شارك د. عبدالله العسكر بورقة في ندوة (الاسلام وحوار الحضارات) حيث ألقى ورقته المعنونة ب(الجدل الديني في الاندلس سمة من سمات الحوار الحضاري) في الجلسة الأولى التي عقدت صباح أمس.
ويتحدث د. العسكر في ورقته عن الجدل الديني في الاندلس حيث يقول بهذا الخصوص : الجدل الديني بين معتنقي الديانات السماوية او غيرها سمة من سمات حوار الحضارات، بل هو يأتي في الذروة من بين موضوعات كثيرة يدور بشأنها التحاور والمناظرة، ذلك أن لاشيء حقاً يفرق الأمم شيعاً وفرقاً متنافرة مثل معتقدات بعض الفرق الدينية التي تنحو منحى التطرف والعنف، من هنا جاءت مقولة (إن أكثر المناظرات صعوبة هي ماتتعلق بالدين او المذهب) ولعل مصطلح «التعصب» عند اطلاقه دون تقييد لايذهب الا للتعصب الديني الضيق، ومع هذا يظل الحوار الديني هو المفتاح الحقيقي لمعظم المشكلات التي عرفها وعاناها المسلمون في حياتهم، والحق ان الحوار الاسلامي اليهودي النصراني او ما يعرف الآن بحوار الاديان هو ما اختاره المسلمون الاوائل في الاندلس كطريق للتعايش السلمي، ومن ثم كطريق للدعوة الدينية، دعوة على قائمة الاقناع والاقتناع، وهو ايضاً طريق سلكه المتحاورون كمدخل حيوي لتحاور الثقافات المختلفة، وهو ما ولد حضارة اسلامية اندلسية، تعتبر بحق حضارة انسانية ارست مبادئ ما نُطلق عليه اليوم اسم «حوار الحضارات».
جاء في القرآن الكريم عدة آيات بينات عن الجدل والمحاورة منها {وكان الانسان اكثر شيء جدلاً} ومنها {وكّانّ لّهٍ ثّمّرِ فّقّالّ لٌصّاحٌبٌهٌوهٍوّ يٍحّاوٌرٍهٍ أّنّا أّكًثّرٍ مٌنكّ مّالاْوأّعّزٍَ نّفّرْا} [ الكهف: 34 ] وكذلك {قّالّ لّهٍ صّاحٌبٍهٍوهٍوّ يٍحّاوٌرٍهٍ أّكّفّرًتّ بٌالَّذٌي خّلّقّكّ مٌن تٍرّابُ ثٍمَّ مٌن نٍَطًفّةُ ثٍمَّ سّوَّاكّ رّجٍلاْ} [الكهف: 37] وأيضا {قّدً سّمٌعّ پلَّهٍ قّوًلّ پَّتٌي تٍجّادٌلٍكّ فٌي زّوًجٌهّاوتّشًتّكٌي إلّى پلَّهٌواللَّهٍ يّسًمّعٍ تّحّاوٍرّكٍمّا إنَّ پلَّهّ سّمٌيعِ بّصٌيرِ } [المجادلة: 1] وكذلك {هّا أّنتٍمً هّؤٍلاءٌ حّاجّجًتٍمً فٌيمّا لّكٍم بٌهٌ عٌلًمِ فّلٌمّ تٍحّاجٍَونّ فٌيمّا لّيًسّ لّكٍم بٌهٌ عٌلًمِواللَّهٍ يّعًلّمٍوأّنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ} [آل عمران: 66] وكذلك {يّوًمّ تّأًتٌي كٍلٍَ نّفًسُ تٍجّادٌلٍ عّن نَّفًسٌهّاوتٍوّفَّى" كٍلٍَ نّفًسُ مَّا عّمٌلّتًوهٍمً لا يٍظًلّمٍون} [النحل: 111] وقوله تعالى {إنَّ پَّذٌينّ يٍجّادٌلٍونّ فٌي آيّاتٌ پلَّهٌ بٌغّيًرٌ سٍلًطّانُ أّتّاهٍمً إنً فٌي صٍدٍورٌهٌمً إلاَّ كٌبًرِ مَّا هٍم بٌبّالٌغٌيهٌ } [غافر: 56] وأخيراً {\دًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ بٌالًحٌكًمّةٌوالًمّوًعٌظّةٌ پًحّسّنّةٌوجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ} [النحل: 125] بل إن السورة الثامنة والخمسين في القرآن الكريم تدعى «سورة المجادلة» لهذا لا يستغرب احدنا ان يجادل الانسان اخاه الانسان في امور كثيرة ومنها الامور الدينية، فالجدل صفة انسانية لازمة، وهي سبيل من سبل الحوار وتبادل الثقافات وتلاقحها، وهي سبيل من سبل الدعوة الى الحق، يقول الامام الغزالي في هذا الصدد:ان الجدل منازعة بين متفاوضين لتحقيق الحق وابطال الباطل، والمتصفح للعدد الكبير من الآيات التي تأتي في كلمات الجدل او الحوار يستخلص ان الجدل القرآني يشترط عدة عناصر اساسية لقيام الجدل واستقامته وهي: شخصية المتجادلين او المتحاورين، خلق الاجواء المواتية للجدل، المعرفة بموضوع الجدل، واخيراً اسلوب الجدل واكاد اجزم ان المجادلين المسلمين توفرت لهم تلك العناصر.
وموضوعنا في هذه الورقة هو الحديث عن الجدل الديني بين الديانات السماوية الكبرى (اليهودية والنصرانية والاسلام) الذي وقع في الاندلس في القرون الثلاثة الهجرية للاندلس الاسلامية (القرون الرابع والخامس والسادس) وتزعمه طائفة من علماء المسلمين، ومثلهم من رهبان النصارى وأحبار اليهود، والحق يقال ان تلك المجادلات انتجت علماً كبيراً اتخذ له فيما بعد مسمى «علم مقارنة الديانات» وهو علم مازال يلقى قبولاً في اوساط الدوائر الاكاديمية المعاصرة، وان كان لأندلس الاسلام ان تفخر بأشياء، فلا شك ان الحوار الحضاري الذي تم على ارضها بين الشعوب العرقية والدينية يأتي في مقدمة ماتفخر به وتزهو.
ضم المجتمع الاندلسي طوائف وأعراق متعددة وهي التي كونت اللحمة الاجتماعية والثقافية التي ميزت الاندلس عما جاورها من بلدان اوروبية، يأتي على رأس تلك الطوائف: المسلمون وهم خليط من العرب والبربر والموالي من اصول فارسية وبيزنطية والمولدين، ثم النصارى وهم خليط ايضاً من سكان البلاد الاصليين ومن عرقيات اوربية مثل الصقالبة، ثم اليهود وهم قلة ولكنهم شكلوا قوة ثقافية وجدلية.
وكانت الحياة الفكرية والعلمية في الاندلس في القرون الرابع والخامس والسادس توصف بأنها قرون العلم الحق، والفكر النيّر، وحرية التعبير، مع بعض الانتكاسات التي عرفتها الاندلس في بعض فترات تاريخها وطالت الحرية العلمية والفكرية، وهي انتكاسات تعتبر شذوذاً عن القاعدة، ولا أدل على ذلك مما قام به المنصور بن ابي عامر عندما أنشأ «ديوان الندماء» وكانت مهمته العناية بالشعر والاحتفاء بالشعراء، ومثل ذلك يُقال عن ملوك الطوائف الذين شغفوا بالعلم وكانوا انفسهم علماء وادباء، وانتشرت في الاندلس دور العلم والمكتبات في المساجد والكتاتيب وذكر المقري، ربما نقلاً عن ابن حزم في كتابه: جمهرة انساب العرب، في كتابه «نفخ الطيب» ان للحكم المستنصر (ت:366ه) مكتبة في قرطبة تحوي ما لايقل عن 000.400 مجلد.
ولم تمنع الحروب التي اشتد اوارها بين المسلمين والنصارى وخاصة في القرن السادس الهجري من استمرار الحوار الحضاري بين اصحاب الديانات السماوية الثلاث، فكان لايكاد يمر عام الا وتشهد الاندلس صراعاً مسلحاً بين المسلمين واصحاب مختلف الطوائف النصرانية، ولعل تاريخ قرطبة معقل العلم والفكر في الاندلس خير من يمثل المدينة التي عاشت ويلات الصراع المسلح بين المسلمين والنصارى، ولكنها في الوقت نفسه تزخر بالعلماء المسلمين الذين يناظرون ويجادلون الطوائف الاخرى، ولكن الجدال والمناظرة تقف عندما يشتد الصراع المسلح، ويأخذ السيف مكان القلم، ويسود الحقد النصراني، لدرجة القيام بالتخريب والدمار وحرق الكتب والنهب كما حدث لقرطبة عام «540ه» حيث عاث الجنود النصارى في الحي الشرقي لقرطبة ومزقوا المصاحف واحرقوا الاسواق، وكان مثل ذلك العمل مدعاة للتنديد من قبل علماء النصارى المعتدلين فيما بعد امثال المؤرخ الالماني يوسف اشباخ الذي دان ذلك العمل.
لم يعرف علماء الاندلس المسلمون الجدل والمناظرات في العقود الاولى لدخول المسلمين شبه جزيرة ايبيريا وذلك راجع لتفرغ المسلمين لمهمة توطيد السلطة الاسلامية، وراجع ايضاً لعدم اتساع معرفة الاسبان باللغة العربية معرفة تخولهم الاطلاع على الفكر الاسلامي، اما بعد استقرار العرب، وشيوع اللغة العربية بين المستعربين والمسلمين الجدد، فقد شهدت الاندلس انصرافاً قوياً من الشباب الى الثقافة الاسلامية واللغة العربية لدرجة اطّراح ما عداهما من معارف، وفي هذا الصدد ما ابلغ شكوى الأسقف ألفارو alvaro أسقف قرطبة من انصراف الشباب الاسلامي عن اللغة الاسبانية والثقافية النصرانية.
دخل علماء المسلمين في الاندلس في تحاور حضاري رفيع المستوى لا من حيث الاسلوب فقط، ولكن من حيث المنهج والمعاني والموضوعات المطروقة التي غطت ميادين دينية وفلسفية عديدة، وقد انطلق المتحاورون من كل الطوائف الدينية لتحقيق اهداف معلومة للكل، وينبغي الاعتراف ان الاسلام كعقيدة وشريعة وتطبيق هيأ الأرضية المناسبة لمثل ذلك التحاور الحضاري، فكما هو معروف لم يطلب الاسلام من الاسبان الذين دخلوا فيه الا التلفظ بالشهادتين لقاء تمتعهم بكامل الاهلية الاسلامية، وترك للذين اختاروا البقاء على دياناتهم السابقة حرية الدين والشريعة والحكم ولم يتعرضوا لسواد النصارى فضلا عن ساداتهم، وفوق ذلك فان المسلمين استعانوا باليهود وهم الطائفة المضطهدة من قبل القوط النصارى وولوهم المناصب العليا وقربوا المتعلمين منهم، فاستوزر عبدالرحمن الناصر والحكم الثاني الطبيب الهيودي حسداي بن شبروط (945 970م) واستوزر الأمير حبوس في غرناطة الاديب اليهودي المعروف: اسماعيل بن النغريلة صاحب كتاب (القصص اليهودي) وصاحب اكبر مكتبة شخصية في الاندلس.
لقد تعامل المسلمون مع نصارى الاندلس بتسامح كبير ولقد تمتع رجال الدين المسيحي بحرية دينية، وسُمح لأسقافة النصارى بعقد مؤتمراتهم الدينية (وأغلبها مخصص للتبشير) في المدن الاندلسية الكبيرة مثل المؤتمر الديني الذي عقد في قرطبة عام 582م، ومؤتمر أشبيلية عام 872م، وغني عن القول ان الحكومة الاسلامية سمحت للنصارى بتشييد العديد من الكنائس، وكان بعض فقهاء المسلمين في الاندلس يتخذون من النصارى مساعدين لقضاء حوائجهم ولا يجدون في ذلك غضاضة، فقد ذكر الطرطوشي ان الفقيه ابن الحصار استعمل جاره النصراني على قضاء حوائجه ومنافعه.
بل وصل بعض النصارى الى مناصب عالية في الحكومة الاسلامية، فقد استوزر المقتدر بن هود (ت: 474ه» ملك سرقسطة ابو عمار بن غند شلب النصراني وفعل مثله محمد بن عبدالرحمن الاوسط (ت: 273ه) الذي صار كبير الكتبة عنده: قومس بن انتنان النصراني، وهو الذي جعل من يوم الاحد اجازة رسمية للدولة.
إذن يمكن القول ان الجو السياسي والديني والعلمي الذي اظل العلماء في الاندلس كان مهيأ لانطلاق اكبر تحاور حضاري عرفته اوربا في تاريخها القديم والوسيط، والفضل كما قلت يعود للحكومة العربية الاسلامية التي رسخت قولاً وعملاً منهج التحاور العلمي واشاعت جواً من الحرية الفكرية تمتع بها الكل، وقد درس الدكتور خالد السيوطي الجدل الديني في الاندلس، واستخلص اهم الاهداف التي سادت الجدل الديني، وهي بدورها تُعتبر من سمات التحاور الحضاري بين الديانات السماوية في الاندلس.
من تلك الاهداف استعمال الجدل الديني في الاندلس في عصور عديدة من قبل المتحاورين من اجل الدعوة الدينية من قبل المسلمين، وللتبشير الديني من قبل النصارى، وقد ابان تجادل اصحاب الديانات عن روح التسامح السائد بين المتجادلين من علماء المسلمين وعلماء اهل الكتاب، ولعل ذلك راجع للتقاليد العلمية التي اشاعها المسلمون حكاماً وعلماء ومنها حرية التعبير والاعتقاد الديني لكل الطوائف والملل.
وقد بيّن الجدل الديني الدائر آنذاك مقدار احترام الاسلام والمسلمين للرأي والرأي الآخر، وهذا الملمح يُعد بحق رافداً من روافد الحضارة الاسلامية التي عرفت التعددية في العقائد والمذاهب والافكار والرؤى، وكما هو معروف في الاسلام فإن الاختلاف سنة من سنن الله في الكون، ولعل من اكبر ثمار الجدل الديني ما توصل اليه المسلمون عقلياً وما اقر به بعض علماء اهل الكتاب المنصفين فيما بعد من ان كثيراً من عقائد أهل الكتاب السائدة آنذاك يفتقر للبرهان المقبول، وقد اعترف بذلك بعض علماء النصرانية، وردت تلك الاعترافات مبثوثة في مؤلفاتهم الجدلية، فيذكر الصفي بن العسال في كتابه: «الصحائح في جواب النصائح) ان العقائد النصرانية غير برهانية، وينقل عن بولس الرسول مقولته المشهورة: «لم أبشركم بحكمة الكلام لئلا يتعطل صلب المسيح» وفي هذا القول الأخير ما يُغني عن الاسترسال من بعض العقائد النصرانية لاتصمد امام الجدل العلمي.
|