لا يكاد الإنسان العربي عامة والفلسطيني بصفة خاصة ان يصدق عينيه وهو يقرأ ما تنشره الصحف وخاصة الإسرائيلية منها هذه الأيام من تقارير
وشهادات صادرة عن طبقة من المثقفين الفلسطينيين الذين يفترض ان يكونوا ضمير هذه الأمة، وهم يتسابقون في تشويه تاريخ نضال وجهاد الشعب الفلسطيني!.
فمن إدانة المقاومة ووصفها بالإرهاب، مروراً بتحريم العمليات الاستشهادية واطلاق صفة القتلى على منفذيها بزعم ان ضحاياها من المدنيين الأبرياء، إلى تصفية حق العودة للاجئين الفلسطينيين، واعطاء ذريعة للعدو الإسرائيلي للاستمرار في حرب تدمير المخيمات!!.
الدكتور سري نسيبة خليفة المرحوم فيصل الحسيني في ملف القدس أحد هؤلاء «المثقفين» الذي كان سباقا في عرض مشروعه السياسي التصفوي عام 1985م بالطلب من الفلسطينيين الكف عن حق العودة، وعن النضال ضد الاحتلال، والتوجه بطلب حملة الجنسية الإسرائيلية وبالتالي الاندماج أو الذوبان في المجتمع الإسرائيلي!!.
وفي عام 1986م أثار غضب الفلسطينيين حينما دعاهم إلى المشاركة في انتخاب رئيس بلدية القدس التي تعد من الناحية القانونية واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967م، أي ببساطة حث أبناء شعبه على افتراض انه منهم إلى الاعتراف بشرعية الاحتلال، والتسليم بعملية تهويدها، وتثبيت وضع رئيس بلديتها الصهيوني!!.
ومنذ ان تسلم نسيبة «ملف القدس» في اكتوبر الماضي بعد أشهر قليلة من وفاة فيصل الحسيني، توالت تصريحاته التنازلية التي يتطاول فيها على المقدسات والمحرمات الفلسطينية طمعاً في إشادة للسفير الأمريكي في إسرائيل ورئيس بلدية القدس وبعض الوزراء الإسرائيليين المعجبين بصراحته وجرأته..!
فقد ألقى خطاباً في الجامعة العبرية يقول فيه انه «لن يعم السلام ولن تقوم دولة فلسطينية إلا إذا تخلى الشعب الفلسطيني عن مطلبه بالعودة إلى دياره، وان الانتفاضة الملطخة بالدماء هي حالة من التشنج وليست ثورة شعبية!!» كما دعا الشعب الفلسطيني إلى الاعتراف والاقرار بالروابط التي تربط اليهود بالأقصى وهو ما يسمونه ب«جبل الهيكل»!!.
«وصفت صحيفة معاريف الإسرائيلية سري نسيبة بالسنونو الذي يبشر بالربيع في أوج الخريف، فهو يحرص ان يحلق ذقنه كل صباح، وشفتاه لا ترتجفان وهما تبشران بإنجليزية طليقة عن تخليه عن حلم العودة!!».
ومع اشتداد الهجمة العسكرية الصهيونية على أبناء شعبنا، ولجو العدوء الصهيوني لشتى أشكال العدوان الوحشي، وشتى أشكال القمع الإرهابي الهمجي من تدمير منهجي للقرى والمخيمات، وفرض للحصار الخانق حول القرى والمدن الفلسطينية مع استخدام كافة أسلحة القصف والدمار والقتل والابادة لارغام الفلسطينيين على الرضوخ، والاستسلام والتفريط في الأرض والديار أو الهجرة من وطن الآباء والأجداد، ومع تواصل الفلسطينيين في ضرب المثل في الصبر والثبات والصمود والذود عن الأرض والعرض، وظهور الأبطال من بين أبنائه الذين رفعوا راية الجهاد، وأبوا إلا ان يردوا الصاع صاعين، في اصرار على الثأر للمئات من الأطفال والنساء والشيوخ الذين امتدت إليهم أيدي وأسلحة العدو الصهيوني، ومع شعور هذا العدو بالهزيمة، أبى نسيبة إلا ان يكون معول هدم في يد العدو، فقد وعد نسيبة الإسرائيليين بالعثور على شخصية دينية بارزة تفتي بتحريم استمرار الانتفاضة وتدين العمليات الاستشهادية.
الدكتورة حنان عشراوي عضو المجلس التشريعي الفلسطيني أصدرت قبل سنوات كتابا بعنوان «هذا الجانب من السلام» على هيئة مذكرات تحدثت فيها عن كفاحها المزعوم من أجل شعبها، رغم ان أربعة ملايين من هذا الشعب الذين يعيشون في المنفى «وهم تقريباً ثلثا الشعب الفلسطيني» لم يستحقوا الذكر في كتابها، أما الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين فقد أشارت إليهم في إشارتين سريعتين فقط.. ففي الإشارة الأولى تحدثت عن «أم يوسف» شغالة الأسرة العجوز التي تعيش في مخيم الجلزون، وفي الثانية تخبرنا عشراوي عن الوقت الذي كانت تقوم فيه هي وأخريات من الموسرات بالعمل في المخيمات يعلمن الفلسطينيات على درجة الوعي لديهن!.. ولسوء الحظ فإن عشراوي التي ينقصها الإدراك الثاقب لديناميكية الصراع الفلسطيني، لم تستطع ان تقنع القارئ العربي لمذكراتها التي أصدرتها باللغة الإنجليزية بأنها واحدة من نفس المناضلين الفلسطينيين الذين تحتم عليهم تحمل آلام النفي في صمت منذ عام 1948م، أو الاحتلال منذ عام 1967م، حتى الأمريكيين التي وجهت كتابها إليهم اندهشوا من أنهم وضعوها بين زمرة الفلسطينيين الكادحين!..
بعد ساعات قليلة من العملية الاستشهادية للبطل رأفت سليم أبو دياك من جنين الصامدة في مدينة أم الفحم التي اعترف العدو الإسرائيلي نفسه بأنها أسفرت عن سقوط سبعة جنود إسرائيليين قتلى وعشرات الجرحى، أعلنت عشراوي بأنها ترفض العمليات «الانتحارية» الفلسطينية التي تستهدف الإسرائيليين، مؤكدة بأنها قالت ذلك منذ البداية انه «حتى إذا استباح الجيش الإسرائيلي دم الأبرياء من أبنائنا لا نفعل ما فعلوه أبداً بنا..!» وأضافت بأنها «لا تعتقد ان كل إسرائيلي مجرم أو انه متواطئ في الاحتلال..!!»، وتناست عشراوي ان الإسرائيليين قتلوا 200 فلسطيني وجرحوا 1500 آخرين في عشرة أيام فقط!!.
ولتأكيد النقص لدى عشراوي في ادراكها السياسي بطبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي كانت في يوم من الأيام المتحدثة الرسمية باسم الوفد الفلسطيني لمفاوضات السلام أكدت بأن شارون يريد ان يجر الفلسطينيين إلى معركة على أرضه.. لذلك فهي تدعو إلى مقاومة سلمية غير عسكرية!!.
لم نسمع طوال التسعة عشر شهراً السابقة من عمر الانتفاضة كلمة ادانة واحدة من عشراوي ضد الجرائم الإسرائيلية بحق أبناء الشعب الفلسطيني الذي يفترض ان تكون هي الأخرى منهم ، وبدلاً من تلاعبها بالكلمات كنا نتمنى ان تذهب عشراوي لتعزية عائلة زينة العواودة التي قتلت مع أطفالها الثلاثة وابن اخيها في عبوة ناسفة زرعها العدو الإسرائيلي، أو عائلة الاسطل التي فقدت خمسة من أطفالها بقذيفة إسرائيلية وهم في طريقهم إلى المدرسة حيث لم تتمكن اطقم الاسعاف من التعرف على هويات الأطفال الذين تناثرت أشلاؤهم على الأشجار، إلا من خلال حقائبهم المدرسية، أو عائلة سمير أبو زيد الذي استشهد مع طفليه بقصف صاروخي على منزله، أو ان تذهب إلى رمز المرأة الفلسطينية السيدة أم نضال فرحات التي ودعت ولدها محمد وقبلته وطلبت منه ألا يعود إلا شهيداً، والسيدة أم نبيل حلس التي فعلت مع ابنها محمد ما فعلته أم نضال لكي تقدم لهما التهنئة باستشهاد فلذات أكبادهما، أو ان تتفقد مخيمات الصمود بلاطة ورفح وجنين وخان يونس والأمعري وجباليا والعزة وجميع المخيمات الفلسطينية التي تعرضت للتدمير وحرب ابادة فتقول لأبناء المخيمات ان شارون يريد ان يجرنا إلى ملعبه، فلا تعطوه هذه الفرصة!!، نأمل ان يصفق لها أهالي الشهداء بإعجاب، وان يتحلق حولها أمهات وأطفال المخيمات لتبجيلها كمثقفة تجيد قراءة السياسة العالمية، وتعرف ما لا يعرفه هؤلاء البسطاء الجهلة من الوعي السياسي!!.
عشية زيارة انطوني زيني بعد العمليات البطولية لرجال المقاومة الفلسطينية التي حققت توازن الرعب مع العدو الإسرائيلي نشرت الصحف العبرية بياناً وقعته مجموعة من المثقفين الفلسطينيين، يصفون فيه انتفاضة الأقصى وعمليات المقاومة «بالعنف»!!، والموقعون هم: ياسر عبدربه وزير الثقافة والإعلام، وحنان عشراوي عضو المجلس التشريعي، والشاعر محمود درويش وسميح القاسم، وحنا ناصر رئيس جامعة بيرزيت، جورج حقمان، فؤاد المغربي، سليم تماري، حسن خضر، علي الجرباوي، مضر قسيس، اصلاح جاد، صالح عبدالجواد، ممدوح نوفل، يحيى يخلف، سميح شبيب، ريما حمامي، سعاد العامري، حسين البرغوثي، عزت الغزاوي، فيصل الحوراني، جميل هلال، زكريا محمد، سمير رنتيسي.
وقد هاجم الأكاديميان الفلسطينيان عادل سمارة وأحمد أشقر الموقعين على البيان ووصفوهم بالمأخوذين بفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، وانهم بتصرفهم هذا انما يطعنون الأمة في خاصرتها، ويبايعون الاحتلال على أربعة أخماس فلسطين من خلال تجاهل الحديث عن الأرض المحتلة عام 1948.
واعتبر الاكاديميان ان أولئك المثقفين قد تربوا على وعد بلفور، وانعزلوا عن الأمة بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وانهم انتهوا إلى أحضان المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة.
وقد وصف الأكاديميان المجموعة الموقعة على البيان بوكلاء الثقافة الغربية الرأسمالية العنصرية ووكلاء رأس المال، وان تلك الفئة لا علاقة لها بتوجهات وطموحات الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يصرون على المقاومة كخيار وحيد في وجه الصلف والاستكبار الصهيوني، وان أحداً من أبناء الشعب الفلسطيني الصامد لم يخول تلك الفئة التوقيع باسم الشعب ككل، وباسم الأمة العربية ككل.
وقالا «من الذي خول هؤلاء «المثقفين» التوقيع باسم الشعب ككل؟، وباسم الأمة العربية ككل؟، هل هذه ثقة بالنفس، أم خلل في الفهم، أم دور مرسوم؟ من يفعل هذا، وجيش العدو يميت الحوامل على الحواجز، ويدخل غرف نوم المواطنين ويقتل الشباب بالعشرات، ويدمر كل أخضر من الزيتون إلى النعناع؟».
واعتبرت الشخصيتان الفلسطينيتان ان توقيت البيان واصداره جاء مع بداية جولة من المفاوضات، فاختاروا هذا التوقيت ليطعنوا الشعب والأمة في الخاصرة.
وأضافا «ولأنهم أذكياء أيضاً، يدركون ان هذه أفضل ضربة لتوجيه طعنة أكثر تأثيراً، فهم يريدون من السياسي «قبل يومين من عودة العراب الأمريكي زيني» ان لا يرفع سقفه بسبب تضحيات شعبنا، ويريدونه ان لا ينسى اوسلو ان يتقيد بالتسوية كما تريدها المؤسسة الأمريكية الحاكمة».
وتساءلت الشخصيتان الفلسطينيتان عمن قام بتغطية تكاليف نشر البيان المذكور على صفحة كاملة في الجريدة الصهيونية، وقالا: من أين لهؤلاء بعشرات آلاف الدولارات لتغطية كلفة النشر، أهي من أموال الشعب، من الذي دفع، أم ان الصحيفة العبرية كافأتهم فنشرته مجانا باعتباره تكملة لوعد بلفور؟.
وقد هاجم الاثنان عدداً من الموقعين على البيان المذكور بالاسم، فوصفوا بعضهم بمنظري التسوية وعرابيها في الشتات «ادوارد سعيد وفؤاد المغربي»، أو من امتداداتهم في الوطن «سليم تماري» أم من الذين انفصلوا عن قيادة م.ت.ف والسلطة الفلسطينية «محمود درويش وياسر عبدربه وسميح شبيب وممدوح نوفل»، وجميعهم مما يسميهم ادوارد سعيد بالبديل الفلسطيني قيد التبلور، أي البديل لكافة فصائل النضال الوطني، البديل للتحرير وحق العودة وعروبة القضية!.
وأكد أشقر وسمارة ان هذا الأمر ليس بغريب، ففي لحظة الاشتباك الأعنف، ينقسم المثقفون إلى فريقين: الأكثرية تشارك في النضال، وقلة تستخدم الهزيمة وتدعو للتنازلات المذلة..!! وكأن هذه التنازلات تؤدي إلى تحرير الأوطان!..
إن هذا «الطابور الخامس» من هؤلاء المثقفين يعلم تماماً ان تحرير الأوطان لا يتم عبر نشر بيانات الاستسلام والتنازل في صحف العدو، أو المسيرات التي يتخللها الانبطاح على الطريق في وجه الدبابات تارة، والرقص أمام هذه الدبابات تارة أخرى، أو حفلات التنزه في القوارب ونحن نلبس الملابس المزركشة، أو من خلال حفلات شواء السمك مع أصدقائنا الإسرائيليين، أو التلطي خلف رضا السفارة الأمريكية في تل ابيب، وإلا لكان الدكتور مبارك عوض داعية اللا عنف في الانتفاضة الأولى والذي اعتقله العدو الصهيوني ثم نفاه خارج وطنه هو رئيس للسلطة الفلسطينية الآن!!.
في هذا الزمن الرديء الذي أصبح الجهاد فيه جريمة، والاستشهاديون ارهابيين، وأصبح مجرم الحرب «رابين» شهيداً للسلام، لم يكن مستغرباً ان يخرج علينا هؤلاء المثقفون الذين من المفترض فيهم ان يشكلوا ضمير الأمة، أصبحوا يشكلون «طابوراً خامساً»، ومعول هدم بيد العدو الصهيوني، ويساهمون في دحر الأمة واذلالها، وباتوا خطراً كبيراً على القضية الفلسطينية، ومن الواضح ان أعدادهم تتزايد مع قدوم أي مبعوث أمريكي إلى الأراضي الفلسطينية، وهم يتسابقون ويتبارزون في النفاق والتدليس والتنازلات من أجل كسب المناصب والرضا، انهم يفتقرون للوعي والادراك السياسي رغم قدرتهم على الرطانة باللغة الإنجليزية، فلم تحفزهم الثقافة والعلم لتحقيق إنجازات حقيقية لشعبهم الذي يرزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، ففضلوا المتاجرة بدماء شعبنا وقضية أمتهم ووطنهم.
كاتب وصحفي فلسطيني الرياض |