كم هو رائع أن نجد من المسؤولين متابعة واعية لما يجري في السَّاحة الصَّحفية من مناقشات ومحاورات حول القضايا الثقافية والعلمية والأدبية، وتكمن روعة هذه المتابعة في كونها تأتي بالرغم من كثرة المشاغل التي تكاد تلتهم وقت المسؤول الكبير كله، ولا شك أن حرص المسؤولين على متابعة ما تسطِّره الأقلام أمر مهم جدا لأنه يحقق مصلحة عظيمة للناس، حيث يعرف المسؤول ما يطرحه الناس من أفكارهم ومشكلاتهم وقضاياهم مباشرة، ويبني على هذه المعرفة ما يصدره من تعليمات ويتخذه من قرارات فتكون أقرب الى الصَّواب وإلى تحقيق المنفعة.
إن ولي الأمر الذي يحرص قدر استطاعته ان يطلع على أحوال الناس عن قرب، وأن يباشر بنفسه معرفة المشكلات والقضايا التي تشغل أذهان عامة الناس، يرفع عن نفسه تبعات النتائج التي تحدثها الصور المقلوبة التي تنقل الى المسؤول أحيانا بعيدة عن الواقع.
وأبوفهد «سلمان بن عبدالعزيز» رجل ذو رؤية ثقافية واضحة، وصاحب اهتمام يدركه من يعرفه يما بطرح ويناقش من قضايا عقدية أو فكرية أو اجتماعية أو أدبية، يقرأ ويتابع ويناقش مناقشة تدل على أنه يطلع بنفسه اطلاع الحريص على معرفة الموضوع المطروح بأبعاده جميعها، وهنا يحق لنا ان نسجل لأبي فهد هذه الصفة، ونشيد بهذا الحرص على معرفة ما يجري عن قرب، ونؤكد له ان المسؤولية العظيمة الموكلة اليه والى كل من يحمل عبء المسؤولية من رجال هذه الدولة المباركة تجعل أسلوب المتابعة لما يطرح ويناقش أسلوبا أمثل لمعرفة الحقائق، وطريقا أقصر لاتخاذ القرار الصائب، ولتكوين الرأي المناسب.
إن القضايا التي تطرح وتناقش هذه الأيام كثيرة، فالعالم اليوم يعيش في دوامة من الأفكار والمذاهب والآراء، وتبرز فيه معالم «صراع حضاري» كما يقولون، وأنا أسميه «صراع عقائد» يتخذ أشكال الحوار والمناقشات حول الثوابت والأسس التي تقوم عليها كل ثقافة من الثقافات «المتصارعة» ونظراً لأهمية هذه المرحلة عالميا فإن كل أمة مسؤولة عن قيمها ومبادئها، ومطالبة بترسيخ هذه القيم والمبادىء، فكيف إذا كان الأمر متعلقا بالمبادىء التي يتضمنها أصدق منهج وأصح دين على وجه الأرض «دين الاسلام».
ومن القضايا المهمة التي تطرح الآن في وسائل الاعلام المختلفة قضية «المناهج التعليمية» وبعد طرح قضية «الارهاب» طرحا مركزا جدا في جميع المنابر السياسية والاعلامية في العالم.
والذي يعنينا هنا هو « الأقلام العربية والإسلامية» التي تشارك في هذه المناقشات حول قضية المناهج، لأنها تكتب من داخل الأمة، ولأنها تعرف حقيقة مناهجنا التعليمية والأسس التي تقوم عليها.
وإذا كان العالم الاسلامي كله يتعرض لهجمة اعلامية غربية تمس شريعة الاسلام بصورة مباشرة، وتركز على مناهج التعليم من زوايا مختلفة أبرزها زاوية «العلاقة بين هذه المناهج وبين الارهاب» بزعمهم.
فإن المملكة العربية السعودية تتعرض بحكم مكانتها الاسلامية لهجمة اعلامية غربية خاصة في موضوع مناهج التعليم.
أما الأقلام العربية والاسلامية التي تناولت الموضوع فهي لا تخرج عن اتجاهات ثلاثة:
1 اتجاه يدافع عن مناهجنا التعليمية دفاع من لا يرى أن يطرح حولها رأي للتغيير ولا للتطوير أو التجديد ويرى ان كل دعوة الى تجديد أو تطوير تنطوي على خطط خفية تهدف الى تغيير المناهج ونسف الأسس التي تقوم عليها.
2 اتجاه يرى ضرورة تغيير هذه المناهج تغييرا جذريا، ويرى ان الهجمة الغربية محقة في طرحها القاسي، وان المناهج التعليمية في البلاد الاسلامية جامدة متحجرة، وداعمة للارهاب بصورة من الصور.
3 اتجاه يرى ان مناهجنا التعليمية لم توضع عبثاً فهي مدروسة دراسة وافية، وهي قائمة على أسس سليمة وإلا لما كانت قادرة على تخريج مئات الأفواج من العلماء والمفكرين والقادة، ولكن هذا الاتجاه لا يرى بأسا مع ذلك في اعادة النظر في بعض جوانب المناهج، وتجديد أساليب بعضا، وتطويرها.
ونظراً لما قرأته من بعض الآراء المتطرفة في نقد مناهج التعليم لبعض كتابنا الذين يمثلون غالبا دور الكاتب الغربي المتحامل سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، وهي آراء تكون بعيدة عن الحق والموضوعية فيما تطرحه، وتحمل المناهج في بلادنا الاسلامية مالا تحتمله من تربية «تفريخ» الفكر الارهابي كما يزعمون.
نظرا لذلك جاش الصدر بالقصيدة التي نشرت في جريدة الجزيرة الصادرة يوم السبت 25/12/1422ه بعنوان «رسالة عتاب من حسناء».
إن من أجمل ما صنعته هذه القصيدة أنها أتاحت لي الاستماع الى حديث صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وهو حديث رجل مسؤول متابع لما يطرح حول هذا الموضوع.
ولأن أبا فهد قارىء متابع متميز في قراءته ومتابعته، وهو ما يدركه من يتسنى له الحديث معه في قضايا المجتمع والثقافة والأدب، فهو يعرف أبعاد ما يدور من مناقشات حول موضوع المناهج.
ولهذا كان حديثه في هذا الموضوع مهما، وكان طرحه هنا أكثر أهمية. قال لي معلقا على القصيدة «رسالة عتاب من حسناء:
«ألا تشعر أن طرح موضوع المناهج التعليمية قد جنح الى المبالغة إعلاميا؟».
إني أشعر أن هذا الموضوع قد ضخم بدرجة كبيرة لا تخدم القضية، ولا تقدم حلا مناسبا، إننا لم نتلق أي طلب من أي أحد بتغيير المناهج، ولسنا في المملكة العربية السعودية ممن يطيع أحداً كائنا من كان في شؤوننا الخاصة بديننا وفكرنا وثقافتنا، فنحن كيان مستقل قائم على أسس ثابتة من شريعة الاسلام، وهذا أمر يعرفه العالم كله وتتعامل معنا جميع الدول على أساسه.
وقال: ان موضوع المناهج طُرِح في وسائل الاعلام من قبل كُتَّاب مختلفين وضُخِّم حتى صدق بعض الناس أنه قضية خطيرة جدا، وان الآراء المطروحة فيها من قبل المعادين لها أصبحت قيد التنفيذ، وشبه سموه هذا الأمر بما روي عن «أشعب» أنه لما تكاثر عليه الصبيان يمازحونه أراد ان يصرفهم فزعم ان في بيت فلان وليمة كبيرة وحثهم على الانطلاق الى ذلك البيت، وانطلق الصبيان مصدقين ما زعمه أشعب، فلما رآهم منطلقين نحو ذلك البيت ساوره الشك في الأمر، وقال: ربما يكون ما قلت لهم صحيحا فانطلق وراءهم مصدقا زعمه، ولاشك انه سيعود خائبا حينما يرى الحقيقة، فسلمان بن عبدالعزيز يرى أن الأمر مضخَّم إعلاميا، ويرى ان مناهجنا التعليمية قائمة على أسس سليمة ثابتة ولكنها ليست في طريقة طرحها، وأساليب عرضها منزهة عن التطوير والتجديد المناسب ويرى ان هناك نوعين من المناهج:
1 المناهج الدينية ومناهج اللغة العربية والعلوم الانسانية وهذه لا قبول اطلاقا للتغيير في مادتها وفكرتها القائمة على شريعة الاسلام، ولا نلتفت الى آراء من يرى غير هذا، ولكن التجديد والتطوير لبعض أساليبها وطرق تقديمها أمر ممكن.
2 المناهج العلمية المتعلقة بالرياضيات والعلوم الحديثة وهذه بحاجة الى تطوير مستمر وتغيير مناسب يواكب التقدم الهائل الذي يحدث في هذا الجانب كل يوم بل كل ساعة ودقيقة.
وهنا أقول : إن الموضوعية القائمة على حرصنا جميعا على مصلحة بلادنا وأمتنا وعلى حفظ معالم شخصيتنا الاسلامية المتزنة الواعية تؤكد ان ما طرحه سمو الأمير سلمان هو الرأي الوسط الأمثل الذي ينادي به المنصفون والمخلصون من رجال العلم والتعليم من قبل هذ الضجة الاعلامية التي قادها بعض كُتَّاب الغرب الحاقدين على المسلمين، أو البعيدين عن فهم موضوع «المناهج» عندنا فهما صحيحا، وأيدهم مع الأسف بعض الكتاب من أبناد العرب والمسلمين.
وقد أشرت في هذا المقال الى الاتجاهات الثلاثة التي تحكم تناول موضوع المناهج، وبالرجوع الى الاتجاه الثالث منها ندرك انه الاتجاه الموضوعي الذي يتبنى رأيا وسطاً بين مبالغة الرأيين الآخرين.
إن حديث الأمير سلمان بن عبدالعزيز في هذه القضية حديث مسؤول يعرف حقيقة ما يجري من مناقشات، وهو يؤكِّد ان كل أمة لها مناهجها المنسجمة مع فكرها وثقافتها، والمنطلقة من عقيدتها ومبادئها، ونحن نؤكد ان لمناهجنا علاقة قوية بديننا، وهي مناهج حضارية راقية لا علاقة لها أبداً بالارهاب كما يزعم بعض المغرضين أو المخدوعين من الكتِّاب والصحفيين، وحديث سموه يوحي بما نقوله دائما من أن مدارسنا وجامعاتنا لا تعرف العنف ولا الارهاب، ولم نسمع ولله الحمد بأن طالبا دخل الى مدرسته وأخذ يطلق النار عشوائيا على أساتذته وزملائه كما حدث عشرات المرات في الغرب، ومناهجنا تعلم الأخلاق السامية والتعامل الطيب الذي يأمر به الدين الاسلامي.
ومع ذلك فلا بأس من التطوير لطرائق المناهج بصفة عامة ومن التغيير في المناهج العلمية الحديثة بما يواكب التقدم العلمي، مع أننا نشير الى أهمية الحذر من بعض الفلسفات الالحادية التي تقف وراء بعض النظريات العلمية البحتة فنحن نعلم ان هنالك مناهج علمية كالأحياء والكيمياء وغيرها تقوم عند الغرب على نظرات مادية بحتة وعلى فلسفات بعيدة عن الايمان بالله وربط كل ما في الوجود به. وليست نظرية «داروين» عنا ببعيد.
وأقول: ما أجمل الرأي الموضوعي القائم على ادراك أبعاد المصلحة العامة للأمة والمجتمع والفرد، وما أحوج بعض كتابنا ممن شطحت أقلامهم أن يكونوا على هذا المستوى من الطرح الموضوعي الهادف، وما أجدر الكتَّاب غير المتخصصين بالبعد عن مناقشة مالا يحسنون مناقشته. إن كثيراً من القضايا الفكرية والثقافية والعلمية المطروحة للمناقشة تعاني من تدخل الكتاب الذين لا ناقة لهم في الموضوع ولا جمل.
وأخيراً..
تحية صادقة الى أبي فهد «سلمان بن عبدالعزيز»
وتحية صادقة إلى كل قارىء واعٍ، وكاتبٍ منصف.
|