* القاهرة- مكتب الجزيرة عبدالله الحصري:
بدأت الدول العربية منذ إعلان شارون الحرب الإجرامية على فلسطين التلويح بسلاح المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل خاصة أنه ورقة الضغط الوحيدة التي يمكن استخدامها في ظل السكوت الدولي على ما يحدث في الأراضي المحتلة.. فهل تنجح المقاطعة العربية لإسرائيل في ظل الظروف الدولية الراهنة، وفي ظل تداخل الاقتصاديات العربية مع الاقتصاد العالمي؟
وطبقا لبيانات المكتب الرئيسي للمقاطعة العربية في دمشق فقد بلغ إجمالي الخسائر المترتبة على المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل 90 مليار دولار منذ بداية المقاطعة عام 1945 وحتى عام 1999م ولكنها لم تحقق كل أهدافها، لأنها لم تطبق بالكامل.
ونظرا لإيجابية المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل فقد أنشأت جامعة الدول العربية لها جهازا يعد هو الجهاز العربي الوحيد الذي عمل بكفاءة وفاعلية منذ بدايته في عام 1951م، وحتى بدأت عملية السلام على المسار الفلسطيني في بداية التسعينيات، حيث نجح هذا الجهاز في بلورة أحكام المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل على أسس علمية مدروسة، وتمكن من أن يلحق ضرراً ملموساً ومتراكماً بالاقتصاد الإسرائيلي.
وتعود فكرة المقاطعة العربية لإسرائيل تاريخيا إلى عام 1922م وذلك حينما قاطع أبناء فلسطين السلع الإسرائيلية، وكان ذلك رداً على مقاطعة اليهود للسلع العربية، وقد بدأ تاريخ المقاطعة العربية لإسرائيل رسميا عام 1945م عندما اتخذت جامعة الدول العربية قرارات وتوصيات بضرورة المقاطعة الاقتصادية
لإسرائيل.
تطورات المقاطعة منذ ثورة فلسطين
مرت المقاطعة العربية لإسرائيل بعدة تطورات، أهمها ما حدث خلال ثورة فلسطين الكبرى«1936-1939» والتي شهدت صراعاً مسلحاً ضد الانتداب البريطاني، حيث تشكلت لجان مقاطعة في سوريا والأردن ولبنان لمنع إرسال البضائع والسلع إلى فلسطين، ما لم تكن مقترنة بموافقة اللجان القومية التي كانت تقود حركة الاضراب والعصيان العام في فلسطين، خوفاً من تسلل البضائع والسلع العربية الى أيدي اليهود في فلسطين.
وتبع ذلك عقد المؤتمر القومي العربي في «بلودان» بسوريا عام 1937 بحضور مندوبين من سوريا والعراق والأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية ومصر وفلسطين، والذي وسع حدود المقاطعة لتأخذ بُعدها العربي خارج فلسطين، ليشمل- إضافة إلى مقاطعة يهود فلسطين- مقاطعة بضائع الدول الأجنبية التي تدعم مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين.
ثم كان التحول الثاني في موضوع المقاطعة العربية بانتقاله من المستوى الشعبي الى المستوى الرسمي،
عندما تبنت الجامعة العربية المقاطعة، حيث قرر مجلس الجامعة في جلسته الثانية«2/12/1945» مقاطعة المنتجات والمصنوعات اليهودية في فلسطين، وشكّل لجنة دائمة للإشراف على التنفيذ، ثم تقرر تشكيل مكتب دائم لذلك، ولجان في جميع الدول العربية مهمتها العمل على متابعة سياسة المقاطعة للمنتجات اليهودية في فلسطين وتنفيذها.
قانون فرنسي ضد مبدأ المقاطعة
وقد تعرضت الدول العربية لضغوط شديدة من جانب الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية لإلغاء هذه المقاطعة بحجة تهيئة الأجواء لمفاوضات السلام العربية الإسرائيلية، ويزعم أن المقاطعة تعد أمرا ضد الشرعية الدولية وقوانين حرية التجارة العالمية، بل إن دولاً اوروبية مثل (فرنسا) أصدرت قانونا في عام 1997م يرفض مبدأ المقاطعة، وبدأت هذه الدول في استخدام منظمات دولية لتفتيت المقاطعة العربية لإسرائيل، كان آخرها في مايو 2000م عندما شنت الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية«ليكرا» حملة ضارية ضد المقاطعة العربية للشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل وساعدتها في ذلك غرفة الصناعة والتجارة في فرنسا.
تدويل الإنتاج يعوق المقاطعة
ويرى البعض أن المقاطعة في ظل الظروف الدولية الحالية قد لا تكون ذات تأثير كبير على إسرائيل لعدة أسباب أهمها انتشار النمط الدولي الجديد للإنتاج الذي يقوم على مفهوم تدويل الإنتاج الذي يصعب معه تحديد منشأ السلعة بدقة حيث أصبحت أكثر من دولة تشترك في إنتاج نفس السلعة، ومن هنا تنشأ صعوبة في متابعة منشأ السلع الإسرائيلية والجزم بها أو تحديد المكون الإسرائيلي أو الأمريكي بها، وإن كان ذلك ليس مستحيلاً، ولكن يجب إدراك أن مقاطعة سلعة إسرائيلية أو أمريكية أو سلعة بها مكون إسرائيلي سوف تشمل مقاطعة دول أخرى مشاركة معها في الإنتاج بما فيها دول عربية تشارك إسرائيل في إنتاج بعض السلع مثل مصر والأردن، لوجود استثمارات إسرائيلية بتلك الدول العربية.
اضافة الى تزايد عدد الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل بإسرائيل او لها فروع وتوكيلات بها، وتزايد نفوذ هذه الشركات وتأثيرها على مؤسسات صناعة القرار السياسي في العالم، وهو ما يعني تزايد المصالح للدول الغربية في إسرائيل مقارنة بما كانت عليه في بداية تطبيق المقاطعة.
ومن هذه العوامل ايضا زيادة الانفتاح الاقتصادي للدول العربية على العالم، وتزايد درجة اندماجها في الاقتصاد العالمي مثل اتفاقيات الشراكة مع الدول الاجنبية مثل اوروبا وهو ما يعني ان تأثر المصالح العربية بتنشيط المقاطعة الاقتصادية لاسرائيل وللشركات التي تتعامل معها سيكون اكثر اتساعاً مما كانت عليه في الماضي سواء كانت هذه المصالح متعلقة بالتجارة مع دول العالم - وبالتحديد مع الولايات المتحدة الامريكية والتي تمثل الصادرات العربية اليها نسبة 11% من الصادرات العربية الاجمالية بينما تمثل اجمالي الواردات العربية منها 12% من الاجمالي وتزايد حالة التفكك العربي وضعف التنسيق في مجال المقاطعة، وتراجع العديد من الدول العربية عن تطبيق تعليمات المقاطعة خاصة مصر والأردن تحت تأثير الضغوط الغربية عموماً والامريكية خصوصاً. ومن العوامل الهامة في هذا المجال اعتماد الدول العربية في غذائها على الواردات الاجنبية خاصة من امريكا، حيث تبلغ فاتورة الغذاء العربي 20 مليار دولار، وهو ما يعكس ضعف نسب الاكتفاء الذاتي العربي من السلع الأساسية، وهو ما يعني امكانية استخدام هذا الضعف كسلاح ضد الدول العربية في حالة تشديد المقاطعة وتأثير الدول الغربية بها.
دول عربية صامدة
لقد هزت هذه التطورات سياسة المقاطعة العربية لاسرائيل، وجعلتها تتراجع في المستوى الرسمي العربي، لكنها لم تستطع ابدا وقف المقاطعة، حيث لا زالت دول عربية ماضية في سياسة المقاطعة .
بل ان هذه السياسة هي السياسة الرسمية لجامعة الدول العربية، رغم كل ما يمكن ان يقال عن الجامعة ونشاط مكتب مقاطعة اسرائيل .
ويكفي للدلالة على حضور المقاطعة العربية الرسمية القول:
ان دولا مثل سوريا ولبنان، والعراق والمملكة العربية السعودية، ودولة الامارات والسودان وغيرها، تطبق المقاطعة.
منع تسرب المنتجات الصناعية الاسرائيلية
وفي بداية انتفاضة الاقصى طالب مكتب المقاطعة العربية لاسرائيل المؤسسات التجارية العربية بفرض قيود مشددة للحيلولة دون تسرب المنتجات الصناعية الاسرائيلية الى الدول العربية كما طالب المكتب تلك المؤسسات بالقيام بمقاطعة الشركات الصناعية الاجنبية التي تتعامل مع السلطات الاسرائيلية في مجال الاستيراد والتصدير.
وطالبت المكتب بالعمل على تفعيل القوانين المعمول بها في الدول العربية في مجال مقاطعة اسرائيل لضمان إلحاق الاضرار بالاقتصاد الاسرائيلي الذي اصبح يعاني صعوبات حقيقية في اعقاب انتفاضة الاقصى.
ومما يؤكد فاعلية المقاطعة ان المؤتمر اليهودي العالمي اكد في بيان له في مارس العام الماضي انه سيحاول الحد من آثار احياء المقاطعة الاقتصادية العربية لاسرائيل عن طريق تذكير الشركات بأن القانون الامريكي يمنعها من ابرام صفقات مع الشركات العربية بالموافقة على عدم التعامل مع اسرائيل وان هذه المبادىء هدفها منع اي علاقات تجارية مباشرة بين الدول العربية واسرائيل والسعي الى معاقبة اي شركة عالمية تتعامل مع الدول اليهودية.
واشار البيان الى ان المقاطعة لا تعني فقط حظر التجارة المباشرة بين الدول العربية واسرائيل بل تضيف الى القائمة السوداء اي شركة تتعامل مع اسرائيل واضاف ان مقاطعة الدول العربية للشركات التي تتعامل مع اسرائيل يعد ايضا تهديدا للكيانات الاقتصادية العربية اكثر منه للشركات الامريكية ووحدات المؤسسات الاجنبية التي لها تعاملات داخل الولايات المتحدة وانها بالتالي يجب ان تتبع قانون مقاومة المقاطعة واوضح انه سيتم مواجهة المقاطعة عن طريق الاعلان عن طبيعة هذا التهديد الذي لا يواجه التجارة الحرة فحسب بل ايضا عملية السلام وروح التعاون بين الشعوب.
نوعان من المقاطعة
الاقتصادية لإسرائيل
وهناك نوعان من المقاطعة الاقتصادية لاسرائيل، المقاطعة الاولية والثانوية. المقاطعة الاولية تشمل الشركات الاسرائيلية في داخل اسرائيل او خارجها على ان تكون مملوكة او جزئيا لاسرائيل او لاسرائيليين. اما المقاطعة الثانوية فتشمل الشركات غير الاسرائيلية التي تملك استثمارات في اسرائيل او تبيع سلعا تدخل في صناعتها مكونات اسرائيلية.
وتنص قوانين المقاطعة الثانوية على ان تبرز الشركات الاجنبية شهادات تثبت ان تلك الشركات غير مملوكة كليا او جزئياً لإسرائيليين، وانها لا تستخدم في صناعة منتجاتها او في المنتجات التي تروجها أي مكونات إسرائيلية الصنع او المنشأ، وأي من الشركات الاجنبية التي لا تنطبق عليها مثل هذه الشروط توضع على القوائم السوداء التي توزعها مكاتب المقاطعة في دمشق.
وبالنسبة للسفن المبحرة الى الموانئ العربية تنص القوانين على مقاطعة هذه الموانئ لأي سفن قادمة من إسرائيل او مبحرة اليها. في مطلع العام 1994 زار المنطقة العربية وزير التجارة الامريكي آنذاك رونالد براون، وخلال جولته هذه طلب من البلاد العربية التي زارها انهاء المقاطعة العربية لإسرائيل، على أساس ان هناك محادثات سلام قد تؤدي الى معاهدات سلام بين الدول العربية واسرائيل. غير ان الدول العربية جميعا بمن فيها الاردن الذي لم يكن وقع بعد اتفاقية وادي عربة مع اسرائيل رفض الطلب الامريكي. وعند ذلك طلب الوزير الامريكي انهاء المقاطعة الثانوية.
وقد وافقت بعض الدول على ذلك، لكن دولا اخرى وعلى رأسها سوريا قالت ان المقاطعة الثانوية اهم من المقاطعة الأولية، فالمقاطعة الأولية التي تشمل الشركات الاسرائيلية امر بديهي، لكن هدف قوانين المقاطعة هو معاقبة الشركات التي تتعامل مع إسرائيل.
إعادة تدوير الأموال العربية في خزائن البنوك الأمريكية
وينادي ابراهيم العيسوي، المستشار في معهد التخطيط القومي بإعادة تقييم عملية إعادة تدوير المحافظ المالية العربية في خزائن الحكومة والشركات والبنوك الامريكية، والتي يمر جزء منها لإسرائيل، من ثم يستوجب على اجهزة المقاطعة التنبيه لذلك النشاط ووضع ضوابط جديدة لاستثمار الأموال العربية في الولايات المتحدة بالتنسيق مع الاجهزة القطرية المعنية حتى لا تجد الأموال العربية طريقها في النهاية لدعم الكيان الصهيوني عبر المساعدات الامريكية وتحفيز كل آليات المقاطعة في إطار فكري عام، ينسق بين المنطلقات المتباينة التي تحكم أداء المكاتب الاقليمية، اذ ان غياب الرؤية الشاملة الموحدة يحد من فاعلية جهود المقاطعة. ان المقاطعة العربية تمثل ورقة تفاوضية قوية، تظهر اهميتها في مصدرها اذ صدرت بقرارات متتالية من الجامعةالعربية على مختلف المستويات وصولا الى مؤسسة القمة، ولا يزال النجاح الاكبر الذي يمكن ان تحرزه المقاطعة متمثلاً من حرمان اسرائيل من ان تصبح جزءا لا يتجزأ دون فرض او ضغط او تهديد من المنطقة، رغم وجودها الفعلي، لقد حرم الكيان الصهيوني - طويلا من السوق العربية الكبيرة، سواء بمعيار السكان او بمعيار القوة الشرائية، وكان على تل ابيب ان تبحث عن منافذ بعيدة لتصريف منتجاتها، كما أدى منع سفنها وطائراتها من التوقف في الموانئ والمطارات العربية، الى خلق صعوبات عديدة للاقتصاد الصهيوني، من ثم فان استمرار المقاطعة يمثل احد ضمانات تقليل حجم التنازلات على موائد المفاوضات العربية - الإسرائيلية على كافة المسارات.
ويجب على صانع القرار العربي الاصرار عدم التنازل المجاني مهما كانت الضغوط عن المقاطعة، باعتبارها ورقة تفاوضية هامة للغاية، وبالتالي فان متقضيات السياسة العملية تفرض اعادة النظر في الآليات القائمة للمقاطعة، ودور ومهام الأجهزة المعنية لضمان عدم انهيار خط دفاعي خطير يحرم الجسد العربي من جهازه المناعي الرئيسي برغم كل الاختراقات لأكثر من نصف قرن من الإصابة بإبراز الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية.
وأكد محمود عبدالفضيل، استاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة ان إسرائيل تريد بناء تجمع اقتصادي لايقوم على التكافؤ، بحيث تصبح هي قائدته وتساوم به كيانات العالم الرأسمالي المتقدم، وأنها تتوسل أولا في سبيل ذلك تشكيل «مثلث إسرائيلي- أردني - فلسطيني» لاختراق المجال الاقتصادي العربي. أما المرحلة الثانية، فسوف تركز على مشروعات الربط الإقليمي المصممة لتحقيق هيمنة إسرائيل على شبكات الطرق ومسارات التجارة وقنوات التمويل والتطوير التقاني في المنطقة، بما يحقق نظرية المركز والأطراف، إذ تلتحق الاقتصادات العربية القطرية بهذا التنظيم من دون تنسيق أو تكامل مسبق.
وأشار أحمد حسن ابراهيم، المستشار في معهد التخطيط القومي إلى ان «قطاع الأعمال المصري والتطبيع مع إسرائيل» بمثابة رصد دقيق لمواقف رجال الأعمال المصريين، وهو يتعجب من رضائهم بدور رأس جسر لانطلاق الاقتصاد الإسرائيلي إلى البلدان العربية الأخرى، وبخاصة في الخليج العربي، دون ان يدركوا ان هذا قد يؤدي في المدى المتوسط على أقصى تقدير إلى اغلاق هذه الأسواق أمام منتجاتهم هم. وأبدى اندهاشه من الإقبال على تحقيق التكامل مع النظراء الإسرائيليين بينما لايسعون بما فيه الكفاية للتكامل مع الاقتصادات العربية، وإن كان يستثني من هذا ذلك الموقف اللافت لاتحاد الغرف التجارية المصرية الذي «يرفض الدخول في كيانات ثنائية أو متعددة تكون إسرائيل طرفا فيها، وفي الإحجام عن إقامة أية علاقات اقتصادية معها».
|