في 15 اغسطس عام 1952 سقطت عالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى بسيارة من أعلى قمة جبلية بولاية كاليفورنيا الأمريكية، فارتطمت بقوة في واد عميق من ارتفاع يقدر بحوالي 400 قدم فتوفيت العالمة المصرية في الحال، بينما قفز المرشد الهندي الذي كان بصحبتها في السيارة قبل الحادث بثوان .
وكان المرشد الهندي قد اصطحب الدكتورة سميرة موسى الى أحد المفاعلات النووية في ضواحي مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، وقيل ان إدارة المفاعل النووي الذي كان مقرراً ان تقوم بزيارته هي التي كلفته بإرشادها الى طريق الوصول الى مكان المفاعل، وبينما كانت سميرة موسى تمر بسيارتها في طريق جبلي ظهرت أمامها فجأة سيارة نقل كانت مختفية عند احد منحنيات الطريق لتصطدم بسيارتها بقوة، وتسقط من أعلى الجبل فيما قفز المرشد الهندي واختفى، وكانت المفاجأة عندما كشف التحقيق في الحادث ان ادارة المفاعل الذي كانت عالمة الذرة المصرية في الطريق لزيارته، لم تكلف احدا بإرشادها الى طريق المفاعل واعترفت الصحف الأمريكية بأن الحادث كان مدبراً.
هذا ما يقوله كتاب «اغتيال العقل العربي» لمؤلفه عبدالله بلال مستنداً الى عدد من الشهادات والوثائق من بينها شهادة الكابتن جميل عارف التي يؤكد فيها ان الفاعل في مقتل الدكتورة سميرة موسى هو الموساد الإسرائيلي، ذلك المستفيد الوحيد من هذا القتل المأساوي المدبر في حادث فاجع لعالمة مصرية ذات عقل متوهج كانت تنوي ان تقدم لبلادها فتحاً جديداً يحول دون احتكار الاسلحةالذرية للدول العظمى فقط، وعلى رأسها امريكا التي ساهمت مع انجلترا وفرنسا بالنصيب الأوفر في تجهيز وتمويل وإنشاء المفاعل النووي الإسرائيلي ومن بعده تلك المفاعلات الاربعة التي تمتلكها الدولة اليهودية الآن.
والكتاب الذي صدر عن دار الأمين يضع حادث قتل الدكتورة سميرة موسى في سياق من المقدمات التي تفضي الى نتائج منطقية، فلم يكن حادث اغتيال الدكتورة سميرة موسى هو الوحيد الذي ينفذه الموساد ضد علماء الذرة المصريين والعرب، وإنما تبعته عمليات أخرى لا تقل في اجرامها عما حدث لسميرة موسى منذ نصف قرن.
ويأخذنا الكتاب في سياق هذه المقدمات الى السيرة الشخصية والعلمية لهذه الفتاة العبقرية سميرة موسى، والتي ادرك الموساد انها مقدمة على أمر في منتهى الخطورة، بعد نجاحها المذهل علمياً في كسر احتكار القنبلة الذرية، وذلك بتوصلها الى تصنيعها من معادن رخيصة متوفرة لدى جميع دول العالم، ومنها بلدان العالم الثالث، ولهذا كانت تستحق القتل من وجهة نظر الموساد لأنها مقدمة علي تدمير فكرة التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي في السلاح على جميع دول العالم العربي مجتمعة.
ولم تكن سميرة موسى قد توصلت الى ما توصلت اليه بطريقة مفاجئة، او عفو الخاطر وانما هو حصاد رحلة طويلة من الكفاح والتفوق والتحصيل والتأمل والتفكير، ليس في نظريات العلم وادواته فقط، ولكن ايضا في الوطن الذي كان يرزح تحت احتلال مستعمر انجليزي يستذل ابناءه ويعوق نموهم وتقدمهم.
ولدت النابغة سميرة موسى في 3 مارس عام 1917م لأسرة من الطبقة المتوسطة في قرية سنبو الكبرى مركز زفتي محافظة الغربية، وعندما ابدت الفتاة تفوقاً غير عادي، نزح والدها الحاج موسى علي بأسرته الى القاهرة ليكمل تعليم ابنته النابغة كما يليق بها وفي القاهرة اشترى الوالد فندقاً في حي الحسين كان يدر عليه دخلاً معقولاً بالاضافة الى الدخل الذي كانت تدره الأرض الزراعية في القرية، وهكذا عاشت الأسرة حياة مستورة في رحاب الطبقة المتوسطة المصرية.. كانت الدنيا حرباً، فها هي الحرب العالمية الأولى لم تضع بعد اوزارها عندما ولدت سميرة موسى، ولكن بعد ولادتها بعامين اشتعلت الثورة المصرية عام 1919م بقيادة سعد زغلول، وهكذا نمت بواكير وعيها الأولي على اخبار الحركة الوطنية في اتون معركتها ضد المستعمر الانجليزي، من اجل الدستور والجلاء والديموقراطية، كان سعد زغلول يفاوض الانجليز وطلعت حرب يؤسس بنك مصر، ومحمود مختار يصنع تمثال نهضة مصر، وعلي مصطفى مشرفة «استاذ سميرة موسى» يحصل على اول دكتوراه في العلوم الطبيعية من انجلترا، وكانت هدى شعراوي تؤسس مع نبوية موسى «استاذة سميرة موسى فيما بعد» الاتحاد النسائي المصري وكان سيد درويش يمصر الموسيقى ويغني «انا المصري كريم العنصرين».. في هذا المناخ المتأجج بالوطنية تفتح وعي الطفلة النابغة سميرة موسى التي دخلت مدرسة قصر الشوق الابتدائية، كانت ناظرة المدرسة هي نبوية موسى المناضلة الجسورة ضد المستعمر والتي تعهدت سميرة بالتربية والرعاية، وفي عام 1933م قررت الطالبة المتفوقة ان تؤلف كتاباً في «الجبر» وفعلاً كان لها ما ارادت وأصدرته على نفقتها الخاصة ووزعته مجاناً على طالبات الثانوية العامة بتشجيع من والدها ذلك الرجل الذي كان قوة الدفع الأولى في حياتها.
وفي عام 1935 حصلت سميرة موسى على الشهادة التوجيهية وكانت الأولى على القطر المصري، والتحقت حسب رغبتها بكلية العلوم جامعة فؤاد الأول «جامعة القاهرة حالياً» و.
كان عميد الكلية هو الدكتور علي مصطفى مشرفة العالم المصري وتلميذ انيشتاين الذي كان اول عربي يحصل على درجة الدكتوراه في العلوم من جامعة لندن، ها هو الدكتور مشرفة يعود الى جامعته ويتدرج في وظائفها الى ان يصبح استاذ كرسي الرياضيات، ثم عميداً للكلية ويصر على تعيينها معيدة بالكلية رغم اعتراض الكثيرين لصغر سنها.
وتحصل سميرة موسى على درجة الماجستير في «التواصل الحراري للغازات» ثم الدكتوراه في انجلترا في «خصائص امتصاص المواد لأشعة x» ويسجل استاذها الانجليزي شهادة رسمية بنبوغها قائلاً: «ان تجارب سميرة موسى قد تغير وجه الإنسانية لو انها وجدت المعنوية الكافية»، اما هي فتصب اهتمامها بالكامل في مجال الأبحاث الذرية ويغريها استخدام الذرة في المجال السلمي وبالذات علاج السرطان، وفي الوقت ذاته تتوقف مذهولة أمام البرنامج النووي الإسرائيلي الذي بدأت اسرائيل العمل فيه بعد اعلان قيامها المشؤوم عام 1948م بشهور قليلة، ان اسرائيل تنفق اموالاً طائلة وتستقطب الطاقات العلمية وتجند الخبرات الدولية في مجال الذرة من اجل اتمام برنامجها المتفوق في الوقت الذي كان فيه العرب بالاجماع يغطون في نوم عميق بينما تستعد اسرائيل للتفوق عليهم جميعاً بل تستعد ان لزم الأمر لإبادتهم جميعاً..
قد أثار هذا كله حفيظة الدكتورة سميرة موسى فأعلنت عن مؤتمر دولي لتوجيه واستخدام الأبحاث الذرية في المجالات السلمية لخدمة البشرية وليس لإبادتها، وفعلاً عقد المؤتمر في جامعة القاهرة وعندما تلقت دعوة عام 1951 من الولايات المتحدة الامريكية طبقاً لبرنامج فولبرايت النووي تصورت انه سيتاح لها اجراء أبحاث ذرية جديدة في إحدى الجامعات الأمريكية تستطيع من خلالها ان تتسلح بخبرات جديدة لخدمة بلادها، ولكن سبق السيف العزل، وكانت يد الموساد اسبق فاغتالتها في ذلك الحادث المأساوي المروع.
ولم تكن سميرة موسى هي المطاف في مسلسل اغتيال الموساد لعلماء الذرة المصريين والعرب، فقد تلا ذلك اغتيال العالم المصري احمد الجمال في حادث سيارة ايضا في الولايات المتحدة عام 1967، ومن بعده نبيل القليني الذي اختطفه الموساد في تشيكو سلوفاكيا في 27 يناير 1975 ولم يظهر حتى الآن، ثم تلاه اغتيال الدكتور يحيى المشد في يونيو 1980 في غرفته بفندق المريديان بباريس حيث كان يشرف على البرنامج النووي العراقي وأخيراً اغتيال العالم سعيد سيد بدير في شقته بمدينة الاسكندرية.
ان قصة سميرة موسى كما يقدمها هذا الكتاب هي نقطة البداية في سلسلة اغتيال العقل العربي في اعلى مراحل تقدمه العلمي، وهي قصة التربع الصهيوني الدائم بمفردات هذا العقل لاستئصالها من لحظة الولادة، لكنها في النهاية قصة يمكن ان توقظ ما تبقى حياً في نفوسنا حتى لا يقع في شراك الأعداء.
فتحي عامر |