كتب: عبدالرحمن بن علي العسكر
أدراج مكتبات الجامعات تزخر بالمئات من كتب التراث القديم المحققة والتي نال بها محققوها درجات علمية، ولكن كان آخر عهدهم بهذه الكتب تلك الساعات التي مرت بهم لحظة المناقشة، ثم انتهى بعد ذلك علمهم بها.
وهم بذلك قد حجروا الكتاب على غيرهم أن يطبعه أو أن يسعى في تحقيقه من جديد، ومنعوا الناس من الاستفادة من هذا التراث العلمي الذي تعب فيه مؤلفه كما أنه هو أيضاً قد تعب على تحقيقه، وللجامعات نصيب من هذا الأمر، فكما سمعنا في المناقشات بأن اللجنة توصي بطبع الكتاب، ولا نرى شيئاً بعد ذلك، وبقدر ما نفرح حين نسمع بأن طلاب الدراسات العليا قد انشغلوا بتحقيق كتب السلف إلا أننا حين نتذكر أن مصير هذا الجهد سيكون أدراج مكتبة الكلية التي أشرفت على هذا الطالب نحزن كثيراً ونتمنى أن يخرج الكتاب من ذلك السجن الذي لا يدري متى نهايته، لأنهم خالفوا المقصد من تحقيق الكتب فأظن أن المقصد الأساس لتحقيق الكتب هو استفادة القارئين منها، وكيف تتم الاستفادة ونهاية الكتاب هي ما أسلفت.
تلك صورة لواقع كثير من الرسائل الجامعية: غير أن هناك باحثين سمت همتهم وواصلوا مشوار خدمتهم لكتب السلف، ولم يكتفوا بحصولهم على الدرجة العلمية التي يسعون لها، بل نشروا ما عملوه للناس وحققوا المقصود من تعبهم وتحقيقهم، ألا وهو استفادة القارئ من هذا الكتاب وخروجه للناس على الصورة التي أرادها مؤلف الكتاب ابتداء، ومن هؤلاء الأخ الدكتور أحمد بن عثمان المزيد، الذي حصل على درجة الدكتوراه على تحقيقه لكتاب: تلبيس إبليس للإمام أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله.
لم يمكث المحقق مدة طويلة بعد حصوله على الدرجة العلمية حتى أخرج الكتاب مطبوعاً للناس وهذا مما يشكر عليه وعساه أن يكون قدوة لغيره من المحققين الذين أسلفنا الكلام عنهم.
«كتاب: تلبيس إبليس» من الكتب المهمة في كشف حقائق الصوفية والرد عليهم بل هو من أقدم الكتب المؤلفة في ذلك، ومع أهمية الكتاب إلا أنه لم يلق عناية من دور النشر ومكاتب التحقيق في إخراجه محققاً كاملاً فأقدم طبعة له بعد الطبعة الهندية هي طبعة محمد منير الدمشقي عام 1340هـ وهذه الطبعة تبين بعد الحصول على النسخ الخطية للكتاب أنها طبعة كثيرة السقط والتصحيف ومع ذلك فقد خرجت بعدها طبعات لا تعدو أن تكون تصويراً لهذه الطبعة وإعادة لصف الحروف، رغم كثرة النسخ الخطية للكتاب وتوفرها، لكن أخشى أن يكون موضوع الكتاب وما يتحدث عنه وواقع الصوفية في بلدان اليوم سبباً في اغفال دور النشر ومكاتب التحقيق تحقيق هذا الكتاب.
أخرج أخونا الدكتور أحمد هذا الكتاب في ثلاثة مجلدات وطبعته دار الوطن في طبعة أنيقة جميلة اهتم المحقق فيها بتحقيق النص وتخريج الآثار والعزو للأقوال، كما خدم الكتاب ومؤلفه خدمة علمية حيث أسهب الحديث عن المؤلف ابن الجوزي وما قيل عنه في جانب الاعتقاد ثم تحدث عن الكتاب وما عليه من ملاحظات وردود، جاء ذلك كله في مقدمة طويلة أخذت نصف المجلد الأول، ثم ختم الكتاب بسلسلة من الفهارس العلمية التي تسهل الاستفادة من الكتاب.
ومن الصعب هنا أن نستعرض ما حواه هذا الكتاب العظيم الذي يعد من أبرز مؤلفات ابن الجوزي، لكني أحيل القارئ إليه بعد خروجه محققاً، ليجد فيه وصفاً لكثير من أحوال الصوفية التي مازالت ضاربة أطنابها على ربوع كثير من بلدان العالم الإسلامي، ومما يشكر عليه المحقق ودار النشر هو تيسيرهم الحصول على الكتاب بسعر زهيد لا يساوي حجم الكتاب وزناً ومعنى.
بقي أن أشير هنا إلى أن عمل ابن آدم لا يخلو من نقص وعيب ولهذا فإن الكتاب لو خلا من تلك الحواشي الطويلة التي زادت من حجمه لكان أولى، وعلى كل فما زلنا في انتظار خروج الجزء الثاني من الكتاب وعسى أن يكون قريباً.
|