* خدمة الجزيرة الصحفية روبرت فيسك
كثيراً ما سافرت إلى الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، لإلقاء المحاضرات في جامعات برنستون أو هارفارد أو براون في رود آيلاند وسان فرانسيسكو أوماديسون في وسكونسين، ويعلم الله لماذا كنت أرفض أن يدفع لي أجرا مقابل تلك المحاضرات، وكل ما كنت أحصل عليه هو فقط رحلة بالطائرة مع العودة في درجة رجال الأعمال من بيروت، لأنني لا أستطيع احتمال 14 ساعة من صراخ الأطفال في كل اتجاه، كان هناك متآمرو مركز التجارة العالمي الذين أصروا على أن حكومة الولايات المتحدة كانت قد زرعت المتفجرات في البرجين التوأمين.، الرجل ذو النظارات بشعره الطويل الأبيض بتسريحة ذيل الفرس الذي أسكته قبل أن يعلن أن الحرب الفلسطينية الإسرائيلية كانت نسخة عن الحرب الأمريكية المكسيكية التي حرمت شعبه من لوس انجيليس، وبدأت أحسب المسافة بين لوس أنجيليس وجنين.
كما كانت هناك القصص الصغيرة التي تشير إلى المدى الذي وصلت إليه الصحافة الأمريكية من تحيز وخسة بدت على جماعات الضغط الإسرائيلية في أمريكا، «أنا كتبت تقريرا لصحيفة مهمة عن خروج الفلسطينيين في العام 1948 «أخبرتني سيدة يهودية ونحن نمضي في السيارة عبر الضباب الدخاني في وسط مدينة لوس أنجيليس» ، وبالطبع فإنني ذكرت مجزرة دير ياسين التي ارتكبتها عصابة شتيرن والجماعات اليهودية الأخرى المجزرة التي ذهب ضحيتها 750 ألف عربي لكي يرحلوا عن منازلهم، ثم بحثت عن مقالي في الصحيفة وماذا وجدت؟ وجدت أن كلمة «المزعومة» قد وضعت قبل كلمة «مجزرة» ، فاستدعيت المحرر في الصحيفة وأخبرته عن أن مجزرة دير ياسين كانت حقيقة تاريخية.
قال إن المحرر كتب كلمة «المزعومة» قبل كلمة مجزرة لأنه اعتقد أنه بهذه الطريقة سوف يتجنب كثيرا من رسائل الانتقاد» .
بالصدفة كان ذلك موضوع حديثي ومحاضرتي: الطريقة الجبانة التافهة التي يكتب بها الصحفيون الأمريكيون مقالاتهم عن الشرق الأوسط، وكيف أن «الأراضي المحتلة» قد أصبحت «مناطق متنازع عليها» في تقاريرهم.
وكيف أن «المستوطنات» اليهودية قد تحولت إلى «أحياء» يهودية.
وكيف أن المناضلين العرب قد تحولوا إلى «إرهابيين» ، ولكنَّ المقاتلين الإسرائيليين هم مجرد «متعصبين» أو «متطرفين».
وكيف أن ارييل شارون الرجل الذي اعتبر «مسؤولا في صورة شخصية» من جانب لجنة إسرائيلية لتقصي الحقائق عن مجازر صبرا وشاتيلا في العام 1982 والتي ذهب ضحيتها 1700 فلسطيني، أمكن لصحيفة نيويورك تايمز وصفه بأنه يتمتع بغريزة المقاتل.
وكيف أن إعدام المقاتلين الفلسطينيين الناجين يوصف عادة بأنه «تطهير» .
وكيف أن المدنيين الذين يقتلون على أيدي الجنود الإسرائيليين كانوا يوصفون بأنهم «وقعوا في مرمى تبادل رصاص الجانبين» .
وقد طلبت أن أعرف من جمهوري وتوقعت السخط الأمريكي المعتاد حين فعلت وكيف يمكن للمدنيين الأمريكيين أن يقبلوا سياسات صبيانية مثل «حيا أو ميتا» و «معنا أو ضدنا» أو «محور الشر» من رئيسهم.
وللمرة الأولى خلال عقد من المحاضرات في الولايات المتحدة شعرت بالصدمة، ليس بسبب سلبية الأمريكيين الفكرة الوطنية المقبولة من الجميع بأن الرئيس يعرف أفضل ولا بسبب الاستيعاب الذاتي الخطير للولايات المتحدة منذ الحادي عشر من سبتمبر والخوف الدائم الذي يسري على الجميع من انتقاد إسرائيل.
ما أصابني بالصدمة هو الرفض الأمريكي الجديد وغير العادي للموافقة المطلقة على الخط الرسمي، والوعي المتنامي بين الأمريكيين بأنهم كانوا قد خدعوا وضللوا، وفي بعض أحاديثي، كان نحو 60 في المئة فوق الأربعين من العمر، وفي بعض الحالات، ربما كان نحو 80 في المئة من الأمريكيين الذين لا يعودون إلى أصول عرقية أو دينية شرق أوسطية «الأمريكيين الأمريكيين» كما أشرت إليهم بقسوة في إحدى المناسبات، أو«الأمريكيين البيض» كما دعاهم مرة طالب فلسطيني في صورة أكثر قسوة، وللمرة الأولى لم تكن محاضراتي هي التي اعترضوا عليها، بل المحاضرات التي ألقاها عليهم رئيسهم والمحاضرات التي قرءوها في صحافتهم عن «الحرب على الإرهاب» التي تشنها إسرائيل والحاجة الدائمة ومن دون أي وازع نقدي لدعم أي شيء يقوله أ ويفعله الحليف الصغير للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط.كان هناك مثلا، ضابط البحرية السابق ذو الوجه المتجعد، الذي اقترب مني بعد حديث في كنيسة في ضاحية إنسنيتاس القريبة من سان دييغو حيث قال: «لقد كنت ضابطا على حاملة الطائرات جون كينيدي خلال حرب 1973 في الشرق الأوسط، كنا في جبل طارق وكانت مهمتنا أن نعيد تزويد الطائرات المقاتلة التي كنا نرسلها إلى إسرائيل بالوقود بعد أن كان العرب قد دمروا قوتهم الجوية، كانت طائراتنا تهبط وهي تحمل شعار القوات الجوية الأمريكية وعلامة البحرية، وكانت مخططة جزئيا ونجمة داود مرسومة على جانبها، هل يعرف أي كان لماذا أعطينا الإسرائيليين كل هذه الطائرات بهذه البساطة؟ حين أرى على شاشة التلفزيون طائراتنا ودباباتنا تستخدم للهجوم على الفلسطينيين، أفهم لماذا يكره العرب الأمريكيين» .
اعتدت وأنا في الولايات المتحدة على أن أحاضر في قاعات نصف فارغة، ومنذ ثلاث سنوات تمكنت من ملء قاعة في واشنطن تستوعب نحو 600 كرسي كان بينهم فقط 36 أمريكيا، ولكن في المحاضرات التي ألقيتها في شيكاغو وأيوا ولوس أنجليس أخيرا، جاءوا بالمئات نحو 900 في شارع واحد في جامعة ساوث كاليفورنيا وقد جلسوا في الممرات خارج الأبواب، لم يكن ذلك بسبب وجود اللورد فيسك في المدينة، وربما كان عنوان حديثي «الحادي عشر من سبتمبر»: سل عمن فعلها ولكن لا تسل لماذا» استفزازيا، وبالنسبة لمعظمهم فإنهم أتوا كما أظهرت الأسئلة والأجوبة بسرعة، لأنهم كانوا قد سئموا أن يستغفلوا من جانب شبكات الأخبار التلفزيونية والنخبة الإعلامية اليمينية، لم يحدث من قبل أن سألني أمريكيون «كيف يمكننا أن نجعل صحافتنا تكتب تقاريرعادلة عن الشرق الأوسط» ؟ أو في صورة أكثر إزعاجا كيف يمكننا أن نجعل حكومتنا تعكس آراءنا؟ الأسئلة مصائد بالطبع، فقد كان البريطانيون يسدون النصح للأمريكيين منذ خسرنا حرب الاستقلال، وأنا لم أكن هناك للانضمام إلى صفوفهم.
ولكن حقيقة أن هذه الأسئلة التي يمكن أن تسئل عادة من جانب أمريكيين متوسطي العمر لا ينتمون في أصولهم إلى الشرق الأوسط أشارت إلى وجود تغير عميق في وسط سكان كانوا حتى اليوم طيعين، قرب نهاية كل حديث، كنت أعتذر عن الملاحظات التي كنت على وشك الإدلاء بها، وقد أخبرت الجمهور بأن العالم قد تغير بعد الحادي عشر من سبتمبر، وأن الفلسطينيين واللبنانيين قد خسروا 17 ألف قتيل في غزو العام 1982، أي خمسة أضعاف القتلى الذين سقطوا في الجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبت في الحادي عشر من سبتمبر ولكن العالم لم يتغير حقا قبل 20 سنة، وفي كل مرة كنت أقول مثل هذا الكلام، كان هناك هز للرؤوس يشترك فيه ذوو الشعر الفضي والصلع والشبان على حد سواء في أرجاء القاعة كافة.
وكانت النكتة الصغيرة غير المحتشمة عن الرئيس بوش قابل بقهقهات، وقد سألت إحدى مضيفاتي عن سر ما يحدث ولماذا قبل الجمهورذلك من بريطاني، فأجابت «لأننا لا نعتقد أن بوش قد فاز في الانتخابات» .
وبالطبع فإن من السهل أن تتعرض للاستغفال، وقد شرحت أول إذاعة محلية في صورة جيدة كيف يتم تناول الخطاب الشرق أوسطي في أمريكا، حين فتح جايان طوروسيان محطته للأسئلة في مدينة أيوا أصر شخص يدعى «مايكل» وهو زعيم جمعية يهودية محلية، علمت فيما بعد على الرغم من أنه لم يقل ذلك على الهواء على أنه في أعقاب محادثات كامب ديفيد عام 2000 تحول ياسر عرفات إلى «إرهابي» على الرغم من أنه تلقى عرضا بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس و 96 في المئة من أراضي الضفة الغربية وغزة، وشيئا فشيئا وعمدا كان علي أن أفكك هذا الهراء.
ففي كامب ديفيد كانت القدس مطروحة باعتبارها «العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل» ، لقد عرض على عرفات نحو 46 في المئة من ال22 في المئة مما بقي من فلسطين.
وكان في إمكاني تصور جمهور الإذاعة وهو يسقط تدريجيا من مقاعده فريسة الملل، ولكن لدى عودتي إلى فندقي الشعبي ذي الجدران الخشبية، وكان صاحب الفندق وزوجته وهما متطوعان في القوات «بي» في منطقة كينيدي قد استمعا إلى كل كلمة.
قال صاحب الفندق «نعرف ما يجري فقد كنت ضابطا في البحرية في الخليج في الستينات، ولم يكن لدينا سوى بعض السفن هناك، في تلك الأيام كان شاه إيران هو شرطينا، واليوم لدينا هناك كل تلك السفن، ويبدو أننا نسيطر على المكان، «إن أسامة بن لادن، قلت لنفسي، قد فعل الشيء المناسب» ، وتأملت في غرابة أن الصحف الأمريكية نادرا ما تقول حتى هذا.وقد حملت التقارير التي كتبت عن محاضراتي مثل العناوين التالية: «فيسك: من هم الإرهابيون حقا؟» الذي نشرته الديلي إيوان أمسك على الأقل بجوهرالرسالة.
وتضمن الأمثال التي ذكرتها عن تحيز الصحافة الأمريكية في الشرق الأوسط، وذلك على الرغم من فشلها بالنسبة للحقائق، والتي أسيء نقلها بحيث أصبحت الأمم المتحدة (وليس لجنة كاهان ما يجعلها أكثر تحريضا)، هي التي استنتجت بأن شارون كان «مسؤولا شخصيا» عن مجازر صبرا وشاتيلا. وكان التقييم الذي خرجت به صحيفة «دي موان ريجستر» لحديثي مخادعا، فقد ركزت على مقابلاتي مع أسامة بن لادن التي كنت أشرت إليها في محاضراتي بالتأكيد ثم أشارت إلى تقييمي كيف أن جمهورا أفغانيا ضربني، وكنت قد أبلغت الحضور الأمريكيين بأن الأفغان كانوا غاضبين من قصف الولايات المتحدة الذي قتل لتوه أقاربهم حول قندهار ومدى أهمية تضمين هذه الحقيقة في تقريري الصحفي الخاص حول الصراع لتقديم السياق والسبب الذي جعل الأفغان يهاجمونني، وقد استخدمت صحيفة ريجستر كلماتي لوصف الهجوم ولكنها لم تذكر الأسباب، عاشت صحيفة «أيوا سيتيبرس ستيزن، قلت في نفسي، التي كان عنوانها «مراسل الشرق الأوسط يصفع الإعلام» وصلت الفكرة، ليست القضية في أن سكان أيوا لهم أي عذر لأن يجهلوا ما يجري في الشرق الأوسط، ففي بلدة ديفنبورت الصغيرة، تدرب الإسرائيليون على نظام مروحيات الأباتشيAH64 الهجومية التي يستخدمها الجيش في اغتيال الفلسطينيين المدرجين على قائمة المطلوبين لإسرائيل، وبحسب صحفي محلي فإن العديد من الشركات في أيوا، بمن في ذلك المكتب الإقليمي لشركة «روكويلل» وقعت عقودا عسكرية تساوي قيمتها الملايين من الدولارات مع إسرائيل، وتزود شركة سيمنت تك من إنديانولا القوات الجوية الإسرائيلية بالمعدات، وفي اليوم الذي وصلت فيه إلى مدينة أيوا كانجون اشكروفت، المدعي العام الأمريكي يخبر سكان أيوا بأن مئات من الأجانب «من بلدان تعرف بإيوائها للإرهابيين» قد استجوبوا في الولاية، ونحو مئة آخرين قد «تجري مقابلتهم» قريبا، ولم تكن هناك تعليقات صحفية على ذلك، لذا فإن الفصول الدراسية في جامعة أيوا كانت ممتلئة، وقد بدأت شابة بإعلان أنها تعرف أن الإعلام الأمريكي متحيز، وحين سألت لماذا قالت «إن لذلك علاقة بالدعم الذي تقدمة أمريكا لإسرائيل.» .، وعندها احمر وجهها وصمتت، ولكن الطالب في أحد فصول الدراسات العالمية في ريكس هوني فعل العكس، فبعد أن أوجزت الفخ العسكري الذي اقتيد إليه الأمريكيون في أفغانستان فإن «النصر» المفترض الذي أعقبه اشتباك مع القاعدة ثم المعارك الحتمية بعد ذلك، مع أمراء الحرب الأفغان وهجمات القناصة على القوات الغربية رفع يده، «إذن فكيف نهزمهم؟ «سألني، «ولماذا «نهزم» الأفغان» سألت؟ «ولماذا لا نساعدهم على بناء أرض جديدة؟»، وجاءني الطالب فيما بعد ممدود اليدين، «أريد أشكرك، على ما أخبرتنا به «قال، كان لدي شك في أنه كان عسكريا، هل تخطط للالتحاق بالجيش، سألته «لا يا سيدي» أجاب، «أريد أن ألتحق بالبحرية»، ونصحته بأن يبقى بعيدا عن أفغانستان، وبطريقتها الخاصة، كانت الصحافة القومية الأمريكية تفعل الشيء نفسه، وبعد يومين، كتبت صحيفة لوس أنجليس تايمز، في رسالة خاصة من مراسلها ديفيد زوكينو، عن المرارة والغضب بين الأفغان الذين قتلت عائلاتهم في قصف طائرات «بي 52» الأمريكية، فقط لو كانت الفظاظة نفسها تنطبق على الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، ولكن كلا، ففي الطريق السريع على طول لونغ بيتش فتحت صحيفة لوس أنجيليس تايمز لأعرف أن إسرائيل «تقوم بعملية تطهير في الضفة الغربية»، فيما كان كاتب العمود في مونا تشارين يخبر القراء في صحف أخرى بأن «98 في المئة من الفلسطينيين لم يكونوا يعيشون تحت الاحتلال منذ انسحبت إسرائيل بموجب اتفاقات أوسلو «وبأن رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت إيهود باراك، عرض 97 في المئة من الضفة الغربية وغزة»، وكان هذا أكثر بواحد في المئة مما قاله مايكل في الإذاعة المشار إليها سابقا، عرفات «هذا القاتل الذي يتحمل مسؤولية قتل آلاف العرب واليهود» هو الذي يقع عليه اللوم، القضية بين إسرائيل وجيرانها.
(*) صحفي عن: «الاندبندنت » البريطانية |