من الذي سيخرج منتصرا من المواجهة بين الرئيس بوش ورئيس الوزراء أرئيل شارون؟ كان بوش قد طلب من شارون أن يوقف عملياته العسكرية الهجومية على الضفة الغربية ويبدأ في الانسحاب فورا؛ ورد شارون بأنه سوف يوقف عملياته وفق جدوله الزمني، وليس جدول واشنطن.
بوش أمام شارون
لقد أجبرت الأحداث بوش على الاعتراف بأن دعم واشنطن لطرف واحد هو إسرائيل سوف ينعكس بالضرر على علاقة الولايات المتحدة مع أي بلد عربي، وتقوض حرب الرئيس على الإرهاب مع احتمال تهديد امداداتها النفطية، ويبدو أن الرئيس قد بدأ أخيرا يفهم أن مصالح أمريكا الأمنية مهددة بفعل غياب عملية سلمية بين إسرائيل والفلسطينيين.
أما شارون فقد كان على الدوام يشعر أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الطموحات الوطنية الفلسطينية هي القوة العسكرية؛ وخلال حياته السياسية الطويلة كان معارضا لكل اقتراح أو مفاوضات سلمية، واليوم في خضم حرب متعاظمة للإرهاب وعليه، يبدو أنه حصل على ما يكفي من الدعم في إسرائيل لينفذ خطة لتدمير المؤسسات الوليدة للسلطة الوطنية، فالمصالح الأميركية لا تعني له شيئا.
لو حاولنا أن نتخيل الموضوع كما تتصوره مخيلة جورج بوش لرأينا اننا امام رجل لم يقرأ أو يفكر كثيرا عن العالم الواسع في معظم سني حياته، والآن يجد نفسه وقد دفع فجأة إلى ظرف يدقق فيه مئات الملايين من الناس في كل كلمة يقولها وكل إيماءة تبدر منه، وحيث عاقبة كل قرار من قراراته تصبح قضية حياة أو موت لمعظم أجزاء كوكبنا.
فإذا كان مثل معظم الأميركيين، لا يحمل اقتناعا قويا خاصا بالشرق الأوسط سوى رغبة غامضة بألا يلحقه الضرر من جرائها، فإن أقل ما يمكن أن يفعله هو التخلي عن حقيبة الصراع العربي الإسرائيلي لأكثر الأشخاص الذين يعرفهم مناصرةلإسرائيل، وقد دخل حلبة المنافسة على الرئاسة تسبقه سمعة عنه باعتباره سياسيا خفيف الوزن يحاول جاهدا أن ينفيها، من دون أن تكون هناك فرصة لذلك.
فلو كنت مكانه وتركت الناس تعرف منذ البداية أنك في جانب إسرائيل تماما، وأنك تعقد لقاءات منتظمة مع مثقفين من المحافظين الجدد، وأن واحدا أو اثنين منهم أعضاء في حملتك، فإن من المحتمل أن تجد نفسك موضوعا لمقالات تسهب فيوصف فضولك الثقافي والمدى المدهش الذي وصلت إليه والدراسة السريعة للأمور وما إلى ذلك. فتأجيل قضية مزعجة وتعزيز سمعتك في جبهة هشة بوقوفك إلى جانب إسرائيل يعني أن تضرب عصفورين بحجر واحد، بوش الاب واللوبي الإسرائيلي في حالة بوش، كانت المسألة هائلة التعقيد، بفعل ما حدث لوالده، ففي العام1991، كان على الرئيس جورج بوش أن يقوم بأكبر مواجهة مع اللوبي الإسرائيلي في أمريكا وهو ما لم يقم به أي رئيس أميركي، وفيما كانت النتائج مختلطة فإن الرئيس قد خسر بعض النقاط بالتأكيد، ففي مطلع سبتمبر من العام 1991 كانت حكومة إسرائيل اليمينية قد طلبت من بوش ضمانا لقرض مقداره 10 مليارات دولار في صورة سندات تجارية وكان حينئذ يخطط لعقد مؤتمر غير مسبوق للسلام في مدريد.
ولم يرغب في تقويض المؤتمر بدعم كبير لتوطين نحو مليون يهودي هاجروا إلى إسرائيل على الارض الفلسطينية في الضفة الغربية.
طلب بوش الاب من الكونغرس تأجيل ضمانات القروض لأربعة أشهر أخرى، فغير اللوبي الإسرائيلي مواقفه؛ وفي يوم من الأيام كان هناك نحو ألف من المنتمين لهذا اللوبي يقومون بزيارات لمكاتب أعضاء الكونغرس، ويستقطبون التأييد لصالح دفع ضمانات القروض فورا.
إن أي شخص عمل في مقر الكونغرس سوف يعترف لك بأن اللوبي الإسرائيلي قادر دائماً على عرض قضيته جيدا، إذ يصل ثلاثة أو أربعة منهم وكل منهم جاهز لعرض القضية من زاوية مختلفة، ولكن خلف هذا العرض هناك فكرة لم تكن تطرح بوضوح وهي أن اللوبي الإسرائيلي يملك قوة مالية هائلة، وإذا ما قرر البدء في حملة للتبرعات لخصومك، فإن مستقبلك السياسي سوف يصبح صعبا وربما قصير الأجل، وكما أشار مايكل لند في مجلة «بريتيش جورنال بروسبكت» فإن اللوبي الإسرائيلي يعمل في صورة مختلفة عن أي لوبي عرقي آخر، وهو ما يعني وعدا بحشد الأصوات الانتخابية مع أو ضد مرشحين مختلفين.
في مواجهته عاصفة بدأ يثيرها اللوبي ضد محاولاته للإبطاء في منح ضمانات القروض قال بوش في خطبة منقولة له إنه «يواجه بعض القوى السياسية المتنفذة».
عند هذه النقطة، كان منح الضمانات قد حصل على دعم سياسي هائل في الكونغرس، فقد دعمه فرع الحكومة المعني بشؤون جماعات الضغط - واللوبي الإسرائيلي وآخرون.
معاداة السامية
لم تكن تلك مواجهة، فقد حصلت إسرائيل على الأموال فيما بعد، وتمخض مؤتمر مدريد عن اتفاقات أوسلو، ولكن كانت هناك مواجهة من نوع ما، لقد مضى الرئيس في خطته قدما ولكن كان هناك ثمن، فخلال أيام كان هناك سيل من التعليقات المسموعة لكل من يولي اهتماما، وفسر كثير من اليهود كلمات بوش حول جماعات الضغط باعتبارها هجوما معاديا للسامية يستهدفهم. وأصدر مالكولم هونلاين، وهو مدير «مؤتمرالرؤساء» وهذه منظمة يهودية وسطية ذات نفوذ قوي، بيانا فسرت فيه تعليقات بوش باعتبارها هجوما على حق اليهود في المواطنة، وفي غضون ذلك، بدأ البيت الأبيض في استلام الكثير من الرسائل المزعجة، يهنىء بعضها الرئيس على ماقاله ضد «اللوبي».
وكتب الرئيس بوش رسالة اعتذار لرئيس «مؤتمر الرؤساء» تحدث فيها عن احترامه العظيم لجماعات الضغط، وقدم اعتذاره عما سببه من أذى للمشاعر.
هزيمة بوش الأب
لقد ساهمت عوامل عدة في هزيمة بوش في العام 1992، منها دخول روس بيرو معترك الانتخابات والاقتصاد الضعيف، وهو ما جعل من الصعب قياس مدى أهمية قضية ضمانات القروض في انخفاض شعبيته من معدلات التأييد المحلقة التي كان يتمتع بها في ربيع العام 1991.
ولكن في العام 2002 فإن من الصعب تخيل أن يكون موضوع الهزيمة وكل ما يتعلق بها من أسباب، قد بقي بعيدا ولم يبرز بين آن وآخر في المناقشات التي جرت بين الأب والابن، فمن جهة كان الرئيس بوش الأول قد أقام تحالفا داخليا وخارجيا صعبا لإخراج صدام حسين من الكويت، وهي مهمة لقي عليها الثناء باعتبارها عملا بارعا، وبعد ستة أشهر كان يصور باعتباره ممارسا «إن لم يكن للسامية، لشيء قريب من ذلك» (بكلمات جاكلين ليفين زعيمة المؤتمر الأميركي اليهودي)، وسرعان ما لقي هزيمة انتخابية ساحقة.
ما الدرس الذي تعلمه الابن من هذا، في وقت تتصدر مواجهته مع شارون عناوين الصحافة في جميع أنحاء العالم يوميا؟ هل يلبي احتياجات اللوبي الإسرائيلي مهما كان الثمن لينجو سياسيا؟ أم يفعل شيئا أكثر قربا من الكلمات التي تنسب إلى وزير الخارجية جيمس بيكر (تبا لهم ويقصد اليهود) لم يصوتوا لنا في كل الأحوال».
إن الحقيقة الجارحة هي أن الهشاشة السياسية تؤذي في الاتجاهين، ففتح معركة مقنعة مع اللوبي الإسرائيلي من شأنه أن يلحق ضررا كبيرا برئاسة بوش، ولكن واشنطن، باعتبارها المحسن الذي يمد إسرائيل بالمال والسلاح وهي الصديق الحقيقي الوحيد، لديها من القوة ما يمكنها من إطاحة حكومة شارون، وإن أعلنت بهدوءولكن بوضوح، أن شارون يهدد بشدة العلاقات الأميركية الإسرائيلية، فإن حكومة شارون لن تستمر أسبوعين آخرين، وإن أوضحت أنها قادرة على التعامل بفعالية أكبر مع حكومة إسرائيلية ملتزمة بالبحث عن سلام عادل مع الفلسطينيين، بدلا من تحطيمهم فإن ذلك سيحدث تأثيرا هائلا على الناخبين الإسرائيليين.
وبوضوح فإن ذلك سوف يكون مسارا بالغ الخطر في وقت يسود فيه العنف وعدم الاستقرار.
وقد أثبتت إدارة الرئيس كلنتون لإسرائيل أنها تشعر بأن نتانياهو كان خيارا بائسا لإسرائيل - وأثرت على الناخب الإسرائيلي ليصوت لباراك، ولكن حتى والشرق الأوسط يغلي حينذاك، فقد كان مستوى العنف أقل بكثير منه في الوقت الراهن، إن الوضع الراهن خطير وغير مستقر، وهناك مخاطر على إدارة بوش، وبغض النظر عن الطريق الذي تسلكه، ولكن المنعطف الراهن - حيث يعبث شارون بسمعة أمريكا في جميع أنحاء العالم العربي بضرباته العنيفة التي يوجهها لسكان الضفة الغربية- يحمل مخاطر أعظم.
فإذا تبصر بوش، وأجبر إسرائيل على الانسحاب وبدأ العمل بحيوية على تسوية تقوم على أساس دولتين لشعبين، فإنه سوف يخاطر بمواجهة مع اللوبي الإسرائيلي في بلاده ستكون على الأقل في شراسة المواجهة التي أدمت والده، وربما أسوأ،سوف يتهم بالعداء للسامية مثل والده، (ولقد سمعت مثل هذه الاتهامات تنتشرفور دعوته يوم الخميس الماضي لانسحاب إسرائيلي)، ولكن من الواضح أنه سوف يتجاوز ذلك ويخرج أقوى مما كان،
« برافدا» الروسية |