لماذا اختارت الدكتورة نجمة ادريس أن يكون همها وابحارها صوب المبدع الدكتور «خليفة الوقيان» لأنه مبدع أم هو التزام بمبدأ تكريم المفكرين والمبدعين في حياتهم بعد أن مللنا التطنيب والتهليل عند ممات أي منهم أو منا.. وهي تؤكد بأنها لا تزعم البتة في هذا الكتاب الذي حمل عنوان «خليفة الوقيان دراسة في حياته وشعره» رغم التزامها بشروط البحث العلمي ومنهجيته وتقاليده الموضوعة والتوثيقية بأنها سعت إلى حمل ملامح الكتابة الابداعية وطموحاتها للخروج من طوق الصرامة والتقنين. ولكنها تقول وهل هناك ما هو أكثر اغراء من عوالم شاعر تفتح دهاليزها أمام فضول الكشف والمراودة؟ يقيني بأن الشعر سوف يظل أعصى الفنون الأدبية تمرداً على الترويض والقولبة داخل أحذية النقد الصينية وتتابع بأن ذلك الشاعر يظل دوماً في تأبيه وجموحه صهيلاً برياً لا ينتهي ولا يحد. وعلى النقد حينذاك وليس على الشعر أن يظل يلهث وراء هذا الفرس الجامح ليلتمس ما تبقى من آثار حوافره ليس إلا وهنا ينتهي الكلام بل تنتهي الحمم التي تقذفها نجمة الملجمة صمتاً والتي تكسر أسوار الجمود بين حين وآخر مشرقة بابداع لا يحد يظل ردحاً طويلاً من الزمن يبعث أضواءه في سماء الفن والفكر الذي يكون حينه ملبداً بالكثير من الغث الذي يصدعنا. على كل حال خليفة الوقيان شاعر كويتي مرهف يتخفى دوماً وراء عنفوان السكون والصمت وحين يطرح ديواناً له لابد أن يحمل شحنة من تفجرات الذات ولا بد أن تحمل أبياته قضية ما وتحمل قصيدة لها مضامين فكرية غير مسبوقة أو تناقش وتطرح حدثاً وقتياً أو حادثاً هز القلوب.. القصيدة لديه عين عدسة تلتقط لحظة التأزم وتؤطرها ضمن مسارات الحياة الجادة فلا وقت لدى الوقيان للتسطح ويمر سريعاً عند ترهات الآخرين.
وماذا يعني شعر خليفة الوقيان لديك حتى كان القرار بطرح هذا الكتاب الضخم المليء بكل الصدق. نعم ما كان شعر خليفة بالنسبة لي وأنا بصدد المقارنة والتأمل مخطوطاً كتابياً أو أحفورة أو تراثا، بقدر ما كان هاجساً للبحث عن الانسان المتخفي في تضاعيفه لأن الانسان في هذا المقام الاستشرافي هو الحياة ونبض العصر وعبق الأرض ولذة النضال ومشقة التحدي وقد وجدت كل ذلك متمثلاً في الوقيان الانسان والشاعر. ولعله من قبيل الامتنان أن ظروف معاصرة الشاعر قد حققت صلة نفسية مع مادة البحث وجعل التدرج في الدخول إلى عوالم الشاعر والانسان يواجه بالمنعطفات والدهاليز ومن شذراته وشظاياه كانت تعيد رسم شخصية البحث المتواجد دوماً لمد يد العون في اضاءة ما يخفى وما يصعب إدراكه.
نجمة تحمل كثيراً ضد النقد وتقول بأن المرحلة الحالية تتسم بشيوع الاضطراب في المقاييس النقدية وهذا يقود إلى قدر من الارهاب أو الابتزاز الفني ضد المبدع مما يقود إلى تطابق الأنماط وسد منافذ التنوع وبخاصة عند النقد الصحفي.. وربما قول نجمة هذا مرده لكونها باحثة أكاديمية جادة جداً تغوص في لب الموضوع المراد بحثة مستخدمة آليات وتقنيات متطورة وعصرية سواء في تكثيف الكتابة أو المنهج الفكري الذي تعتنقه كمثقفة ومبدعة وانسانة ترفض السلبيات وتسير في عملها ضمن منهجية علمية صارمة وواضحة لذلك يجدها الطرح المهمش والسريع وترفض استساغته رغم ما قد يحمله من جمال البساطة وعدم العمق. وتقول ربما هناك جانب أكثر إيلاماً وهو أن النقد الصحفي يعقد علاقة غير مشروعة بين الشكل الفني والموقف وليس المضمون والمؤلم أكثر حسب وجهة نظرها بأن ذلك التقويم غير المنصف يقود بالتالي إلى منح أصحابه أوسمة الفخار ليس بمقدار اقتراب تلك التجارب من ملامسة القضايا المصيرية بشكل لا يقبل التأويل واللبس بل بمقدار امتلاك أصحابها لأساليب المراوغة الفنية. وثمة خطيئة أخرى تدينها نجمة تلك حين يرتكب النقد المظلل حين يرفع من شأن أن التجارب التي تشيع الانسحاق القاتل واليأس المرير في الجماهير فتوهمها بأن كل شيء قد تداعى وأن الأمل في الخلاص قد تلاشى تماماً وفي وسط هذا التظليل غير الاعتباطي تقع الكثير من العناصر الممتازة في حبائل ما يظن أنه معاصرة فنية وهنا يتحول المبدعون إلى نسخ كربونية باهتة لأصول مشبوهة وبذلك يبتعد الشعر عن تأدية دوره المتوقع في خدمة قضايا الحياة.
الشعر الكويتي الذي نحن بصدده من خلال خليفة الوقيان تدافع عنه نجمة في اتهام أولئك الذين ينظرون إليه بضيق أفق لا يقيمون للخصوصية وزنا فيعتقدون أن الخلل يكمن فيه بينما الخلل في الواقع في معاييرهم النمطية وهذا القول ليس دفاعاً عن الشعر الكويتي بحسب الدكتورة نجمة ولكنه تنبيه إلى الابتعاد عن القوالب الجامدة التي استعبدت تفكير البعض وحجبت عنهم خصوصية التفرد الابداعي. ونجمة لم تزل تؤمن بجدوى القصيدة التي تعرف طريقها للمتلقي لتؤدي دوراً مؤثراً.
وحين تعود لصاحب الدراسة الوقيان تقول برغم أن السمة الغالبة على شخصيته تتمثل في كونه شاعراً في المقام الأول غير أن اهتماماته بالكتابة النثرية تظل ملمحاً مهماً في مسيرته الثقافية وله نظريات وآراء تتضح فيما ينشره من مقالات ودراسات في العديد من الصحف العربية والمجلات المتخصصة والدوريات وهذه أحد مرتكزين له وثانيهما الهم الاجتماعي وقضاياه وهذا المنحى وان ظل يحمل صبغة المحلية أيضاً هو مؤشراً على نبض الساحة العربية وعلى متغيراتها السياسية والاجتماعية كون الكويت جزءاً من اقليم يضج بالتحولات والأحداث مثل الارهاب الفكري وبهذا يكون الوقيان معرفاً بالمجتمع الكويتي المنفتح على آراء واجتهادات عالمية واقليمية عديدة.
في دراستها الثرية حول قصائد الوقيان وفكره تعترف نجمة بأنه بقدر ما تكون اللغة هي مادة الشعر وطينته الخام غير أنه لا محالة للدارس حين الاضطلاع بمهمة تقييم الشعر لأي شاعر ونقده ومهما تعددت مناهج الباحث يظل مرتبطا بمستويين من التعامل مع لغة الشاعر الأول يمس المحتوى الفكري أو المضمون ومدى تواصله مع آفاق التجريب والجدة أما المستوى الثاني فيمس الجانب التشريحي للغة الشاعر مفردته وخياله في محاولة لتقصي تجلياته الفنية بالنسبة للشاعر خليفة الوقيان فهو يمتلك لغة متطورة في بداياته اتسمت بالمراوحة بين التقليدية التراثية وتقليدية رومانسية أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. ولغة كلا المنحيين كانت بارزة في انتقاء المفردة ورسم الصورة العاطفية مع ايقاع نفسي مليء بالموسيقى الشعرية أما اللغة الموروثة فقد طرح من خلالها قصائد القومية التي تقترب من شعر الفخر والحماسة. وأما اللغة الرومانسية فقد ظلت توحي بالتفرد والتأمل ثم يأتي اندفاع الشاعر بعد ذلك نحو فضاء الهم العام والقضايا الاجتماعية بكل أشكالها وبدرجاتها المتعددة وبهذا شكَّل الشاعر لنفسه لغة جديدة وأداء فنياً في محاولة للخروج من مرحلة التقليد السابقة والبحث عن أدوات فنية مواكبة لروح القصيدة العصرية على الساحة العربية فطرح الشاعر قصيدة الشعر الحر «شعر التفعيلة» مثل بيروت والوداع ثم حاول الاستفادة من تقنيات القصة والحوار مستخدماً الديالوج والمونولوج والاسترجاع ولغة متطورة جداً لعل أول خاصية للغة الدكتور خليفة الوقيان الشاعر والأستاذ الجامعي وأحد مؤسسي رابطة الأدباء الكويتية في أنها تتمثل في حقيقة كونها قدرتها على مواكبة واستيعاب التغيرات الاجتماعية انها لغة مفكرة وواعية وتقدم التفكير المنطقي اليقظ في النص بشكل يقلص من مساحة اللغة الشعرية الذاهلة تلك التي تنبثق من دهاليز الغيبوبة واللاوعي. وهو أيضاً يزخرف نصوصه بالجدل المنطقي مستنداً على حجج واضحة والميل لايراد الحكمة والمثل أما النزعة الدرامية فقد بات اللجوء إليها من ملامح الشعر المعاصر منذ أن أصبح في نصوف الوقيان هناك زخم كبير من الصراعات مما يضعنا أمام بانوراما زاخرة بالمتضادات والمتناقضات إلى أن تصل بنا إلى قمة التنوير في نهاية النص عندما يأتي توظيف الشخصيات لتشكل نموا متصاعدا في سياق صراعها مع الظروف المحيطة بها لقد استخدم شخصيات عديدة مثل المخبر والحمار والمطارد وهي شخصيات يمكن ملاحظة انطوائها على كمية من اللؤم أو الاستسلام أو القسوة.. وقد اجتهد الشاعر أن يلتزم جانب الموضوعية في رصد المشاهد الحياتية ويبدو في النص حاضراً على مشارف الحدث، وثمة علاقة واضحة في شعر الوقيان تربط بشكل لافت بين العاطفة من جهة وبين الايقاع الموسيقي والمفردة والصورة من جهة أخرى والعاطفة والانفعال يبدوان بشكل شديد الحضور في نصوصه وخصوصاً عاطفتي الحزن والألم فهما عند الشاعر تصدران عن حاسة مرهفة يمضها التأمل في أوجاع الحياة ولكن الحزن يبدو أقرب إلى الانفعال الحاد واستفزاز فوري وعند الشاعر محاولات لتقصي الصورة بأسلوب إدراك عقلي يحوّل النص إلى لوحة تصويرية محتشدة بالتفصيلات العديدة والتي تنمو باطراد إلى أن تصل في نهاية آخر لمسة ريشة عند نهاية الأسطر ومن هنا يصعب اقتطاع جزء من النص لأن ذلك سوف يثلم التكامل والاطراد بالمعنى أن الخيال سمة بارزة في نصوص الشاعر الكويتي الوقيان وخصوصاً فيما يكتبه عن الكويت بشغف لا نهاية له بحيث تبدو القصائد مليئة بالحركة بمستواها النفسي والمادي والفكري والزمان هنا يبدو كعنصر مؤثر على وتيرة الصورة الممتدة في النصوص واستطاع عنصر المكان أيضاً أن يعكس ايحاءاته البعيدة ذات الصلة بالمخزون الثقافي والتاريخي للشاعر ويظهر ذلك بشكل تلقائي عند ايجاد القصيدة ويبدو في شعر الوقيان مظهر آخر لتشكيل الصورة ونعني به ظاهرة التوقيعات ويعتبر النقاد المحدثون أن القصيدة الجديدة مجموعة من التوقيعات النفسية تأتلف في صورة كلية وهذا شيء آخر غير ما يقال في بنية القصيدة الطويلة حيث ترتبط الأجزاء ارتباطاً عضوياً ينمو خلال الشعور أو الفكر ويتطور أما فكرة التوقيعات فشيء يرتبط بعملية التصوير أكثر من ارتباطه بعملية البناء وفي قصائد الشاعر نجد عدة مشاهد تكاد تنفصل بعضها عن بعض وبحيث كل مشهد يكاد أن يقوم بذاته.. ولأن الوقيان محتشد بالهم العام جعل وقوفه أمام مشكلات الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية من الشعراء الأقدر في التعامل مع أسلوب المفارقة في نصوصه الشعرية حين تجتمع الأضداد والمتناقضات لتدل بطريقة لاذعة على الواقع المتخذ في شكله النهائي سمت الهجاء ولا تخلو نصوص الدكتور الوقيان من الرمز والذي يقرب في صورته من الاستعارة والتشبيه البليغ مما يترك انطباعات لدى المتلقي موغلة في العمق على أن رحاب الرموز النفسية الموغلة في الغرابة والعذوبة تجعلها متصلة بالمنابع الأولى لخيالات بكر لم تبتذل بالحدود والتعريفات أن الشاعر عموماً قد أفاد من الفن السينمائي بشكل ملفت حيث القطع والوصل في المشاهد كما أن استطراده لا يخضع لترتيب منطقي شأنه في ذلك شأن تراسل الخواطر ويبدو الشاعر على مدى النص لاهثاً في جريانه بين أحداث متسارعة ومشاهد صاعقة فتمتلئ الصورة بالحركة والحيوية الجمالية وتجعل القارئ مشدود الأنفاس متعلقاً بنهاية الحدث حين تتبدى جماليات الصورة الشعرية التي تتجاوز حيادية الواقع واعتياديته نحو عوالم أكثر دهشة ولا تخلو نصوصه من منحنيات فلسفية حين يناقش دلالات الموت والحياة والحب المنسرب من قبضة الزمن ويبدو وكأنه متحلل من الخوف والانتظار والهواجس الممضة، وهذا يمثل منحى الشاعر في النظر للحياة والوجود ومظاهرهما ويمكن الاستدلال على تلك النظرة القانطة المستريبة في عموم نصوصه ان مفهوم المرأة والحب لديه والمطروح في سباق قصائده لا يشير بالضرورة إلى مدلولاته المباشرة إنما ظل في كل الميراث الشعري الانساني رمزاً غنياً من رموز التجدد والخصوبة وصورة من صور الانبعاث.
|