Thursday 28th March,200210773العددالخميس 14 ,محرم 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

نوافذنوافذ
«الصناعتين»
أميمة الخميس

«الصناعتين» هي عنوان كتاب«لأبي هلال العسكري»، ويعني بالصناعتين الشعر والنثر، حيث كتبه في عصر لم يعد به كل من الشعر والنثر إلهاما وإيحاءات تقال وتكتب كلما عنت على الخاطر أو لربما تستجلبان من وادي عبقر كلما أذنت شياطين الشعر بذلك.
ولكنه هو يعني بانتقالهما إلى مرحلة الحرفة والصناعة التي تلتزم التفكر والانتظام والمهارات الأساسية للحرفة التي لابد أن يتمتع بها صاحب هذه الصناعة لكي يسيطر عليها ويسخرها لحاجته ويخلصها من مزاجية مردة الشعر والفن وشياطينه!!
فتحول الأدب العربي إلى الصناعة كان منذ عصور مبكرة، لاسيما وأن طبيعة التنظيم السياسي كانت تتطلب هذه الحرفية بإلحاح، حيث الأديب يكون مطلوبا دائما سواء كنديم في البلاط أو ككاتب في الدواوين. هذا جميعه عجل في صناعة مؤسسة أدبية لها شروطها وبرتوكولاتها لانها التي تصقل الأديب وتشحذ أدواته، ومع حالة الانحطاط العام التي أحاطت بالحضارة العربية كان الأدب أحد الفنون التي اصابها العطب والمرض، وافتقدت روحها ونبضها الحقيقي لتغرق في المزخرفات والمنمنمات والخزعبلات اللفظية التي راجت بين كتبة الدواوين، فقضت على المشروع الأدبي الكبير الذي كان قد أخذ في التبلور في العصور العباسية.
على كل حال ما أريد أن أصل إليه من هذه المقدمة هو علاقة الأدب بالحرفة أو المهنة ومدى تأثير كل منهما على الآخر في ظل اتجاه قديم يؤكِّد بأن الحرفية من الممكن أن تطفئ جذوة اللهب الفني ولهيبه وتحوله إلى حالة من الانتظام البارد الخالي من الروح، ولابد أن هذا الاتجاه هو وليد الفروسية القديمة التي كانت تجد في الشعر أحد مكملاتها، وأحد الأدوات التي يتقلدها الشاعر في ظل كرِّه وفرِّه في ساحات الوغى، وبالتأكيد في ظل هذه الأجواء فسيكون الشعر انفعالا آنيا مؤقتا لايخضع للصناعة أو الحرفية كما يقولون قدر ما هو جيشان عاطفي خاضع للحظة، وهذا يقودنا تماما إلى فكرة وادي عبقر ومصادر الإلهام الغامضة الخاطفة التي تأتي على حين غرة دون تهيئة مسبقة، ولابد أن آثار هذه اللحظات الغامضة مابرحت مخبأة في وجدان العديد من الشعراء في عصرنا الحاضر حيث تقرأ أحيانا في مقابلاتهم بأن قصائدهم قد أدهشتهم بعد الانتهاء من تدوينها حيث كانوا في حالة من الغيبوبة الفنية لحظة تلقيهم لأبيات القصيدة، وبما في المقولة نفسها من شطحات فإنه قد يقابلك على الجانب الآخر ذلك النوع من الأدب المنتظم المسؤول المجدول الذي يجعل من الأدب صناعة خاضعة للسيطرة والمهارة المسبقة، فالشاعر المعاصر محمود درويش يقول:«استيقظ صباحا وأظل برفقة الورقة البيضاء الفارغة، وحتما سيكون هناك بضعة أسطر سأكتبها إما من قصيدة أو مقال في مجلة أوجزء من دراسة.. لكن سيكون هناك كتابة لإانني أدرك!، الباعث على الكتابة هو الرغبة في العثور على تعويض ما عن خسارة شيء لايسترد بغير الكتابة، حين أخسر الحب أو الوطن أو الوقت أو المشهد الجميل استرجعه بالكتابة وأسترجع علاقتي بما ينهار من عالمي».
فالكتابة لدى درويش بنيان مأوى يقي من تقلبات الدهر ونوائبه، وهي هدف ملحُّ لابد من صقله وتوقعه والتذرع به وله، الكتابة في العصر هذا العصر الذي تزركشت به الجدران بالساعات والأوقات لم تعد تنهمر عفو الخاطر، ووفق ما يجلبه وادي«عبقر» للفنان.
الأديب العالمي نجيب محفوظ له نظام روتيني يومي في غاية الدقة لامساحة به للعبثية وتقلبات المزاج، وهذا النظام بالضبط مامكنه من القدرة على الانتاج بصورة خارقة، الكتابة عموما صناعة وحرفة يجب أن يكرس لها الكاتب جل أوقاته وماسوى ذلك فهو عبث وتحايل على صناعة الأدب.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير إدارة المعلومات
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved