1/1 لاشك أن المصطلح النقدي، بشكل عام، يعتبر عنصراً أساسياً من عناصر قيام نقد أدبي جاد وفعال في دراسة النصوص الإبداعية، وإبراز مقوماتها الفنية والفكرية، نظراً لما يلعبه من دور حاسم في ضبط المفاهيم وتوضيح الرؤى، ضماناً لموضوعية المقاربة النقدية من ناحية، وتيسيراً للتواصل الدقيق بين المهتمين والباحثين من ناحية أخرى، خصوصاً والمصطلحات، كما يعلم الجميع، كلمات اكتسبت في إطار تصورات نظرية محددة، دلالات مضبوطة، أصبحت معها محرومة من حق الانزياح المباح للكلمات العادية، تفادياً لكل ما من شأنه التأثير سلبياً على مهامها الإجرائية العلمية. وهو ما يعني بعبارة أخرى أن المصطلح النقدي علامة لغوية«signe linguistique» خاصة، تتميز عن غيرها من العلامات العادية الأخرى، بتكونها من دال ومدلول محددين بمجال معرفي معين، خلافاً للعلامة اللغوية العادية القابلة للتدليل على معانٍ متعددة ضماناً للدقة والوضوح المطلوبين في التعبير والتلقي على حد سواء، وهنا يكمن جوهر الخلاف بين اللغة الاصطلاحية واللغة العادية، اللغة الخاصة واللغة العامة، حيث يتم تأسيس الأولى بشكل مضاعف انطلاقاً من الثانية، مما يكسبها صرامة ودقة أكثر، تتناسبان وطبيعة المهام العلمية المنوطة بها:«فإذا كان اللفظ الأدائي في اللغة صورة للمواضعة الجماعية، فإن المصطلح العلمي في سياق نفس النظام اللغوي يصبح مواضعة مضاعفة، إذ يتحول إلى اصطلاح في صلب الاصطلاح، فهو إذن نظام إبلاغي مزروع في حنايا النظام التواصلي الأول، إنه بصورة تعبيرية أخرى علامات مشتقة من جهاز علامي أوسع منه كماً وأضيق منه ذمة. وهو لهذا شاهد على غائب، وهي حقيقة تعلل بصفة جوهرية صعوبة الخطاب اللساني من حيث هو تعبير يتسلط فيه العامل اللغوي على ذاته ليؤدي ثمرة العقل للمادة اللغوية«1». وحتى يتسنى لهذه اللغة الواصفة الثانية«metalangage»القيام بوظائفها العلمية والعملية على الوجه الأكمل، لابد من توفرها على شرطين أساسيين، هما:
«الأول: تمثيل كل مفهوم.. بمصطلح مستقل.
والآخر: عدم تمثيل المفهوم.. الواحد بأكثر من مصطلح واحد«2».
فهل تحقق هذان الشرطان في مصطلحات النقد الروائي العربي؟.
1/2 للإجابة عن هذا السؤال لابد من التذكير أولاً بالوضعية الاستثنائية للكتابة الروائية العربية، كجنس أدبي حديث، كي لانقول دخيل، في مشهدنا الإبداعي، وتأثير ذلك السلبي على واقع الممارسة النقدية المرتبطة به، في ظل الفراغ المهول الذي يشكو منه التراث العربي في هذا المجال، مقارنة بما تزخر به الخزانة العربية في الشعر ونقده:«فتراثنا بصدد كل دراسة أمام ترسانة من المصطلحات السردية المتضاربة والمختلطة، التي تتكرر أحياناً، لكنها في كل مرة تظهر له بوجه»«7».
ثانياً خلل على مستوى المدلول: وهو أقل انتشاراً من الأول، وإن كانت له نفس درجة خطورته، مادام يمس الوجه الثاني الدلالي في معادلة المصطلح النقدي الروائي الصعبة، بإعطاء مفاهيم عديدة ومختلفة لنفس الدال الواحد، خارقاً بذلك ثاني أهم قاعدة من قواعد وضع المصطلح، ممثلة في:«تجنب تعدد الدلالات للمصطلح الواحد في الحقل الواحد«8».
وبذلك يفقد المصطلح حمولته الدلالية الموضوعية المرتبطة بمرجعية معرفية محددة واحدة، ليستبدلها بأخريات متعددة بتعدد واضعيها واختلاف مستوياتهم، مما ينعكس سلباً على كفاية المصطلح الإجرائية ودوره الفاعل في توحيد المعلومات، وتيسير تداولها.
ثالثاً وأخيراً خلل على مستويي الدال والمدلول: ويعد أخطر مظاهر اضطراب المصطلح النقدي الروائي العربي على الإطلاق، لكونه يجمع بين مساوئ الاضطرابين السابقين في وقت واحد، بإعطائه دوال ومداليل مختلفة عمَّا هو سائد ومعروف عن هذه المصطلحات في مرجعياتها الغربية الأصلية، دون تبرير علمي يذكر. ولهذا أسميناه بالاضطراب المركب تمييزاً له عن سابقيه. مما يعد مؤشراً قوياً على الفوضى العارمة التي تجتاح ممارستنا النقدية الروائية وتطبعها بطابع التشتت والتشرذم، لدرجة يشعر معها القارئ وكأنه أمام تخصصات مختلفة متباعدة.
فما هي أسباب هذه الوضعية التي لا تزيدها الأيام إلا تفاقما؟
1/3 الواقع أن السبب العام لكل هذه الاختلالات المصطلحية السابقة، على اختلاف أشكالها وتنوع درجاتها، يعود أساساً لغياب مؤسسة علمية مسؤولة قادرة على تنسيق مختلف الجهود المبذولة في هذا المجال، وفرض احترامها، متجاوزة بذلك العجز الصارخ الحاصل في أداء المؤسسات الحالية« مكتب تنسيق التعريب والمجامع اللغوية»، جراء المساطر الملتوية المتبعة في طرق اشتغالها، وما تتطلبه من وقت كبير، يحول حتماً دون مواكبة التطورات السريعة والمتلاحقة لمسيرة البحث العلمي في هذا الميدان، مما يترك المجال واسعاً للمبادرات الفردية لتدارك الموقف وتعويض الخصاص، بكل ما لذلك من مضاعفات سلبية عديدة ومختلفة، بتعدد أصحابها، واختلاف مؤهلاتهم ومرجعياتهم:«لقد كان بطء المجامع الشديد هو السبب الأساسي في فتح الباب على مصراعيه أمام الاجتهادات الشخصية.. فلم يكن من المعقول أن نطلب من الباحثين أن يكفوا عن القراءة والبحث والتأليف والتعريب حتى يتلقوا الإذن من المجمع اللغوي «أو المجامع اللغوية»، ولهذا تواردت الاجتهادات دون ضابط أو رابط، ولم تنجح القرارات التي تصدرها المجامع في توحيد المصطلح«9».
تبرير وإن بدا مقنعاً فيما يخص وضع الظاهرة العام، إلا أنه يبقى مع ذلك عاجزاً عن تفسير أشكال تجلياتها المختلفة، مما يستوجب البحث عن الأسباب الفرعية الخاصة بكل حالة على حدة.
وهكذا فإذا عدنا مثلاً للاختلال الأول الذي يصيب الدال، وحاولنا البحث في حيثياته وأبعاده، سنلاحظ أنها ترجع في جوهرها لعاملين اثنين لاثالث لهما:
|