كذا.
لكني أقول: إن هناك كثيراً من الأخطاء اللغوية في المفردات وفي الأساليب حتي عند بعض من إخواننا المذيعين كتأخير ما حقه التقديم وعكسه. وكاستعمال حرف (في) بدلاً من حرف (الباء) كقولهم (اتصلت فيك) مثلاً.
وكثير من هذه الأخطاء قد نبهنا عليها كثيراً، ولكن الناس لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يستفيدون، وإذا استفادوا لا يطبقون، ومعلوم ما للغة المذيع من تأثير علي عامة الناس لأن الإذاعة مدرسة، والمذيع فيها مدرس.
والذي أعرفه أن وزارات الإعلام وبخاصة عندنا تحرص على تخيُّر المذيع الجيد صوتاً ولغة.
إننا نذكر، وحسبنا ذلك، بل إنه ليس في مقدورنا أكثر من هذا في مثل هذه المجالات.
ومن أخطاء المذيعين ما لا ذنب لهم فيه سوى الرواية وبخاصة فيما ينقلونه عن الصحف، وأكثر ما يكون ذلك في التقديم والتأخير، فلماذا لا يُعمل المعد لأقوال الصحف قلمه في مثل هذا، وأحسبه من حقه، بل من واجبه.
إننا جميعاً مسؤولون عن هذه اللغة لا لكونها شيئاً مهماً في هويتنا الثقافية والقومية وحسب، بل إن هناك ما هو أهم من ذلك كله وهو أنها لغة الإسلام التي نزل بها الكتاب العزيز، وجاءت بها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبها دوّن تراث هذه الأمة، فتفريطنا فيها جزء من التفريط في ذلك كله. جنبنا الله التفريط والإفراط فهو صنو التفريط في القبح.
إن استعمال العامية جزء من الدعوة إليها، بل هو أخطر، وإن الذين رفعوا لواء الدعوة إلى العامية هم من أعداء الإسلام من الملل الأخرى من المستشرقين وذيولهم من المستغربين، من العرب غير المسلمين وقليل ممن غُرّر بهم من المسلمين.
ولقد نشطت هذه الدعوة في مطلع القرن الرابع عشر للهجرة النبوية الشريفة فوقف في وجهها كثيرون من الباحثين والأدباء المبدعين كمثل الشيخ محمد عبدالمطلب وأحمد محرم، وأحمد شوقي، وحافظ إبرهيم، ومعروف الرصافي وغيرهم كثيرون.
فتوقفت الدعوة إلى العامية نسبياً ولكنها استمرت تطبيقاً وفي هذا يكمن الخطر.أضف إلى ذلك هذه الدراسات للعامية، وأخطرها ما كان في الجامعات.والحديث عن اللغة في الجامعات حديث طويل سئمنا رفع الصوت به وما من سامع - فالله المستعان -.
|