النص الأول:
«وحدها الأوهام يا غزالة حلم هذا العناء في الخروج من عنق زجاجة فيضة الرعد في قرية لا تربي سوى السراب.. من قال ان السراب فاتن.. هو طقس يشبه الكذبة الطويلة، تلك التي تستر عيوب الكاذبين» «ص 80».
النص الثاني:
«غزالة والفيضة اسمان يطلان على ذاكرة جبال النحية، ليقتسما معا لقمة العناء، الفيضة تعيش منذ قرون عناء البحث عن هويتها، وهي المرأة التي تبحث لأحلامها عن ملاذ. «ص 155».
المدخل المأزوم:
في اللوحة الأولى أو الفصل الأول يدخلنا الشمري الى نهاية الرواية، حيث بنية الحطاب السردي المأزوم على مستوى شخصياته وتساؤلاته ولغته، وزمكانيته.. فكان عنوان الفصل دالاً: «الجبل الذي تراه يهتز من المؤكد انه يوحي بحجم المعضلة» «ص 5» وحجم المعضلة كما يبدو هو «البركان» في أعلى درجاته الواقعية والنفسية!!
هذه الأزمة تتمثل في الشخصية الأولى «غزالة» المشلولة، رمز الجبل، والحياة، والحلم، والضحية، والمحرض.. يقول عنها الراوي العليم المحايد: «غزالة» حلمنا.. انها المرأة المسكونة بالرغبة في بدء حلمها. المرأة المحرضة، والشرسة.. تلك التي لا تحب الظلم. إلا انها لم تكن أقوى من ظروف وزمن «حدران الكيس» المليء بالحيل والدسائس والوقائع.. «ص 8».
فخصوبة غزالة الحلم في بنية السرد يقابلها قفر واقع «حدران الكيس» الرمز النقيض، فهو الناهق النابح باسم النظام والانضباط، وهو المتنصل المارق، وجراح الهزيمة، والرؤية المظلمة، وأعداء السلام، والجبل الذي يخنق الأنفاس.
وإن مثلت غزالة جبلا مهتزا بحلم التغيير بطريقة او بأخرى، فإنها كما يرى الآخرون المتنصلون «ناطحت جبلاً» عندما راهنت على معجزات النصر في توعدها لطغاة «فيضة الرعد»، وعلى رأسهم حدران الكيس مستعبد القرية.
من هنا تمثل «فيضة الرعد» معادلا موضوعيا لغزالة الأنثى، فالفيضة أرض تحتضن المتناقضات المتمثلة بواقع السرب والموت وحلم التغيير الخافت الذي تمثله «غزالة الملاحي» العاقلة وآخرون غير واضحين. اما حدران الكيس فهو رمز واضح للشر، فمن خلال هذا التناقض قدم الشمري تنويعات للصراع بين الخير والشر.
والسؤال البارز في اللوحة الأولى:
من كسر غزالة؟ هل هم أهل الخفاء الأشرار؟ أم أهل فيضة الرعد الخبثاء؟ ثم تجيب الرواية عن السؤال، فتؤكد ان الشر من فيضة الرعد التي يرسمها قلم الشمري عارية عن الحياة والخير، على نحو قوله: «الفيضة المتاهة، الوهاد القاسية، شراسة الطباع، مفازة مهلكة، بر فاجع، وجحيم لا يطاق.. أرض لا تلد إلا المشوهين، ولا يحفظ أهلها إلا قصص الموت.. «ص 154».
üüü
انطلاقا من الزمن الحاضر، الزمن الكسيح في حياة غزالة، ينتقل الروائي في الفصل الثاني الى الزمن الماضي الى اللحظة التي يحتفل فيها أهل قريتي «فيضة الرعد» و«البقاع» بزفاف غزالة في العشرين من عمرها، على «فتال الحبال». إذ برز في الفصل السابق صوت الراوي، قائلاً: عد بنا الى الوراء، لنقرأ مظهر تلك القشة التي تتعلَّق بالغريق الفرح بالنهاية.. هي فرصة أن ننصت للحديث الذي يروي ماضي هذه الأنثى.. حلم الفيضيين جميعاً «ص 11».. فكان الفصل الثاني من خلال لحظة الزواج، وكان الاجدر ان يترك القاص هذه اللحظة تتحرك في دماغ «غزالة» المشلولة، ليبدو مثل هذا المونولوج الحي وسيلة من وسائل تدفق الحياة في الساكن.
يلتفت الروائي في هذه اللوحة او الفصل الى المكان الذي تراه غزالة وهي تحمل من بيت أهلها الى بيت زوجها، فيرينا مكانا بائساً، على الوجه الأعم، «القرى البائسة تتناثر كغيم لا يحمل غيثا، وحدها صفوف قامات الاثل ذلك الذي يشير الى أن هنا او هناك في هذه السهوب من يعيش لمجرد العيش، ولرغبة قوية في مقارعة الفناء ومقاومة الانقراض، لا غذاء يكفي، لا كساء، لا صوت يصل الى مداه.. ها هم وفي أعلى الهموم يعاشرون زوجاتهم ليلدن أشباههم، حياتهم فراغ، وجودهم غير ضروري على الاطلاق، شيء مضحك مبك، هؤلاء لا يكفون عن التهكم بالنور والجوالين، بل انهم في هذه القرى المسحوقة يفوقون في رثاثتهم وعذابهم أعتى الدراويش والفارغين. «ص 18».
وقد قابل هذا البيان في تصوير المكان وأشيائه بما فيها الإنسان التوهج والحياة في جسد غزالة وشخصيتها، فهي البعد الأسطوري للخصب الحي في حالة الزواج، ثم للخصب الميت في حالة الشلل.
وقد كسر الشمري تقنية الرواية التقليدية من الناحية الشكلية عندما جعل لوحة نهاية الرواية بدايتها، لأن اللوحة الثانية هي البداية الفعلية للرواية، أي ان البداية تتمثل في لحظة الزفاف قبل عشرين عاماً، تتوجت بنهاية المرض او الشلل على اعتبار ان الرواية سيرة غير مباشرة لشخصية غزالة. وبذلك تغدو لوحات الرواية التالية للوحتين الأولى والثانية تعبيرا عن هذا الزمن الممتد ما بين واقعتي التوهج المتمثل في الزواج، والفناء المتمثل في المرض المشابه للموت.
üüü
الحكاية
يقدّم عبدالحفيظ الشمري الحكاية السوداء لكل من المرأة غزالة، والقرية فيضة الرعد، ومن خلال هذه العلاقة الأنثوية المسكونة بالجسد المتوهج للحياة تتكاتف عوامل كثيرة لتنقض على الأنثيين معا المرأة والقرية، فتغدو المرأة الجميلة الحية الحالمة بالحياة حالة مرضية مشلولة، وتغدو فيضة الرعد التي تعاقب عليها الطغاة مجرد لعنة حافلة بالمصائب والكوارث، عندما تحولت الحياة المشوهة الى «حدران الكيس» الرمز الذكوري المهيمن ورمز الشر المشكل للعنة السرد، على اعتبار ان الرجال هم سبب المصائب للفيضة وللنساء فيها.
يقول الراوي عن المرأة والقرية: «وحدها غزالة هي التي كفت عن فقدان الواقع الماثل إذ أصبحت كحال فيضة الرعد، بلا لسان.. لا فرق ان تحضر او تغيب، ان تموت او تحيا، وحدها الحياة هنا هي التي تزلفت الي حدران، لتجعله على هذا النحو من التعاظم والغلو والأموال والثراء الفاحش» «ص 210».
وإذا استطاع عبدالحفيظ الشمري ان يقنعنا بمأساة فيضة الرعد المنبعثة من سكانها اولاً ثم من الظروف الطبيعية التي تحياها ثانياً، فإنه في المقابل قدم سيرة درامية تبدو غير مقنعة عن شخصية المرأة غزالة، بحيث لم تكن هذه الشخصية في مستوى معاناة القرية، بمعنى انه انجز مأساة القرية على حساب مأساة المرأة، لذلك تستحق فيضة الرعد ان تكون البطل، لا غزالة.
يضاف الى ذلك ان غزالة نفسها لم تكن في المستوى الحقيقي للمواجهة، من خلال التوقع بفاعلية وعيها وثقافتها واصرارها على المواجهة، لأنها بدت في السرد كما يتهيأ لي، مؤثراً جمالياً، أي انها اثرت من خلال جمالها على الآخرين، بوصفها امرأة مختلفة، او غريبة جاءت من قرية «البقاع»، ثم نجدها قد سعت او أنها وافقت بسهولة على ان ترحل من فيضة الرعد الى مدينة السدود، ثم خيب زوجها «فتال الحبال» هذا الطموح، ليغدو عديم الأخلاق، أي انها لم تتمكن من اصلاح زوجها، فكيف تستطيع ان تدافع عن حقوق الآخرين في القرية في مواجهة مؤامرات «حدران الكيس» الذي يستغل القرية ويذلها، بل هو السبب في الكثير من الهزائم والمؤامرات التي اوصلت غزالة الى ما هي فيه من الشلل المشابه للموت!!.
الرواية على العموم مجموعة كبيرة من الحكايات والقصص القصيرة، المتداخلة بعضها مع بعض، لتنتج بالتالي بنية سردية متماسكة من خلال روابط حكائية متوازية ومتداخلة ابطالها القرية اولا بوصفها المكان الرئيس في الرواية، ثم الزمن الذي يمتد على طول عشرين عاماً، موضحا من خلال اختزالات كثيرة، وتواريخ متعددة، فعلى ضوء التماسك، وان شئت التلاحم، في اللغة، والزمن، والمكان بدت حكايات الرواية المتناثرة منسجمة في حركة تصاعدية رغم تناثرها، لأن السرد الجيد هو ما ينوع نفسه في تصاعد درامي، يكسر الانغلاق على حكاية احادية او حشو يعطل السرد..
من هنا يمكن ان نشير الى الف حكاية على الأقل في هذه الرواية، ومع ذلك تبرز من بين الحكايات الكثيرة، الحكايات التالية:
حكاية غزالة الضحية، حكاية فتال المتسيب، حكاية حدران الظالم، حكاية شليش المزواج، حكاية أمين الشبق، حكاية السدرة الضحية، حكاية الشارع الاسفلتي، حكاية الصيف في الفيضة، حكاية الشتاء في الفيضة، حكاية زيد الملاحي، حكاية ابن دايش الدجال، حكاية ابن شملان المجنون، حكاية سلومة العريجي، حكاية مجزرة الكلاب والحمير، حكاية سرقة الأغنام، حكاية الرعاة، حكاية الجن.. حكاية كثيرة ينتج من خلالها الشمري عالما سرديا يستحق ان نسميه كابوساً، او ان شئت قل سرابا كما يتضح من عنوان هذه المقاربة!!
üüü
الشخصية:
يتكئ عبدالحفيظ الشمري في بناء شخصياته على عاملين:
الأول: التغريب في نحت الأسماء، إذ ينتمي الاسم عنده الى بنية لغوية غريبة نسبيا عن الواقع، وهذا يعود في ظني الى التخوف من تماس الخطاب السردي مع اسماء الواقع، وفي المقابل لا يعني هذا التغريب انفصال الاسم عن الدلالة الرمزية المتمركزة فيه، إذ يغلب على جل الاسماء علاقة قوية بالترميز الدلالي السلبي او الايجابي للاسم. وعلى العموم تحتاج اسماء الرواية الى قراءة خاصة تكشف عن جماليات التسمية ابتداء من العنوان «فيضة الرعد.. حاسمة الفناء. الفيئ الأول من ثنائية اظاليل طلح المنتهى».. ثم التدرج في تناول اسماء الشخصيات الكثيرة جدا على هذا العمل الروائي، حيث يلجأ الروائي احيانا الى تعداد أسماء لا ضرورة لها في بنية السرد، لأنها لا تقدم ولا تؤخر.. وانتهاء بتسميات فصول الرواية بعبارات سردية تكثف دلالات الخطاب السردي الممتلئ برؤية سردية للعالم من خلال فيضة الرعد التي تتحول الى رمز عام للقرية العربية ممثلة بالوطن العربي كله: «تتحول حياة أهل الفيضة الي مزيج من الخنوع والذل والخوف من المستقبل، والصمت والكبت الذي لا يلبث ان ينفس عنه ببعض الاعتراضات والرفض والمواجهة احياناً في بعض المجالس المسائية التي تنتهي غالباً بانتصار حدران وخروج الخصم مهزوماً». «ص 227».
حركية السرد:
تنامت حركية السرد في ثمانية عشر فصلاً تنامياً تصاعدياً، بدايته الفصل الثاني، ونهايته الفصل الأول كما ذكرت، وهذا التنامي ركَّز على السرد التتابعي والوصف، واحياناً على الحوار المحدود جداً. ولم تفقد بنية السرد عناصر التشويق والشد، لأن الروائي اتكأ على عوالم عديدة لإثارة المتابعة لنصه، منها، كما ذكرت تعددية الحكايات التي تساهم في التنوع الذي ينفي الرتابة، ومن ثم الملل، وكذلك اتكأ الشمري على الإثارة الذكية المتمثلة بلمحات الجنون، والخرافة.
وفي احيان كثيرة يواجهنا السارد بوجهه الشاعري المباشر، والذي يكشف عن وجه خطابي مباشر، لكنه خطاب يثير البحث عن الدلالة، وترقب التوقع على نحو قوله: «الحق يا سيدة الأمل «غزالة» أنك في مأزق المفارقة بين رغبة التغيير، وهواجس الرحيل، ففي الإقامة ذل ومهانة ومعاندة شرسة لا يقف معك احد من هؤلاء الذين تنتحرين من أجلهم. وفي الرحيل ذل وهزيمة وانكسار. انت على شفير الهاوية من أين لنا ولك الهدى والرشاد «ص 131».
اللغة السردية:
أنتج الشمري في روايته هذه، لغة متماسكة، وبنية سردية مكثفة رغم اتساعها، حيث يمكن القول: ان هذه الرواية تعد شبه خالية من الأخطاء الكبيرة، فلو تجاوزنا بعض الهنات في المفردة اللغوية، والتركيب الجزئي، فإن الرواية في مجملها توحي بخطاب سردي يشدك من خلال لغته القصصية، بعيداً عن الركاكة، والحشو، والتنافر، والسطحية.
اؤكد في النهاية على ان عبدالحفيظ الشمري قدَّم رواية المكان، لأن فيضة الرعد هي هذه الرواية، بغض النظر عن كونها موجودة في الواقع او متخيلة، فهي الفيضة الواقعية بكل ما تعنيه كلمة الواقعية من دلالات، وهي الفيضة الاسطورة بكل ما تعنيه الاسطورة ايضاً من دلالات.
تستحق «فيضة الرعد» ان تقرأ من خلال التناص مع رواية «عالم بلا خرائط» لجبرا ومنيف، ومع رواية «صالحة» لعبد العزيز المشري، فقد تأثر عبدالحفيظ الشمري كثيرا بقراءاته في مجال السرد، مما أثر إيجابيا على بنية الرواية، فبدت رواية خاصة بذاتياتها الرؤيوية والجمالية التي تحيل الى الشمري بوصفه روائياً جديداً في الخطاب السردي في المملكة.
|