بعد زمن.. بعد زمن اعود لا لابني من الحروف دوراً، ولا من الكلمات قصوراً.. أعود بعد أن ترددت نداءات الاحبة في داخلي ليس لتوهج حرفي وعلو همته في الكتابة ترددت نداءاتها لكي اعود فاكتب كما كنت.. تساءلت الالسن وبحثت العيون المحبة عن حرف يوقع تحته باسمي.. اعود واكتب نزفاً أبكى قلبي وادمى مدادي.. أكتب موضوعاً ليس بالجديد ولا اظنه لغيري مفيد وانما هذه حال قلمي منذ ذلك اليوم الذي رحل فيه من كنت استقي منه حبر قلمي.. من كان درعاً واقياً يحميني من لسعات الدنيا.. من كان طوداً شامخاً في سماء الحب والحنان.
أبي اعاد قلمي ليكتب ويأبى إلا ان يكتب عنك.. عاد يا أبي وهو الذي ما فتئ يكتب اسمك حتى على خلفية (المحارم)! أكتبه على ما يقع بين يدي من اوراق وبأي مداد كان حتى بأقلام الاطفال والوانهم أكتبه! عاد قلمي ليكتب ليس لان العزم لقطع مفازات واسعة يحدوني لان امضي قدماً واكتب وانما لانفِّس عن نفسي اولاً وعن حرفي ثانياً.. عاد ليكتب لأجيب تلك النداءات فأقول: ها أنذا.. هاأنذا استل قلمي من غمده واكتب.. أكتب عن أبي فاعذروني إن لمستم تعدد الحزن في حرفي وبين سطوري..!
مذ كنت طفلة وأنا أرى فيك يا أبي الحكمة وحناناً عظيماً ليس كأي حنان ليس من باب (كل فتاة بأبيها معجبة) كلا وانما لأن حنانك لمسه كل أهل حارتنا رجالهم والنساء شيوخهم والاطفال فكنت الاب للاطفال والاخ للنساء والابن البار بشيوخهم.. كنت أراك مع من هم في سني وكأنك والدهم، فان غاب والده حملته على كتفك وغطيته (بغترتك) وذهبت به في سيارتك للمركز الصحي فتصرف له الدواء وتصف لاهله طريقة استعماله.. وحين اجوب ببصري في الحارة أرى الكثير (ينتخي) بشهامتك قائلاً: (جيتك يا أبو فهد) فما كان منك يا أبي إلا أن تقول :(ابشر بالخير) حتى وان لم يكن ذلك في يدك ولكنك دائماً تحاول..
أما عن شيوخهم فلن استطيع الوصف مهما اوتيت من قوة ومهما استجمع قلمي قواه يكتب عن عطفك عليهم.. سلي.. سلي (عزيزتنا) بقاع الحارة شبراً شبراً كيف كان يعاملهم ويلقاهم ب(هلا والله)! كيف كان يمسك بايديهم امساك الابن البار ويحادثهم حديث المتلهف لسماع والده.. سلي عنه المزارع وماذا كان يصنع لهم موسم الرطب وتكون النخيل.. سلي عنه الاضاحي وماذا كان يفعل بها.. سلي عنه المسافات البعيدة وكيف كان يقطعها ليلاً ونهاراً يذهب بهذا لاهله وينقل هذا للمستشفى وهذا كذا والاخر كذا.. سلي عنه الحارة وماذا كان يقدم لها حين ينقطع عنها الكهرباء أو تداهم المياه منازلهم.. سلي عنه ابتسامات الاطفال حين تقترن معها ضحكاتهم مداعباً هذا ومعلماً لهذا وفارداً كفه لاصبع هذا ثم يلفها في ضوء رائع واضعاً (غترته) على كتفه وممسكاً (بطاقيته) في يده الاخرى ثم يقول (نروح؟!!). أبي.. أبي لقد بكى قلبي وتقرحت اجفاني وشلت الحروف فوق لساني من فقدك افلا التقي بك يوماً؟
أريدك يا أبي أريد أن أراك.. أريد محادثتك والاستنارة برأيك.. أريدك يا أبي لتكون درعاً يحميني من هجمات الدنيا على قلبي ونهش المآسي له.. أريدك يا أبي لنستودع عند بعضنا اسرارنا كما كنا نفعل.. أريدك.. أريدك لابوح لك واحكي لك قصصاً نحن ابطالها كنت تطلبها مني.. أريدك يا أبي ففقدك سقاني كأساً علقماً مراً عجزت تجرع طعمه.. أريدك فأنت من لسعات الدنيا ظلال وعطائك يا أبي لا ينضب فعطاؤك أروع من تدفق الشلال..
أريدك لتكسر قيداً طالما قيدنا واعاق من حركتنا.. أريدك لتداوي خاطري الكسير وتجبر الجرح الخطير.. أريدك لتكون عوني بعد الله في استقبال القادم من النجاحات كنت تنتظرها مني وتسألني عنها.. أريدك يا أبي، الان العام الجديد حط رحله وهب العالم لاستقباله وتوالت التهاني من الاحبة لاحبابهم.. هذا العام الذي تردد في نفسي صدى جملتك وصوت زفرتك حين رحل عام 1420ه ودخل العام التالي :(الله من نفس بتموت فيه!) وكأن قلبك يحدثك برحيلك وهذا ما لمسته يا أبي أكثر من مرة! أريدك.. أجل أريدك لذاتك فأنت الحب وكل الحنان الابوي الذي فقدته منذ فارقت الدنيا للابد.. افتقدتك لانك العطاء والنور والضياء.. افتقدتك لانك الرحمة والحب العظيم.. افتقدك لان من يراني كان يقول لي :(هذي بنت محمد) افتقدك لانك بنيان من الرعاية والحكمة مرصوص.. افتقدتك يا أبي لانك جعلتني تاج قلبك فكم أسعدتني صداقتي بك وترحيبك (الخاص) والخاص جداً بي :(هلا بأمي)!
كنت صديقتك وابنتك وامك أفلا يحق لقلبي أن يفجع يا أبي برحيلك؟!! أريدك.. أريدك يا أبي فهل سألتقي بك يوماً؟!
عذراً للاحبة ان عدت للكتابة بنزف لا بعزف.. ان عدت وحبري دمي فكم وددت أن أكتب ولكن عجبي: أو كلما امسكت بالقلم اتراه لا يكتب إلا (محمد)؟! فعذراً لهم وليعلموا ان هذا ليس بيدي ولكن..! والعذر موصول لعزيزتنا وقرائها الافاضل فلربما أخذت مساحة كان غيري أحق بها مني ولكن ما أرجوه من كل من شرفني بقراءة حرفي أن يدعو لأبي ولوالديه وللمسلمين بالرحمة ويدعو بالرحمة لي بأن يجمعني بوالدي في مستقر رحمته وجزاه المولى خير الجزاء..
بنت محمد عزيزة القعيضب |