تعودت أن اتناول في هذا المكان قضايا رياضية.. او ماله صلة بالرياضة.. باعتبار «في منتصف الاسبوع» هي جزء من صفحات متخصصة في المجال الرياضي..، وأرى ان ما ليس له صلة بهذا المجال فإن مكانه صفحات أخرى على اعتبار التخصص وبحث القارئ عما يريد في المكان الذي يريد، وهذا ما دار بخلدي كثيراً منذ أن فرض الموضوع نفسه عليّ قبل بضعة أيام..، إلا انني في النهاية رأيت انه من المناسب طرحه هنا «في منتصف الاسبوع» لسببين:
** أولهما:
ان قارئ الرياضة اليوم ومتابعها لم يعد ذلك السطحي التفكير.. الذي تبهره العناوين ولا يبحث عن العمق.. وإن وجدت هذه الفئة لأسباب لا مجال لشرحها.. فإن هناك وهم كثيرون من سما بتفكيره.. وعمق رؤيته في نظرته للرياضة وما يطرح فيها.. ومن ثم متابعة هذا الطرح وتقويمه والتفاعل معه.
** ثانيهما:
ان الموضوع له علاقة بالشباب بطريقة أو بأخرى.. ونحن ندرك ان هناك علاقة بين الشباب والرياضة..، هذه العلاقة ليست علاقة جزء بكل فقط.. لكنها علاقة اهتمام ومتابعة.. وممارسة وهو ما يهمنا في هذا المقام..
هذه مقدمة كان لا بد منها، قبل الدخول في عالم «الصالح».. يوسف صالح..!
و«يوسف» هذا.. عاش عشرين عاماً من الغربة ربما زادت عن نصف عمره.. او عادلته لا أدري لكنها غربة طويلة..
وغربة «يوسف».. غربة قاسية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.. وما لا تحمله او تحتمله إن جاز التعبير.
لم تكن غربة وطن.. ولا غربة أهل.. انها «غربة الذات».
وقسوة هذا النوع من الغربة وصعوبته.. انها غربة وطن رغم العيش فيه..
وغربة أهل رغم التواجد معهم..
وغربة صحب بالرغم من الجلوس اليهم..
غربة.. فيها حب لهذه الذات وكره..
وعشق لهذه الذات ومقت..
وتدليل لها.. وكبت..!!
و«يوسف».. هذا.. لم يكن.. ولن يكون وحده الذي عاش هذا النوع من الغربة..، لكن ما يميز يوسف انه استطاع ان يبحث عن ذاته وان يحققها.. وان يثبت عليها.. ويكيف هذه الذات لمرحلة جديدة.
كثيرون بحثوا مثل يوسف عن ذواتهم وحقوقها.. لكن مشكلتهم في انهم لم يتملكوا الآلية التي تجعلهم يحافظون على هذا المكتسب او ان مجتمعهم.. وربما ذويهم.. لم يكن لديهم الرغبة.. أو القدرة على الانتظار في محاولة للوقوف معه على خط واحد.. ومن ثم الانطلاق معه في مشوار الحياة.!
يوسف أيها السادة كان يمتلك سلاحين فاعلين.. عرف كيف يستخدم.. كلاً منهما في الوقت المناسب لتطويع ذاته.. وفتح الطريق أمامه للدخول في هذا المجتمع.. حتى فرض نفسه عليه..!
أول السلاحين إيمان بالله..
وثانيهما ثقة بالنفس..
و«يوسف» كغيره ممن عانوا هذه الغربة فقد تحدث عن مرارة التجربة.. لكنه أي يوسف تميز بأسلوبه في الطرح.. وطريقته للتناول.. حيث رسم منهجاً واضحاً.. وخططاً أكثر وضوحاً ليس فقط لهؤلاء المغتربين للعودة من غربتهم.. ولكن ايضاً للمجتمع بصورة عامة.. في كيفية التعامل مع هؤلاء لضمان عودتهم، ومن ثم العيش بأمن وسلام.. بدلاً من العودة لهذه الغربة مرة أخرى.. حيث يصعب الخروج منها!.
يوسف أيها السادة وارجو ان تكملوا القصة.. وان لا تتوقفوا بمجرد معرفتكم لهويته فهو يختلف عن غيره..
يوسف هذا.. هو «يوسف صالح..» كان «وكان فعل ماضٍ ناسخ» مدمناً.. وصار «صار من اخوات كان وتدل على التحوّل» مؤمناً.. صالحاً.. يعمل في مستشفى الأمل في الدمام لارشاد المدمنين والخروج بهم من غربتهم.. بطريقة مختلفة..
واعتقد انني قد قرأت مقابلة صحفية معه.. لكنها لم ترتق أسلوباً وطرحاً.. أو تؤثر فيّ مثلما أثرت فيّ بضع دقائق من ساعة كاملة استمعت الى يوسف فيها.. مساء الاربعاء الماضي.. عندما قدمه مشكوراً سعادة الدكتور عبدالله بن محمد الفوزان في برنامجه الناجح «من الأعماق» الذي يبث في السابعة مساء من أيام «الأحد الى الاربعاء» عبر إذاعة ال«mbc fm».
لقد تمكن الدكتور عبدالله بحكم تخصصه في علم الاجتماع.. وثقافته الواسعة ان يرسم ليوسف الكثير من الخطوط ويفتح له آفاق الحوار.. واستطاع جمهور المستمعين عبر مداخلاتهم تهيئة الأرضية التي ينطلق منها يوسف لتلك الآفاق..، وتمكن يوسف من خلال هذا كله ان يتفوق على ذاته وعلى كثير من أصحاب الشهادات العليا.. والتخصصية.. في أسر ذهنية المستمع وتقديم تجربة حقيقية عبر لغة واقعية يفرضها المنطق والواقع..، ولأنني استمعت الى البرنامج من منتصفه.. فاصدقكم القول وانا اسمع ليوسف بأنني ظننت المتحدث اكاديمياً متخصصاً نظراً لسلاسة الأسلوب وعمق الطرح..
لقد تجاوز الدكتور عبدالله وضيفه الكريم يوسف.. إطار ما يطرح عن الإدمان.. فلم تكن مجرد استضافة لشخص مر بتجربة.. جاء ليروي ابعادها وان التائب كمن لا ذنب له.. ودعوة المجتمع للتعامل معه.. إلخ، بل ان «يوسف» شخّص الداء.. والدواء.. لكيفية التعامل مع هذه النقطة بالذات.. حيث ركز حديثه على نقطتين: الأولى:
ان المدمن يطوي المسافات سفراً قاصداً.. ويتكبد المشاق مالياً.. وبدنياً.. وذهنياً بحثاً عن المخدر.. في حين أنه يستطيع ان يصل الى «بوابة الأمل» سيراً على الأقدام.. بل ربما مر بها في سفره نحو المجهول!! دون ان يعيرها أدنى اهتمام.
الثانية: ان الأهل والمجتمع وعن غير قصد يلتمسون العذر للمدمن ويهيئونه له عندما يلمحون عليه بعض علامات التغير دونما محاولة للبحث عن سببها الحقيقي «تعبان ما نام البارح.. عينه حمراء من السهر.. الخ» فيستثمر المدمن هذه الاعذار، ومن ثم يبدأ العزف عليها لتبرير أفعاله!!.
انني متأكد ان بعضاً ممن كانوا يعتقدون إما لتخصصهم او لغيره ان وعيهم قد وصل الى مرحلة يستطيعون من خلالها التعامل مع المدمن.. قد اكتشفوا بعد استماعهم لتلك الحلقة أنهم لم يؤتوا من العلم في هذا المجال إلا قليلاً!!.
وقبل ان اختم.. وبالمناسبة.. اشير هنا الى برنامج يقدم من الإذاعة والشاشة نفسها في السابعة من مساء كل سبت يقدمه الدكتور الفاضل الشيخ سعد البريك ويناقش فيه كثير من القضايا المتعلقة بالدين والحياة.
لقد بتنا في مجتمعنا السعودي خاصة، وفي المجتمع العربي والإسلامي على وجه العموم بامس الحاجة لمثل هذه البرامج الحوارية الجادة التي تخاطب العقل. والتي اثبتت نجاحها من ناحيتين:
أولاً: التفاعل مع هذه البرامج سواء من خلال كثافة الاتصال والمداخلات.
ثانياً: كثافة الإعلانات، ونحن نعرف ان المعلن يحسبها بدقة، إذ أنه يبحث عن القناة التسويقية التي تضمن له أكبر قاعدة من الجمهور المستهدف.
** ويخطىء من يظن ان مستمع اليوم هو الباحث فقط عن دغدغة المشاعر.. عبر الموسيقى الراقصة.. والفيديو كليب.. الخ.
وإن كان هذا المستمع موجوداً.. فإن ذلك المستمع الذي يجلس على الطرف الآخر من قطر دائرة البث هو الأكثر.. وان «الدغدغة» يمكن الحصول عليها.. والاستمتاع بها في أي وقت وبسهولة ودون جهد.
أما البرامج الحوارية المخاطبة للعقل فإنها تحتاج لجهد ذهني أكثر.. ومن ثم فإنها ذات تأثير في النفس أكبر.. لان ما يخرج من القلب يستقر في القلب.. أما ما يخرج من اللسان فإنه لا يتجاوز الآذان.
والله من وراء القصد.
|