كل شيء قابل للانفجار، ولا أرى محاولة جادة لجعل هذا العالم يبدو في صورة أفضل، كل المحاولات تنتهي بالفشل حتى أصبحنا نحتضر مع فان كوخ الذي صرخ في تلك اللحظات: لن ينتهي البؤس من هذا العالم».
كفى بالبشرية سقوطاً في مواقف متناقضة ولحظات مُرعبة تولد رغبة في الكائنات الحية أن تطير زرافات ووحداناً الى شمال الكرة الأرضية، وتتسارع في تهشيم رأس تمثال الحرية بمعاولها، لأنها حرية مزيفة على طريقتهم.. ثم تنتقل إلى الهيئات والمنظمات ولجان حقوق الإنسان وتبعثر أوراقها وتمزقها احتجاجاً على الأوضاع والطرق الملتوية في إدارة هذا العالم الذي أصبح فيه كل شيء معكوساً، شارون رجل سلام، والعرب إرهابيون..
حُق لنا أن نصرخ مع مجنون فولكنر في روايته «الصخب والعنف».. الذي كان بكاؤه وشهيقه المتواصلان يرمزان الى مأساة العالم من حوله المملوء بالحروب القذرة والمؤامرات المدمرة بعدما تجردت الحياة من كل القيم..
كل منّا قد يصاب بنوبة هياج تمر عليه ذات يوم، وهذا مقبول، أما أن تكون حياتك كلها مملوءة بنوبات هياج وعقد نفسية يدفع ثمنها الآخرون، فهذا غير مقبول وبخاصة إذا سقط القناع وأصبحت المأساة أكثر كثافة في سماء القرار العالمي المصاب بالتهاب في سحايا العقل، يهددون باستخدام الفيتو لدعم الإرهاب ويغضبون على أي متمدن في العالم يقف أمام المجازر والهولوكست في تحدٍ صريح لهدف الإنسان الأسمى من الحياة والحضارة، ويحاولون في كل تصرفاتهم المتشنجة أن يفرضوا على العالم حرباً كونية ثالثة حتى أشغلوا المبدعين عن البناء ومكافحة الجوع والجهل والأمراض الفتاكة وليتهم أدركوا قول فكتور هيجو «ليس لأحدنا حياة خاصة به» ذلك القول الذي يثبت أننا بحاجة في هذا العالم المتفجر كرهاً إلى الانطلاق بالنفوس من كهوف الانطواء والتخلف الى فضاءات المدن الفاضلة، نحلم ونبني ونستمتع بأكبر قدر من هذه الحياة القصيرة وأريجها الذي استبدله الساسة والجنرالات برائحة البارود.
كم هي كريهة تلك الحروب التي لا تتيح لنا النظر إلى بعضنا، تشغلنا عن التأمل في هذا الملكوت، ومسامرة ضوء القمر ومراقبة ألوان الغروب وأناشيد الربيع.. ورؤية الجثث المتفحمة والمقابر الجماعية. لقد صدق الكاتب الإنجليزي «أولدس هكسلي» في شعوره الذي أذهله التطور العلمي الحاصل بعد الثورة الفرنسية، فخاف على العالم من سيطرة العلم وتشويه الحياة عن طريق استخدام نظرياته في التدمير والهلاك والقضاء على الكائنات الحية جماعياً.. ودفعه شعوره الى تأليف «العالم الطريف»، يطلب فيه من الكائنات العودة الى الطبيعة وتسخير العلم في خدمة الإنسان وتسخير الإنسان في خدمة العلم النافع من أجل بناء العالم الأخضر الذي مَجَّدَهُ في قصته «الجزيرة».. لقد تَحَقّق ما خاف منه هكسلي!!!
وصدق الكاتب البلغاري «فيجينوف» أيضاً في روايته «ليلاً على صهوات الجياد البيض» عندما دعا الى التغلب على التجزئة والسعي الى تحقيق عالم يؤمن بوحدة التجربة الإنسانية، لأن هذا الكوكب الأرضي أصبح ضيقاً لايتسع للمحاربين والطغاة والسفاحين الذين يفضلون العيش في ضمائرهم المظلمة.
لقد كانت الفروسية في السابق دليلاً على الشهامة والرجولة، تؤمن في العفو وفك الأسير وإطعام الجائع وستر العاري وعلاج المريض من خلال صفات شخصية يتميز بها فارس عن آخر.. أما الآن فالسفاحون أفسدوا كل معنى جميل للفروسية، يفكرون بالسحق والتدمير وهدم حضارات الأمم التي تجاوزت آلاف السنين، يريدون أن ينقرضوا وينقرض معهم هذا الكوكب في تصرف لا يتجاوز أكثر من ضغط زر تفننوا في لونه المؤلم إيماناً منهم بتشويه الألوان أيضاً فهل لإنسان الألفية الثالثة مستقبل مشرق؟
أجاب الفيلسوف البريطاني «برتراند رسل» الحائز على جائزة نوبل للآداب قائلاً: نعم، عند إقامة نظام عالمي يحقق العدالة والحرية للشعوب في اختيار اسلوبها الحضاري الملائم لها..
أيها الفيلسوف: هل تعرف لماذا تأخرت الشعوب في بناء مدنها الفاضلة بالقيم والكرامة التي تراها؟ لأنها شُغلت عن ذلك بسبب الآخرين، فالقضية الكبرى التي تمثل أكْبَر المعوقات أن الطارئين على الحضارة يتدخلون في مصير الشعوب ودينها وثوابتها وأخلاقها، ويجبرونها على تغيير ذلك عن طريق حربهم بالمنظمات التي في ظاهرة الإنسانية وفي باطنها الخراب والدمار ولا أدلَّ على ذلك من صندوق النقد الدولي ولجان حقوق الإنسان وهيئات العالم ومنظمة الغات وغيرها..
إنهم يَتَقَزَّمون أمام ملحمة «كلكامش»، أول عمل من أعمال اليوتوبيا في التاريخ يوم اكتشف «أتوبنشتم» نوح السومري مرتاحاً على ظهره في مكان لا يسمع فيه نعيق الغراب وصرخة طائر الموت حيث الأسد لا يفترس أحداً والذئب لا يمزق الحملان، والحمامة لاتنوح، وليس ثمة أرملة ولا مرض ولا شيخوخة ولا عويل ولا بكاء..
إن السبب غياب الفهم، تلك الصفة التي قال عنها أبو قراط إنها أسمى الفضائل، لأنها تجنب الإنسان الألم.
فما السر الذي جعل الإنسان الحجري يبحث عن مواطن الجمال، فيزين كهفه بالنقوش الجميلة في حين أن إنسان القرن العشرين بحروبه الفتاكة، يدمر كل مواطن الجمال بإرادته مؤكداً أن الجاهل والمتبلد الشعور أكثر الناس قساوة، لأنه مستعد لعمل أي فعل شنيع بطريقته البليدة.. فياليته أدرك قول هنري: «إن أعظم لغز في الحياة هو الجمال، فهو سلطان لا يُقاوم».
فلا عجب أن تتفق الثقافات الإنسانية المشرقة على ضرورة مبادئ العدالة والحرية منذ حمورابي إلى هذا اليوم، ثم يأتي هؤلاء الساسة الذين يَدَّعون العلم والمعرفة والنظريات العلمية والاستراتيجية والعسكرية ويمزقون كل البروتوكولات والاتفاقات، ويُبَدّدون جهود النبلاء في فرض عالم ديمقراطي حر، مرة يوقعون، ومرات ينسحبون، ونحن نراقبهم وننتظر في كل مرة انتهاء هذا العالم على أيديهم..
مالهم مسكونون بهاجس السيطرة وشريعة الغاب التي تؤمن بالبطش والقوة المزيفة، يرتكبون الآثام ولا يحفلون بنتائجها وكأنهم الطاووس الذي يشغله حسن ذيله عن نجاته..
نحن نؤمن باختلاف الناس في مشاربهم، ولكن نؤمن بأن يكون هذا الاختلاف مسخاً للإنسانية المشتركة بين أجزاء العالم وسبباً لتحويل الحياة إلى عبث يتمثل فيهم كما تمثل في «سيزيفوس»، ذلك الإنسان الفاشل الذي وضعته الظروف بين خيارين: الأول يدفعه نحو الأسفل والسقوط ،والآخر نحو الأعلى، ولم يفلح في إيصال الحجر إلى تلك القمة، ونسي من غبائه أن قمة الجبل مليئة بالأحجار..
يرى قدماء اليونانيين في العلم قوة مدمرة، ويرى علماء القرن التاسع عشر في العلم قوة وتنمية وأخرى مدمرة في آنٍ واحد، وبكل أسف يرى علماء اليوم ان القوة العلمية هي التي تحقق السيطرة على الشعوب، في عملية تشويه للقوة التي هي في أبسط تعريف لها: قدرتك على ضبط النفس قبل ضبط الآخرين، لأن كل قوة تحتاج إلى سيطرة ووعي وإدراك، وكلَّما ازداد الإنسان جهلاً ازداد إعجاباً بنفسه، وإذا تم العقل نقص الكلام..
وليتهم عرفوا الرؤية الرائدة في مسرحية عالم الطبيعيات للكاتب دورينما، التي نجد فيها ثلاثة رجال في مستشفى المجانين: أحدهم عالم الطبيعيات الذي توصل إلى اختراع ذي قدرة هائلة في التدمير، فادّعى الجنون ليتخلص من تسليمه للسلطة الغاشمة، والآخرَيْن من رجال المخابرات يدّعيان الجنون أيضاً ليتخلصا من مراقبة ذلك العالم، ولكنه أفشى بسر الاختراع الى الممرضة التي تعالجه، وبطريقتها سلمت الاختراع للسلطة، ثم تكتشف هول جريمتها وتدخل المستشفى لتصبح المجنونة الوحيدة بين هؤلاء الثلاثة.
نعم الجنون هنا يختلف عن جنون هتلر وستالين وشارون وتلاميذهم، يختلف عن جنون نيرون الذي أحرق روما من أجل معزوفة موسيقية، يختلف عن جنون الطيار الامريكي الذي ألقى القنبلة النووية على مدينة هيروشيما اليابانية.. جنون عالم الطبيعيات حنين إلى الحرية كما قال د. استيفان بانديك.
إن أوجع شيء على الإنسان ألاّيرى في صورة غده بارقة أمل أو هدفاً يسعى إليه، بل إن يأس الإنسان يشتد عندما يلتفت الى الوراء فلا يجد غير سلسلة من الكوارث والهزائم ليكتشف من خلالها استحالة بناء العالم بالشكل الذي يريد ما دام اللحم البشري رخيصاً، وما ذلك الذباب الذي يحوم على تلك الجثث تحت الأنقاض إلا تعبير عن الخيبة والمرارة تماماً كما صور ذلك سارتر في مسرحية «الذباب» ومن أجل الشعور بالندم منعت القوات الألمانية عرض تلك المسرحية في باريس، لأنها كفيلة برفع درجة الوعي الشعبي في زمن الهزيمة بخيبة الأوسمة التي أثقلت الجنرالات عن الحركة، والتي يصدق عليها قول الكاتب الإنجليزي عن المؤرخ «جيبون» الذي كتب عن سقوط الحضارة الرومانية، إن إسلوب جيبون يضيف سقوطاً آخر إلى سقوط الرومان، هو سقوط الحضارة التي ينتمي إليها جيبون..
حَقاً كلٌّ منا يمثل أبا عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس الذي بكى كالنساء ملكاً لم يحافظ عليه كالرجال، والأدهى ان الليل مملوء بنجوم سداسية تثير الرعب وليست علامة ولا هداية، ولم يكتف المجرمون بسلخنا في ثنايا الليل، بل انتظروا حتى أشرقت الشمس ليتم ذبحنا وتشريدنا أمام مرأى العالم ومسمعه في زمن الطحالب الآسنة الذي أسرجت فيه الكلاب وصهلت فيه الفئران، ثم يخرج علينا رئيس الدولة المسؤولة عن السلم والأمن العالميين ويؤيد تصرفات شارون ويصفه بأنه رجل السلام.. فلماذا كل هذا يا فخامة الرئيس؟
إن الولايات المتحدة الأمريكية تفتخر بديمقراطيتها، وتفتخر بأن فرق الأصوات بينك وبين المرشح الآخر لا يتجاوز خمسمائة صوت في بلد عدد سكانه مائتان وخمسون مليون نسمة.. وحق لها ذلك!!!
وهذا يجعلنا نزداد عجباً يمتد من مجزرة دير ياسين الى مجزرة جنين ونابلس مروراً بمجازر عدة على يد عصابات صهيونية وكأنها تتسابق من أجل الحصول على المركز الأول في ارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية على مر تاريخها الطويل.. انطلاقاً من عقلية تلمودية تؤمن بأنهم شعب الله المختار وأن «يهوا» أباح لهم التصرف في بني البشر الآخرين الذين خلقوا لخدمة هذا الشعب الذي يحترف الإبادة.. إنهم باختصار سجل لاينتهي يا فخامة الرئيس.
* الإمارات العربية المتحدة رأس الخيمة
|