المحابر تطفو كالأنهار...
تتمدَّد دون جَذر... في هيبة...، وسطوة مدِّ مياه البحور...
شواطئ «الكلام» ندية... تنضح بالأفكار...،
تفتقت الحقائق...، وانكشفت للأفكار مخابئ الحديث، ومخابيء الأخبار...، ومحابيء الأفكار...
الأقلام لا تشكو الشحَّ... ولا العقم... ولا الامحال...
فالفيض... مدُّ... تدفُّق... وإمطار...
فما يوقف الأقلام عن بوح الليل والنهار؟ وما يعيق الأفكار أن تجثو عند منافذ «الأحداث» وتلتقط مما يملؤها... في صحوة «أحداثٍ» قلبت هدوء الأرض إلى ضجيج، ومخبوء الأرض إلى مفضوح...، وسراديب النفوس إلى صالات استقبال؟
كالمحطات هي لوحة الأرض الآن...
الحركة لا تهدأ...
والأقلام تمدُّ... تمدُّ...
والأفكار تشحذ... تشحذ...
وعن كل طريق...
ولأنَّ المحابر لم تعد تحتمل فيضانها... فإنها كالسيول تقتحم السدود... تفضي إلى أودية القول، وشعاب الحديث...
فماذا يكتب الكاتبون؟
ولمن يكتب الكاتبون..؟
ولماذا يكتب الكاتبون؟
سؤال... وأسئلة... وتساؤلات... واستفهام يلاحق الكتاب...
والإجابات على أرصفة القول تتسكع في غواية القول... والافضاء به...
غير أنَّ السؤال الأشد وقعاً: في خضم كلّ هذا المدِّ... والفيضان...، والإمطار هو: ماذا يكتبون؟...
أوَ ليس من حق القارئ أن يتلقى ما يجيب عن كل ِّسؤال نافر، ومارق، ومحتل...؟ فيجد لديه إجابة؟... وإذا كان الكتاب لا يجيبونه وهم ينهلون من فيض المحابر التي غُذيت بفيض المرحلة وطفو أنهارها فمن الذي سوف يجيبه؟
أوَ ليست هي «فرصة» الكتاب كي يستقوا ممِّا هو قائم لما هو آت؟
أوَ ليست هي «ساعة» المفكرين، وذوي الأقلام كي يمتحوا من محابر الأحداث بما هي عليه من «ثراء» الوقائع، وإمداد التفاصيل الظاهرة والخفية؟
إنَّ المسألة ليست تخص المحللين السياسين، ولا المؤرخين لوقائع الأحداث، ولا المفكرين في مثالية القيَم، وأخلاقيات الاختلاف، إنَّ المسألة تكوين رؤى، ووضع قيم، وتصنيف مبادئ، ونقد آليات، وتحليل كوامن، والكشف عن خبايا، وعقد مقارنات، والخلوص برؤى ذات منظور يرتبط بواقع ووقائع أمم لها تأريخها، وحضارتها، وقيَمها، وأدوارها... المسألة تكمن في إيضاح حقائق، وبلورة مفاهيم وعلى وجه الخصوص لدى عامة المتلقين للأحداث كي يتمَّ فحص وتمحيص وتكوين المواقف بما يخدم «توطيد» الحقائق دون أن يذهب بهم الجهل، أو الحماس، أو عدم الفهم إلى إدراك ما ليس يمت للحقائق أو حتى يُقرها في شرعيتها...
وعلى وجه الخصوص هناك وسائل اتصال «قاهرة» التأثير يمكنها أن «تفسر» لمن يجهل كما يراد لها أن تفسر...، ولقد شهدنا الكثير من هذه المؤثرات في «لغة» الإعلام، ولغة الخطاب في فضائيات الأخبار في أحداث كثيرة، ذهب الناس «حماسةً» مع «مصطلحات» وظِّفت لغوياً للتأثير في عامة المتلقين لها... والمتلقين «لتفسيرها».
ومن حق المتلقي العربي المسلم أن يمتح كُتَّابه وذوو الأقلام من بني جلدته من الأنهار الممطرة في خارطة الأحداث وقد طفحت محابرهم منها وأن يكتبوا لهم بعيداً عن «التسطح» والأحاديث «الهامشية»، والأحلام الوردية، والقضايا «الثانوية»، وكأنَّ الناس لاتزال تمارس رغد الحياة، وليالي فيروز وأم كلثوم، وأيام «الخُضَرية» يبيعون الخضار في الأزقة والشوارع... يوم كانت الناس تقوم على الماء المبرَّد في الفخار... وتنام على قطع الشمام المبرَّد تحت القمر...
فها هي المحابر تطفو...
والأقلام مشرعة...
والناس في انتظار الكُتّاب ذوي المسؤولية ممّن ينبضون بما يحدث...
فالسؤال ليس: لماذا، ولمن تكتب... ولكن ماذا وكيف تكتب...
فإن لم تنبض بما يكون... فلا تكتب لمن يكونون.
|